تصميم: أحمد بلال - المنصة، 2024
صراع إسرائيل وحماس داخل غزة

اليوم الحالي هو اليوم التالي.. مستقبل حماس في فراغ غزة

منشور الاثنين 28 يوليو 2025

منذ إطلاق عمليتها العسكرية فجر السابع من أكتوبر 2023 ضد إسرائيل حتى اللحظة التي تقترب فيها حرب إبادة الفلسطينيين بقطاع غزة من عامها الثاني، مرَّت حركة حماس بتحولات تنظيمية وسياسية وعسكرية عميقة على وقع الضغوط الداخلية التي تعصف بقدرتها على إدارة الحياة اليومية للسكان، ونهاية الدعم الإقليمي والإسناد العسكري الذي كانت توفره إيران وسوريا إلى جانب حزب الله اللبناني.

فبعد أن أظهرت الحركة قدراتٍ قتاليةً وتنظيميةً عاليةً، ومقاتلوها ينفذون عملية طوفان الأقصى الواسعة، تعرضت لخسائر بشرية فادحة في الصف الأول والثاني والثالث من القيادات العسكرية. ولم يتبقَّ حيًا من أعضاء المجلس العسكري للقسام ممن خططوا ونفذوا العملية سوى عز الدين الحداد، قائد لواء غزة، فيما لا يُعرف إلى الآن مصير رائد سعد رئيس قسم العمليات، ومحمد شبانة قائد لواء رفح.

لم تكن التحولات التي تمر بها الحركة مجرد ردود فعل للضربات الإسرائيلية المدمرة فقط؛ لأن ما شهدته المنطقة من تغيرات جيوسياسية مع سقوط نظام الأسد في سوريا واغتيال قيادات حزب الله في لبنان، أعادت رسم خريطة التحالفات بطريقة وضعت حماس في مأزق وجودي بين الصمود بلا أفق تحت الأنقاض، أو الاستسلام لشروط تبدو انتحارًا سياسيًا.

أنفاق فوق الأرض

طوفان الأقصى، 7 أكتوبر 2023

مع تدمير جزء كبير من بنيتها التحتية لتصنيع الأسلحة وتطوير الصواريخ، تحوّل الأداء العسكري لفصائل المقاومة بشكل جذري نحو حرب الاستنزاف، في "استجابة للمتغيرات الميدانية وسياسة الأرض المحروقة التي اعتمدها الاحتلال"، حسب رأي الباحث الفلسطيني المختص بالشأن العسكري للمقاومة رامي أبو زبيدة.

يوضح أبو زبيدة لـ المنصة أن "الهيكل التنظيمي للقسام، الذي يبدأ من الزُمر القتالية الصغيرة المكونة من ثلاثة مقاتلين، وصولًا إلى الألوية التي تضم من 6000 إلى 8000 مقاتل، سمح لها بالتحول إلى شبكة خلايا صغيرة غير مركزية، حيث أصبحت كل خلية قادرة على اتخاذ قرار الاشتباك أو نصب كمين بناءً على تقديرها الميداني الخاص".

يؤكد الدكتور إسلام عطا الله، الباحث في وحدة أبحاث الأمن القومي بمركز التخطيط الفلسطيني على مرونة هذه البنية، لكنه يشير في حديثه لـ المنصة إلى أن اختيار نمط الخلايا غير المركزية "لم يكن خيارًا استراتيجيًا بقدر ما كان نتيجة إجبارية فرضها تدمير مراكز القيادة والتحكم". 

ويعتقد عطا الله من واقع وجوده في غزة ومعايشته الوضع على الأرض أن هذا النمط قلل من فاعلية التنسيق بين الجبهات المختلفة وأضعف القدرة على تنفيذ هجمات مركبة متوازية، مشيرًا إلى أن "الخلايا الحالية المتبقية تعمل تحت ضغط عال، وتعاني من تراجع في الإمداد والتواصل".

مع ذلك، أثبتت هذه الاستراتيجية فاعليتها في إلحاق خسائر مؤلمة بجيش الاحتلال. فمنذ استئناف الحرب في مارس/آذار الماضي حتى منتصف يوليو/تموز الحالي، قُتل 44 جنديًا إسرائيليًا في مناطق متعددة من شمال وجنوب القطاع في أداء شهد تصاعدًا. وبينما لم يفقد جيش الاحتلال أيًا من قواته خلال مارس، قتلت المقاومة ثلاثة من جنوده في أبريل/نيسان، وثمانية في مايو/أيار، و21 في يونيو/حزيران، و13 جنديًا حتى 15 يوليو الحالي.

