
تحولات الفردانية والعنف| تنميط الشعوب بهويات مُتخيَّلة
في فيلم البحث عن سيد مرزوق، سمع يوسف كمال/نور الشريف وهو يمشي في مظاهرة صوتًا يهمس له بأن يرجع إلى منزله، ففعل، وظل في عزلة بين البيت والعمل لمدة 25 عامًا، لا يعرف شيئًا آخر عن العالم. إلى أن ذهب يومًا إلى عمله ليكتشف أن اليوم عطلة، فيبدأ رحلةً مع عالم لم يعهده، رحلة بحث عبثية عن احتياجاته الطبيعية والمتوهّمة.
هذه الحالة التي ناقشناها في المقالات السابقة من هذه السلسلة، من اغتراب وانعزال وفردانية متفاقمة، لا تتوقف عند حدود الأفراد، بل تنعكس على الممارسات الفكرية والاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا. فعندما يخرج يوسف من جزيرته المنعزلة، يحاول أن يخوض في البحر بحثًا عن جزيرة أخرى يظن أنه سيجد فيها حاجاته، لكنه لا يجد أحدًا. يتناسى أن وجود مجتمع ينتمي إليه ويكون جزءًا منه هو أحد احتياجاته الأساسية.
هذا المأزق الوجودي، الذي يجعل الإنسان يرى ذاته مكتفية في العزلة أو مكتملة في النفي، يُنتج حالةً من الارتباك تتجلى في موضوعين مترابطين؛ الاندماج والهوية. ففي سعي الأفراد للتميّز أو النجاة أو حتى الانفصال عن المجموع، تتشكل تصورات متوهمة عن الذات الجمعية، وتُختزل الهويات.
أزمة الاندماج
يُشير مفهوم "التضمين" أو "الاندماج الاجتماعي" إلى أحد أبرز التحديات المرتبطة بالتنمية السياسية، إذ لا يمكن الحديث عن ديمقراطية فعلية أو تنمية شاملة دون ضمان فرصة مشاركة لجميع فئات المجتمع في الشأن العام على قدم المساواة. فالاستبعاد الاجتماعي على أساس الطبقة أو النوع أو الدين أو العرق أو السن يُضعف النسيج الاجتماعي ويقوّض فرص التعايش، كما يؤدي إلى هشاشة سياسية تعجز عن توليد توافقات وطنية أو بناء مؤسسات تمثل الجميع.
من هنا، يصبح الاندماج الاجتماعي شرطًا أساسيًا لأي مشروع سياسي يسعى نحو العدالة والاستقرار والتنمية. ويشترط مفهوم "التضمين" أو "الاندماج الاجتماعي" لتعزيز الفرص والقدرات للأفراد والمجموعات المهمشة أو المستبعدة اجتماعيًا، بهدف دمجهم بشكل عادل وفعّال في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
يتسق هذا الطرح مع تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا/إسكوا 2020 الذي أكد على أن إدماج الفئات المهمشة في بعض البلدان العربية يتطلب إزالة الحواجز الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمنع الأفراد من الوصول إلى الفرص المتساوية.
في ظل النظام الاقتصادي السائد، فإن حالة الفردانية التي تسود اليوم تتناقض مع هذا المفهوم بشكل كبير، حيث يساهم النظام في تعميق الانقسامات الاجتماعية وتقليص فرص الاندماج، وهو ما حذر منه عالم الاجتماع زيجمونت باومان في كتابه الحياة السائلة، فالتضمين الاجتماعي يقتضي ضمان فرص متساوية في التعليم والسكن والرعاية الصحية، وهي القضايا التي تتأثر بشدة في ظل السياسات الرأسمالية الراهنة.
في المنطقة العربية، نجد أن هذه السياسات تساهم بشكل رئيسي في توسيع الفجوات بين الطبقات المختلفة. يعاني الفقراء في مصر مثلًا من نقص الخدمات العامة والتعليم الجيد، في حين تتوفر للطبقات العليا والمدن الكبرى خدمات تعليمية وصحية ذات جودة مرتفعة.
هذا الانقسام لا يقتصر على الطبقات الاجتماعية، بل يعمق التباعد بين الأجيال أيضًا، حيث يتعرض الشباب من الطبقات الفقيرة إلى فرص أقل لتطوير مهاراتهم والحصول على وظائف محترمة.
