
الشخصية القومية الإيرانية.. أي دور لعبته في الحرب ضد إسرائيل؟
في معرض رده على دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الإيرانيين للاستسلام قال المرشد الأعلى علي خامنئي "عليهم أن يعلموا أن إيران لن تستسلم.. أولئك الذين يعرفون تاريخ إيران يفهمون أن الإيرانيين لا يستجيبون على نحو جيد للغة التهديد".
لم يكتفِ بالخطاب، إنما ذهب إلى رد عملي حين أطلق معركة جديدة باسم حيدر في وقت راح فيه الإعلام الإيراني يقول إننا دخلنا المعركة الحقيقية الآن، على وقع استخدام أنواع جديدة من الصواريخ في ضرب إسرائيل.
بدت طهران هنا معنية بإيصال رسالة إلى ترامب الذي صور له رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن الأمور قد حُسمت، ولم يبق سوى تدمير مفاعل فوردو، وعليه أن يتدخل ليجني الثمار ويُرضي مطالبيه بالتدخل سواء في الكونجرس أو بين مستشاريه.
مفهوم الشخصية القومية
أحال المرشد إذن إلى ما يمكن وصفه بـ "الشخصية القومية الإيرانية"، التي عوَّل عليها في الصد والصمود والتحمُّل. في القرن العشرين شاع الحديث عن الشخصية القومية لدى أمم كثيرة، وأفاض فيها علماء النفس والاجتماع والأنثربولوجيا والمؤرخون والباحثون في الموروث الشعبي، ومن بين هؤلاء الفرنسي أندريه سيجفريد، الذي ألف كتابًا بعنوان روح الشعوب، وضع فيه لكل شعب أو أمة مفتاحًا لفهم شخصيتها يدور حول قيمة مركزية ما، مثلًا "العناد" لدى الإنجليز، و"البراعة" لدى الفرنسيين، و"التنظيم" لدى الألمان، و"الحركية/الديناميكية" لدى الأمريكان، و"التصوف" لدى الروس.
وعلى المنوال ذاته ألّف عالم الجغرافيا جمال حمدان موسوعته شخصية مصر، وألف البشير بن سلامة الشخصية التونسية، وكتب السيد يس عن الشخصية العربية، ورأينا هذا في كتاب أدوين رايشاور بعنوان اليابانيون، فيما رأينا مقاربات حول فهم الشخصية الإيرانية في كتاب فهمي هويدي إيران من الداخل، وكتاب محمد حسنين هيكل مدافع آيات الله.
تظهر الشخصية الإيرانية كذلك في كتاب إيران مستودع البارود للفرنسي أدور سابلييه، وكتاب مغامرات حجي بابا الأصفهاني لجيمس موريير، الذي تولى منصب القنصل البريطاني في أصفهان في الفترة من 1820 إلى 1826.
فيما بلورت دعاية بغداد خلال الحرب التي امتدت تسع سنوات بين العراق وإيران صورة سلبية للشخصية الإيرانية، في سياق التعبئة والحرب النفسية، اتكأ كثير منها على إحالات تاريخية مذهبية، فسمي الإيرانيون بـ"الفرس" مع أن في إيران قوميات أخرى، وأُطلق على المعركة اسم "القادسية".
بعيدًا عن الدعايات والإحالات والحمولات التاريخية، يجب مقاربة "الشخصية القومية الإيرانية" بطريقة علمية، وهي مسألة ليست بالهينة.
العرق الفارسي
يبدو المفتاح الأولي لفهم هذه الشخصية أو القيمة المركزية التي تتمحور حولها وتتشربها نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا هي "الكبرياء"، وهو هنا حاصل جمع التجربة التاريخية، والشعور الديني المذهبي، والموروث الشعبي، والتراث الأدبي والفكري. وفي هذا لا يتفق الإيرانيون، لا سيما من "العرق الفارسي"، حتى لو اختلفوا سياسيًا بين "محافظين" و"إصلاحيين" أو بين "دينيين" و"علمانيين".
قدّمت فتاة إيرانية محسوبة على التيار العلماني ومن معارضي السلطة الحاكمة مثلًا واضحًا في وقوفها في ميدان "أزاد" في قلب طهران، الذي طالما شهد انتفاضات ضد النظام، وهي ترفع علم بلادها بيد، وباليد الأخرى تمسك مكبر صوت تشدو بالنشيد الوطني، وتقول "في وقت المحنة أنا معك يا بلادي".