ويشير إسرائيل زيف، رئيس قسم العمليات السابق في الجيش الإسرائيلي، إلى أن حماس درست بدقة طريقة عمل الجيش واستغلت نقاط ضعفه. فيما تحدث محللون إسرائيليون عن الميزة التكتيكية التي منحتها الأنقاض للمقاومة، وكيف أنها صنعت "نفقًا فوق الأرض".

ويتفق اللواء احتياط إسحاق بريك مع ذلك، مشككًا فيما يعلنه جيش الاحتلال "على مدار الساعة يرددون أرقامًا خيالية عن عدد قتلى حماس بعد كل عملية، وهو أمر لم يحصل فعليًا. حجم القوات وانتشارها في غزة أقل بكثير مما يُقال بسبب نسب التجنيد المتدنية جدًا ولا يوجد من ينتشر أصلًا". 

ويشير أبو زبيدة إلى أن "الاستنزاف لا يُقاس فقط بعدد قتلى الجنود أو الانسحاب الفوري، بل أيضًا بتآكل قدرة الجيش على الاحتفاظ بالسيطرة الميدانية وتحقيق أهدافه العسكرية والحفاظ على الجبهة الداخلية مستقرةً، وإقناع جمهوره بجدوى الحرب. وهذه الجبهات كلها تشهد تراجعًا ملحوظًا". 

لا تقتصر أزمات حماس على بنيتها العسكرية بل تمتد أيضًا إلى قدرتها التي تتآكل على حكم القطاع

لكن عطا الله، الذي تركز أبحاثه على الأمن القومي والتحولات السياسية في الشرق الأوسط يعتقد أن هذا التأثير جرى تضخيمه إعلاميًا، موضحًا أهمية وضع التصريحات الإسرائيلية في سياق التجاذب السياسي الداخلي، لأن "ما لا ينقله الإعلام أن رد الاحتلال على كل كمين عادة ما يكون قاسيًا؛ فلا يكتفي باستهداف موقع الحدث، بل يلاحق كل من يشتبه في مشاركته أو دعمه أو حتى اقترابه من محيط العملية". 

ويلفت الباحث إلى أن الملاحقة لا تطول فقط المتورطين المحتملين في الهجمات، بل تمتد أيضًا إلى عناصر النخبة المدربة في صفوف المقاومة "وهي كوادر يصعب تعويضها في ظل ظروف الحرب المستمرة، وفي ظل عمل إسرائيل على الحيلولة دون إعادة بناء أو تسليح البنية العسكرية للفصائل. وبناءً عليه فإن المعادلة على الأرض لم تشهد تحولًا جذريًا".

ولا تقتصر الأزمات التي تواجهها حماس في قطاع غزة على بنيتها العسكرية فحسب، بل تمتد أيضًا إلى قدرتها التي تتآكل على حكم القطاع وإدارة الحياة اليومية لسكانه، ما دفع بعض العشائر للتعاون مع الاحتلال ومجابهة سلطتها.

ويقرأ الباحث في التاريخ السياسي عزيز المصري هذا التعاون باعتباره "مؤشرًا على ضعف حماس، وإن كان لا يشكل خطرًا وجوديًا عليها حاليًا". فالخطر الأكبر يكمن في "تآكل شرعيتها داخليًا". هذا الوضع فرض نقاشات داخل الحركة حول مستقبلها.

الفراغ الإسرائيلي في غزة

يتزامن مأزق حماس هذا مع مأزق إسرائيلي في المقابل، يتعلق بالعجز عن تدمير قدرات حماس وبنيتها العسكرية، والإخفاق في تهيئة الظروف لاستبدالها ككيان حاكم، في استمرار لسؤال اليوم التالي للحرب. 

ويحذر مشروع "التهديدات الحرجة"، وهو مشروع أطلقه معهد أمريكان إنتربرايز عام 2009 لمواجهة "التهديدات" التي تواجه الولايات المتحدة و"أسلوب حياتها" من قبل إيران والمجموعات السلفية الجهادية، من أن فشل إسرائيل في تحديد "حالة سياسية نهائية" في غزة، يعني أن القطاع سيظل بدون هيكل حوكمة بديل، "مما سيسمح لبقايا حماس بمحاولة استعادة نفوذها".

وسبق أن أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه لن يسمح لحماس أو للسلطة الفلسطينية بحكم قطاع غزة في اليوم التالي للحرب. كما ينظر إلى لجنة التكنوقراط التي طُرح خيار إدارتها غزة في مفاوضات وقف إطلاق النار التي تجري في القاهرة والدوحة بوساطة أمريكية مصرية قطرية، باعتبارها ستكون واجهة يمكن لحماس التحكم بها، كما رجح عمر شعبان مدير مركز "بال ثينك" الفلسطيني.

