
مسلسل "طهران".. الديكتاتورية في خدمة الموساد وإيران لا ترى
يعيد مسلسل طهران الإسرائيلي-الأمريكي، الذي عُرضت مواسمه الثلاثة بين 2020 إلى 2023، طرح سؤال طالما يتردد حول الأفلام والمسلسلات والكتب التي تنجح في التنبؤ بأحداث سياسية أو عسكرية في عالمنا، بطريقة توحي بأن صناع هذه الأعمال إما عملاء للمخابرات أو أنهم "مكشوف عنهم الحجاب".
ففي المسلسل، تُكلَّف عميلة الموساد تامار رابينان/نيف سلطان؛ وهي إيرانية يهودية ولدت في طهران ثم هاجرت إلى إسرائيل لتصبح "سوبرومان" وخبيرة كمبيوتر وهاكر محترفة، بدخول إيران كموظفة في شركة الكهرباء الأساسية في طهران، لقطع الكهرباء من أجل تعطيل رادارات الدفاع الجوي الإيرانية.
في الوقت نفسه، سينفذ 16 طيارًا إسرائيليًا هجومًا على منشأة نووية، وهو سيناريو مشابه جدًا لما حدث على أرض الواقع في الحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة.
يتردد السؤال المصحوب عادة بالدهشة أو التفسير التآمري: هل صُنعت هذه الأعمال الدرامية بالتعاون مع أجهزة المخابرات التي ترسم مستقبل العالم لسنوات وعقود قادمة، أم أن صناعها من العباقرة الذين يترددون على "بئر الجن عبقر" الذي كان يملي على شعراء الجاهلية أشعارهم، أم أنهم فقط موهوبون وأذكياء يقومون بواجبهم البحثي والمعرفي ويستقرؤون الواقع ليتخيلوا المستقبل؟!
"نبوءات" إبداعية
يقدم الدبلوماسي السابق والروائي المقيم بالولايات المتحدة عز الدين فشير نفسه منذ عقود كأستاذ في علم السياسة وخبير بالشرق الأوسط والعلاقات الأمريكية-العربية. وخلال الأيام الأخيرة للحرب الإسرائيلية على إيران، راح يستعيد مقاطع إحدى رواياته "النبؤية"، ليثبت أن ما تفتق عنه خياله الروائي "العلمسياسي" يحدث بالحرف الواحد!
فعل فشير ذلك من قبل في روايات حول الإسلام السياسي وحركات العنف وجماعات "المجاهدين" في أفغانستان والشرق الأوسط، حتى إن اثنتين من رواياته تحولتا إلى مسلسلين "بأثر رجعي"، أي بعدما تحققت "نبوءات" الروائي.
بشكل حاسم وقاطع، كنت أنحاز حتى وقت قصير إلى أن معظم، إن لم يكن كل، هذه الأعمال هو نتاج عقول فنية وبحثية مستقلة، ولم يكن لي أن أتخيل، بسذاجتي الفطرية المزمنة، أن هناك من يكتبون بحوثًا علمية أو أعمالًا فنية بأوامر أو توجيه أو مساعدة من ضباط المخابرات.
كان عقلي يستوعب أن يتم توجيه الصحافة ووسائل الإعلام، ولكن مجال الفن والعلم؟ مستحيل، فهذا ضد منطق وأخلاق المهنتين!
مع ذلك، ونتيجة لما حدث ويحدث في الآونة الأخيرة من انكشاف قحٍّ ووقحٍ لسياسة ومخابرات إسرائيل والولايات المتحدة؛ من مخططات الإبادة والتهجير، إلى تفجيرات البيجر والاغتيالات في لبنان، إلى الإطاحة بنظام الأسد في أيام معدودة، ثم الاغتيالات والضربات في إيران.
تبين لي بشكل مرعب أننا نعيش في عالم يدار بالكامل في الخفاء، وأن الخونة والجواسيس والمخبرين حولنا قد يكونون أكثر من الناس العاديين.
نقطة الضعف التي يستغلها الموساد في تجنيد عملائه داخل البلدان المستهدفة الديكتاتورية
في واحدة من لحظات الرعب هذه، تذكرت عبارة كنت سمعتها في إحدى حلقات الموسم الثاني من مسلسل "طهران" وأثارت استغرابي وقتها، لأنني لم أكن أتخيل أن أحداث المسلسل يمكن أن تكون شبيهة بالواقع أبدًا.
العبارة التي استوقفتني، جاءت على لسان الضابط الإيراني المخلص تعليقًا على اعتقال بعض الجواسيس الذين يعملون لحساب الموساد؛ "الخونة كثيرون، وسيظلّون هكذا".
بعدها اكتشفت أن الواقع أسوأ بكثير، وأن بلدًا كبيرًا ومستقلًا ومغلقًا على نفسه، وبوليسيًا وقمعيًا مثل إيران، مستباحٌ ومخترقٌ ويعج ليس فقط بالجواسيس والخونة بل أيضًا بـ"الطابور الخامس" من المقاتلين الأعداء في الداخل!
كان شيء غير قابل للاستيعاب. بالكاد فسَّرت الخيانات الرهيبة التي حدثت في لبنان بالأرضية الطائفية القبيحة والمتقيحة، والفوضى، والانفتاح، وغياب الدولة المتماسكة العميقة، والنزعة "التجارية" الأنانية التي تتغلغل في المجتمع اللبناني. ولكن إيران؟!