وكذلك أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران صادق زيبكلام الذي قال "أنا مندهش من سقف توقعات نتنياهو وترامب والأمير رضا بهلوي الذين يريدون مني الاصطفاف مع إسرائيل ضد نظام بلدي. ما من شخصية سياسية كتبت وتكلمت ضد النظام أكثر مني، ولكنني لن أصطف مع الأعداء".
يبدو أن شعور الكبرياء لدى الإيرانيين هو مزيج من عدة عوامل. أولها هو الشعور القومي المتجذر في العرق الفارسي، الذي يجعلهم يشعرون بأنهم أمة متفردة. ثانيًا، هناك الحضور القوي للتاريخ السياسي الذي لا يقتصر على دخول الإسلام إلى "بلاد فارس"، بل يمتد إلى قرون أبعد، عندما كانت إيران إمبراطورية لها مكانتها وهيبتها وخاضت صراعات تاريخية، مثل صراعاتها مع الدولة التي أقامها اليهود. هذا التاريخ الغني يترك بصمة عميقة على هويتهم في الوقت الحاضر.
بين المظلومية والتقية
العنصر الثالث هو الشعور بـ"المظلومية" وهي مسألة معروف أنها تحل في نفوس أتباع المذهب الشيعي، سواء الصفوي أو العلوي، منذ كربلاء حتى الآن، وقد تحولت إلى نوع من "الأيديولوجيا" عبر التاريخ، وتعزز ذلك على يد السلطة التي جاءت إلى الحكم بعد ثورة الخميني عام 1979. وجعل هذا الشعور الشخصية الإيرانية متوجسة من كل الذين حولها، وهي مسألة يمكنها أن تتحول وقت الحرب إلى تقارب وجداني شديد بين الإيرانيين، على اعتبار أن هناك ما يجرح كبرياءهم، أو يهين إنسانيتهم، وربما يهدد وجودهم.
وهذا الشعور علَّم الإيرانيين قوة التحمل الذي صاغته السلطة عسكريًا في مصطلح "الصبر الاستراتيجي" ودينيًا في "حق الطاعة"، وغذته بالتصورات التراثية عن فضيلة الصبر، وهو مقام صوفي أيضًا لا يعدمه الإيرانيون الذين قدموا للحضارة الإسلامية أعلامًا كبارًا من المتصوفة أو الروحانيين الذين صاغوا تصوراتهم شعرًا وفلسفة ومقامات وتجليات وأحوالًا.
ولعل هذا ساهم في جعل الشعب الإيراني، وأمامه النظام الحاكم، قادرًا على تحمل آثار الحصار الدولي الطويل الذي ضُرب حول إيران، والانخراط في نموذج من "التنمية الذاتية"، وبناء قدرات عسكرية لحمايته، وجعله في الوقت نفسه يمتلك أسلوبًا من التحايل على هذا الحصار، الذي ليس له مثيل في الزمن المعاصر عبر العالم، وهنا استفادت الدولة الإيرانية من مسألة "التقية"، حيث المدارة والتخفي.
ويتمثل العنصر الرابع في وجود طموح هائل مكبوت لاستعادة الإيرانيين مكانتهم أو تحقيق "التفوق الاستثنائي"، وهو إحساس نفسي لعب على وتره النظام الإيراني فيما يُسمى "تصدير الثورة"، ثم إقناع الشعب بضرورة امتلاك "سلاح نووي"، يُدخل إيران إلى مصاف الدول الكبرى عسكريًا، لا سيما أن الجارة باكستان امتلكته بالفعل. وبذا ينظر كثير من الإيرانيين إلى استهداف البرنامج النووي باعتباره سعيًا إلى تجريد إيران من هذا الطموح، حتى لو كان في الاستخدام السلمي.
لا تخلو هذه العناصر من سلبيات قد تحوّل "الكبرياء" إلى "تكبر"، لكنّ السلطة الدينية والسياسية وقادة الرأي الموافقين لها، يعملون الآن، وأكثر من أي يوم مضى، على تعظيم إيجابياتها، ولعل هذا ما اتكأ عليه المرشد في تأكيده أن تاريخ الإيرانيين يبين أن لغة التهديد والوعيد لا تصلح معهم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.