غموض مستقبل القطاع وسكانه قد لا يكون فشلًا إسرائيليًا بل هدف بحد ذاته

لكن الباحث في علم الاجتماع بهاء شاهرة يقدِّم خلال حديثه إلى المنصة تفسيرًا مختلفًا، إذ يرى أن هدف الحرب القائمة على مبدأ الإبادة منع أي تشكيل نظامي فلسطيني، مدني أو عسكري، في قطاع غزة "لذلك هناك الكثير من الأصوات التي تتبنى تدخل الجيش بصورة مباشرة كخيار لإدارة القطاع. وهذا أقرب سيناريو للأشهر القادمة".

وتميل بعض دوائر الحكم الإسرائيلية بالفعل لإلقاء عبء حكم القطاع على عاتق الدول العربية، مثل زعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق يائير لابيد الذي اقترح إدارة مصرية للقطاع لفترة انتقالية.

فيما نقلت صحيفة هاآرتس عن مسؤول قوله إن ما تُسميه إسرائيل "مدينة إنسانية" تجمع فيها سكان القطاع جنوبه، تهدف إلى دفع الإمارات والسعودية إلى إدارة القطاع تحت عنوان تخليصه من الإسرائيليين "بما يعطيهم شرعيةً ولا يجعلهم يبدون متعاونين".

ويتساءل المحلل الإسرائيلي نداف إيال عن شعار "لن تنتهي الحرب حتى تنزع حماس سلاحها" الذي يرفعه نتنياهو، معتبرًا أنه مجرد غطاء.

ويضيف "لو وافقت حماس على نزع سلاحها غدًا، فهل سيحدث ذلك؟ من سيفرضه؟ وحده الجيش الإسرائيلي قادر على ذلك، بفرض سيطرته العسكرية الكاملة على غزة. لن يتجول أي إماراتي أو مصري في أزقة دير البلح لجمع كل بندقية AK-47".

ويخلص إلى أن "موافقة حماس على نزع سلاحها ستكون على الأرجح مجرد خدعة ما لم تحتل إسرائيل المنطقة بالكامل، مما يجعل أي اتفاق مع حماس لاغيًا. فلماذا تطلب إسرائيل هذا إذن؟!".

القسام تعلن تفاصيل عملية نوعية من المسافة صفر في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، 23 ديسمبر 2024

وبينما تؤكد الحركة تمسكها بسلاحها في المفاوضات الجارية، لا يستبعد عمر شعبان تخلي حماس في نهاية الأمر عن سلاحها بشروط، "البعض يرى إمكانية ذلك بشروط، منها مصالحة وطنية شاملة، بينما يقترح آخرون وضع السلاح في عهدة دول عربية، وهناك من يرفض التخلي عنه مطلقًا. لا يوجد قرار نهائي".

على الجانب الآخر، يرى يزيد صايغ، المفاوض الفلسطيني السابق والخبير في مركز كارنيجي للشرق الأوسط "أن حماس والفصائل الأخرى تحاول ببساطة البقاء عسكريًا، حتى لا يتم القضاء عليها سياسيًا".

يتفق مع ذلك الباحث إسلام عطا الله، الذي يُفصِّل أن "البنية العقائدية والتنظيمية التي تقوم عليها الحركة تعتبر السلاح جزءًا مركزيًا من وجودها وهويتها، وليس مجرد أداة مؤقتة يمكن التفاوض عليها أو التنازل عنها. التنازل عن السلاح يعني في منطق الحركة تفكيك ذاتها. وقد يؤدي لانقسامات وانشقاقات ترفض الالتزام به".

لكنه يظن أن ما تطرحه إسرائيل بشأن السلاح الذي أغلبه بات خفيفًا ولم يعد يمثل قدرة استراتيجية "هو مبرر غير منطقي وإيحاء بأن حماس لا تزال تملك قدرات كبيرة تهدد الأمن الإسرائيلي لإطالة أمد الحرب، رغم أن الوقائع لا تدعم هذا الادعاء. الأسلحة الخفيفة لا تهدد كيان دولة نووية".

وعليه، فإن غموض مستقبل القطاع وسكانه قد لا يكون فشلًا إسرائيليًا بل هدف بحد ذاته، أو حسب تعبير شالوم ليبنر، زميل أول في المجلس الأطلنطي في وصفه لخطة نتنياهو، فإن "اليوم التالي هو اليوم الحالي". لكن "طالما بقيت كل من غزة ولبنان بلا يومٍ تالٍ، فإن إسرائيل لن تحظى هي الأخرى بيوم تال مُجدٍ سياسيًا"، كما يشير يزيد صايغ.