في لبنان مثلًا، يعكس نظام الخدمات الطائفي تحديات تواجه بناء هوية مشتركة. في الوقت نفسه، تدفع الأزمات السياسية والاقتصادية إلى زيادة تهميش الفئات الضعيفة. هذه الفجوات الاجتماعية تؤدي إلى ازدياد مشاعر الاغتراب لدى الأفراد المستبعدين، والعزلة لدى المواطنين الأصليين فيُساهم ذلك في تعزيز الانقسام الاجتماعي.
تتجلى ملامح هذا التوجه الفرداني في نقاشات السوشيال ميديا عند فوز أحد الأفراد بجائزة دولية أو تحقيق فريق وطني لانتصار رياضي. إذ تتكرر محاولات إنكار أي بعد جماعي أو وطني، وكأن الفرد أو الفريق يتحرك في فراغ.
يُصر البعض على أن الدولة "لا تلعب ولا تكتب ولا تبدع" وهو حقيقي ودقيق ولكنه ينزع الإنجاز عن سياقه الاجتماعي والثقافي، متجاهلين أن الإنتاج الأدبي مثلًا يُدرس في أقسام جامعية تحمل أسماء دول: الأدب البريطاني، الأمريكي، الكندي.. إلخ. وحتى في الرياضة، يشارك أي نادٍ في أي منافسة قارية أو دولية بصفته بطل دولته، وتخوض المنتخبات المسابقات الدولية تحت اسم الدولة وعلمها.
هذا الفصل الحاد بين الفرد والمجتمع يعكس عمق أزمة الفردانية وتقاطعاتها مع سياسات الهوية.
البحث عن انتماء
رغم ما يبدو من انفتاح العالم الحديث على الفرد، فإن الحاجة النفسية للانتماء تظل راسخة في وجدان الإنسان. فهذا الإنسان، في جوهره، كائن اجتماعي يبحث عن جماعة تمنحه المعنى والهوية والشعور بالوجود.
تشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الأفراد يعتبرون الانتماء الجماعي حاجة أساسية ودافعًا إنسانيًا أساسيًا. وتدعم الأبحاث فرضية أن لدى البشر رغبة راسخة في تكوين روابط اجتماعية والحفاظ عليها.
حين يعجز النظام عن إنتاج جماعة حقيقية تظهر جماعات متخيلة تعيد صياغة الماضي لتبرر وجودها
يفسّر ذلك مثلًا صعود ظواهر مثل الألتراس في مصر وتونس والمغرب، التي لم تكن مجرد مجموعات مشجعة لكرة القدم، بل جماعات تحمل سردياتٍ وهويةً وانتماءً، وتتصادم أحيانًا مع الدولة نفسها دفاعًا عن هذا الوجود. ونرى في لبنان والعراق، مثلًا، كيف تتحول الطوائف إلى ملاذات نفسية قبل أن تكون سياسية، تؤمن للفرد ما يفتقده من يقين في عالم متغير وغير آمن.
يبدو البحث عن الهوية في ظل عالم أكثر جماعية بحثًا عن شكل من أشكال التمايز، لخلق روح جماعية تصبو للأفضل عبر عملية تضامن أوسع من الدوائر الضيقة للفرد. أما في عالم فرداني كالذي نعيش فيه، فإن ما يُخلقُ هو اضطرابٌ نابعٌ من التناقض بين طبيعة مفهومي الانتماء لهوية والانعزال الفرداني. لأنه في ظل الطور الحالي للنظام الرأسمالي؛ يُعزل الفرد، ويُختزل وجوده في أدواره كمستهلك ومنتج، لا ككائن اجتماعي يبحث عن المعنى.
اغتراب مزدوج
هذا التناقض بين الفردانية وحاجة الانتماء يُنتج أزمة هوية عميقة، إذ يعيش الفرد حالة اغتراب مزدوجة: معزول عن الجماعة، لكنه لا يكف عن السعي إليها ولو في صور رمزية أو متخيلة. وفي هذا الإطار، تنتج الرأسمالية عزلة منهجية، تولِّد رغبةً في التمييز وليس التمايز، ورغبة في مواجهة الآخر وليس بناء جسور معه. أو بالدارجة المعاصرة "يعلم عليه".