الديكتاتورية تقتل
المسلسل، على سخافته ولؤمه الصهيوني المكشوف، يكشف من حيث لا يدري، أو ربما يدري، أن نقطة الضعف التي يتسلل من خلالها الموساد أو الـ CIA أو غيرهما من أجهزة المخابرات المعادية، هي "الديكتاتورية" التي تسود البلاد المستهدفة، وتجعل الأفراد يكرهون أنظمة بلدانهم إلى درجة الاستعداد للخيانة.
أسقطت الديكتاتورية الاتحاد السوفيتي بجلالة قدره، ومؤخرًا سوريا، وربما إيران مستقبلًا. ويمكننا أن نتعرف على آليات الاختراق من خلال مشاهدة مسلسل طهران.
بالعودة إلى تامار، العميلة الإسرائيلية المتخفية داخل إيران، فعمليتها تواجه الفشل بفضل يقظة رئيس المحققين في الحرس الثوري فاراز كمالي، الذي يبدأ في تعقبها، بينما تعود الطائرات الإسرائيلية من حيث أتت، فيما عدا طائرة واحدة تسقط ويُعتقل قائدها.
ومن العجيب أن هذه الحادثة كانت إحدى الشائعات التي روجها الإيرانيون خلال الحرب، وكأن المسلسل منح الإيرانيين سردية يروونها.
"كل شيءٍ انكشفٍ وبان" كما يُقال
في الموسم الثاني، تتعرف تامار إلى أقاربها القدامى ومن بينهم عمتها. كما تلتقي ببعض الشباب الثوري المطالب بالديموقراطية، وتقع في حب أحدهم، لكن رئيسة عمليات الموساد، السيدة يوليا، تشترط على تامار أداء مهمة أخيرة لتسمح لها بترك الخدمة.
وبينما تحاول تامار إنجاز مهمتها الأخيرة، تجد نفسها في عملية أخرى لها طابع انتقامي، تتقرب فيها من ابن قائد الحرس الثوري الإيراني، في إعادة إنتاج السردية الكلاسيكية عن الجاسوسة التي تنجح في الإيقاع بكبار المسؤولين في صفوف الأعداء؛ إيران هذه المرة، المتكالبين عليها.
من ناحية ثانية تظهر الطبيبة المتخصصة في العلاج السيكولوجي مارجان مونتظمي التي تؤدي دورها الممثلة الأمريكية المعروفة جلين كلوز. وتعالج زوجة كبير المحققين شخصيًا، ولكنها تتسلل إلى بيتهما وتحاول إقناعهما بالتعاون معها لحساب الموساد، مقابل تسهيل هجرة الزوجة، التي لم تعد تطيق الحياة في إيران، إلى النرويج.
من الطريف أيضًا أن تنكشف قصة، أو شائعة، عن الصحفية الجاسوسة التي اخترقت النظام الإيراني وعقول، وأجساد، رجاله، أثناء الحرب الأخيرة، مع أن التفاصيل موجودة في المسلسل منذ أعوام!
في الموسم الثالث تظهر شخصية جديدة غريبة هي مفتش الوكالة الدولية للطاقة التي يجسدها الممثل الإنجليزي المعروف هيو لوري.
يعتمد هذا الجزء أكثر من سابقيه على لعبة الولاءات المخفية، حيث يتبين أن معظم الشخصيات تخفي ولاءها الحقيقي، أو تبدل هذه الولاءات مع مرور الأحداث. ولكن أطرف شيء هو تقديم العميلة تامار باعتبارها نسوية مناصرة لحقوق النساء الإيرانيات المضطهدات.
مرة أخرى المدخل الذي تتسلل منه الأجهزة المخابراتية المعادية هو الديكتاتورية التي تجعل الشعب يضج من النظام ويكرهه ويرغب في الفرار بجلده، حتى لو على حساب ولائه لبلده.
أعتقد أنه لا يوجد نصيحة يمكن أن يقدمها المرء للأنظمة الديكتاتورية أفضل من التي يقدمها الموساد في هذا المسلسل! وخارج المسلسل، أعتقد أن ما كشفته إسرائيل وأمريكا عن نفسيهما خلال العامين الماضيين هو أكبر خطأ يمكن أن تقع فيه دول وأجهزة مخابرات، ولكنها الوقاحة والغرور والعمى الذاتي. وهذه، ربما، هي نقطة البداية التي يجب أن تبني عليها أي دولة عربية تريد ألا تصبح مجرد تابع ذليل للدولتين الأكثر شرًا وإجرامًا على مر التاريخ.
من الصور التي لا تُنسى في المسلسل غرفة عمليات الموساد التي تمتلئ بشاشات تكشف كل مكان داخل إيران وفلسطين ولبنان وسوريا وبقية العالم العربي، وتبدو يوليا وهي تديرها، وكأنها إلهة إغريقية من فيلم جيسون وآلهة الحرب (1963).
"كل شيءٍ انكشفٍ وبان" كما يُقال، وسواء كان هؤلاء المبدعون عملاءً أو أنبياءً، فإن الحقائق ظاهرة والدروس أظهر، ولكن يبدو أننا لن نستفيد شيئًا من مسلسل طهران سوى الموسيقى التصويرية الرائعة التي ألفها مارك إلياهو، مستوحيًا إياها من الموسيقى الشرقية، التي سرقها مدع إبداع آخر من الذين ابتلينا بهم في كل المجالات، ووضعها على مسلسل العتاولة في رمضان الماضي!
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.