من هنا تنشأ سياسات الهوية المعاصرة. فحين يعجز النظام عن إنتاج جماعة حقيقية، تظهر جماعات متخيلة، تعيد صياغة الماضي أو تصطنع روايات تبرر وجودها. نرى ذلك في خطاب ترامب عن "عظمة أمريكا" المتخيلة، حيث ارتبط خطاب "عودة العظمة" بزيادة في عضوية الجماعات القومية المتطرفة.
وفي أقصى تمظهراتها، تُنتج هذه السياسات أنظمة حكم وتيارات فاشية، تسعى إلى تنميط الشعوب في صورة "فرد نموذجي" يُفترض أنه يمثل المجموع، لكنه في الحقيقة مجرد قناع لهوية مُتخيلة ومفروضة من أعلى.
وهكذا، بدلًا من أن نرى أفرادًا أحرارًا ضمن جماعة متماسكة، نجد أنفسنا أمام ما يمكن تسميته بـ"الفردانية الجماعية"، حيث يصبح الانتماء تكرارَ صورةٍ نمطية، لا حوارًا حقيقيًا بين أفراد متنوعين في جماعة حية. أو ما يسميه نادر كاظم "القطيع الفردي"، حيث الانتماء شكلي وتكرار لأيقونات مفروضة.
يمكننا ملاحظة ذلك من متابعة السوشيال ميديا، حيث معظم المواطنين يخشون التعبير عن آراء تتعارض مع "الهوية الوطنية الرسمية"، بل ويحاولون التماهي معها للحد الذي يصل لتبني أساطير لا يحتاج الفرد أكثر من دقيقتي بحثٍ على الإنترنت ليكتشف زيفها.
هذه الهويات الأحادية، بسبب هشاشتها وافتقارها إلى عمق اجتماعي، تتعامل مع "الآخر" على أنه تهديد وجودي، لا مجرد اختلاف قابل للتعايش معه. وهنا يظهر التعصّب آلية دفاعية، قد تنقلب بسرعة إلى عنف لغوي وعنف رمزي أو حتى مادي. نرى ذلك في موجات الكراهية ضد اللاجئين والمهاجرين، وفي العنف الطائفي في مجتمعاتنا، وحتى في نزعات القومية المتطرفة في أوروبا وأمريكا.
في المقابل، حين يعيش الفرد ضمن جماعة حقيقية، سواء كانت جماعة محلية أو وطنية أو حتى مهنية أو نضالية، فينخرط في شبكات التضامن الاجتماعي والتفاعل مع الآخر، تتشكّل الهوية بطريقة أكثر تعقيدًا وتعدّدية. فلا يعود مضطرًا لاختزال ذاته في مكوّن واحد، بل يمكن له أن يكون مواطنًا له ديانته وينتمي لمحافظته ونقابته.. إلخ في الوقت ذاته. هذه الهويات المركّبة تقلّ فيها احتمالات العنف، لأنها تعترف بالآخر لا باعتباره تهديدًا، بل شريك في المعاناة أو النضال أو الحلم، وتتعدد فيها التقاطعات.
في مصر مثلًا، نرى كيف أن الحركات النقابية أو التضامنات العمالية، عندما تكون حقيقية، تنتج هويات تتجاوز الانقسامات الدينية والمناطقية. وفي لبنان، رغم كل التشظي، تظهر لحظات تخلق فيها الحركات الشبابية أو البيئية هوية مشتركة عابرة للطوائف. وحتى في الغرب، نرى نماذج لحركات التضامن العابر للطوائف تطرح هويات "متنوعة" أو "جسرية" تسمح بالتعدد بدل الإقصاء.
الهويات لا تتشكّل في الفراغ، بل داخل علاقات اجتماعية محدّدة. كلما كانت هذه العلاقات قائمة على المشاركة والتفاعل، كلما ازدادت الهوية ثراءً وعمقًا وإنسانيةً.
إذا كان هذا وضع الاندماج المجتمعي والهوية، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك على تناول القضايا الأساسية في مجتمعاتنا، وكأن الحياة تدور في دوائر مغلقة مسطمة، ولكن هذا موضوع المقال التالي.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.