تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
حسن شحاتة

حسن شحاتة.. معجزة كفر الدوار ومعلم إفريقيا

منشور الأربعاء 6 أغسطس 2025

من كفر الدوار أتى. لم تكن بداية ذلك الفتى توحي بأنه على موعد مع مسيرة يندر تكرارها. مسيرة وضع فيها بصمات ممتدة لعقود متوالية لاعبًا ومديرًا فنيًا وشريكًا في إنجازات متنوعة تتجاوز حدود الوطن، مُحققًا أرقامًا قد نحتاج قرنًا من الزمان لنرى من يحقق مثلها.

حسن شحاتة صبي ناشئ يخوض مباراة ودية بين منتخب بحري الذي يضم لاعبين من البحيرة والمحافظات المجاورة لها، والآخر تجاوزًا هو منتخب مصر، وإن لم يحمل الاسم رسميًا. لقاء تجريبي استكشافي كانت أمثاله معتادة في ذلك الزمن البعيد.

في المدرجات، كان وكيل نادي الزمالك حلمي زامورا يتابع اللقاء بحثًا عمن يمكن استكشافه من لاعبين مغمورين بإمكانيات واعدة، ووقع اختياره على هذا الصبي في صفوف منتخب بحري، ولم يتطلب الأمر وقتًا أو مجهودًا ليصبح الفتى لاعبًا في القلعة البيضاء، لكنه التوقيت!

الهزيمة والانتصار

صورة غير مؤرخة لمدرب منتخب مصر السابق حسن شحاتة بقميص نادي كاظمة الكويتي، الذي لعب في صفوفه بين 1967 و1973

نحن في أواخر العام 1966، ولا أحد يعلم أن الهزيمة قادمة بعد أشهر قليلة، لتتهم الكرة بأنها سبب رئيسي في إلهاء الشعب والسلطة كذلك، لتُحمَّل المسؤولية ويُجمَّد النشاط ويوضع مصير اللاعبين على كف عفريت، خصوصًا الصاعدون منهم.

لكنَّ ضوءًا لاح في الأفق، عندما أبدت دول عربية انفتاحًا على ضمِّ لاعبين مصريين في وقت لم تكن منطقتنا عرفت بعد منطق الاحتراف، من بينها الكويت. استقبلت أنديتها بعض اللاعبين، وإن ليس بنسبة كافية، لكنه متنفس.

اهتم زامورا بشحاتة، ونجح في إقناع نادي كاظمة الكويتي بضمه. ينافس النادي في دوري الدرجة الثانية، وكان ذلك أفضل ما قد يحصل عليه لاعب بلا تاريخ. انضم الناشئ المصري للنادي الكويتي، ولأنه لم تكن هناك عقود احترافية للاعبين؛ وفَّر النادي للاعبنا وظيفة في وزارة الكهرباء ليتحصل منها على راتب يعتاش منه.

في أول مواسمه مع كاظمة، ساهم حسن شحاتة بفعالية في تأهيل الفريق للدرجة الأولى ليلعب مع الكبار ويلفت الأنظار. كانت الكرة الكويتية آنذاك على موعد مع حدث فارق في مسيرتها؛ المشاركة الأولى لنادٍ كويتي في بطولة قارية، عندما تأهل النادي العربي لدوري أندية آسيا في بانكوك مارس/آذار 1971.

أراد نادي العربي الظهور بأفضل شكل ممكن في أول تمثيل خارجي له، فأقنع نادي كاظمة باستعارة الصاروخ المصري "سام شحاتة"، كما كانوا يلقبونه، للمشاركة في البطولة. لعب أساسيًا، وحصد لقب أحسن لاعب في آسيا سنتها، ليكون حدثًا فريدًا أن يفوز لاعب إفريقي، ناهيك عن مصري، بجائزة أفضل لاعب في قارة أخرى.

أصبح شحاتة نجمًا كبيرًا في الكويت، وبدأ الحديث عن تمثيل منتخبات الكويت ذاتها، وهو ما تحقق عام 1973.

يمكن القول إن سهولة اللوائح والقوانين وقتها ساعدت لاعبنا في مسيرته. فلم يكن ضروريًا أن يحصل اللاعب على جنسية بلدٍ ما ليشارك في منتخبه العسكري، بل يكفي أن يكون فردًا في قواته المسلحة. انتُدب شحاتة من وزارة الكهرباء لوزارة الدفاع، ليصبح مؤهلًا للاشتراك مع منتخب الكويت العسكري. كرَّر المعلم تألقه، ووصل صدى صولاته إلى مصر، ليصبح السؤال: متى يعود الطائر لعشه في ميت عقبة؟

بدأ حسن شحاتة مسيرته التدريبية من تحت الصفر، ليحقق مع أندية الدرجة الثانية إنجازات لم يسبقه لها أحد

كان النشاط الكروي في مصر استؤنف وقتها، غير أنه لم يكن مستقرًا. لم يكتمل أول موسم عادت فيه الكرة، عندما أُلغي الدوري العام بسبب أحداث شغب. ولكنَّ اكتمال الموسم التالي 1972-1973 شجع على عودة الأمور لطبيعتها. وهكذا في مطلع الموسم الجديد، أكتوبر/تشرين الأول 1973، عاد شحاتة لبلده وناديه مصحوبًا بضجة شعبية، قيل إنها كانت جزءًا من خطة خداع استراتيجي، فالبلد المشغول بانتقال لاعب كرة، ليس بلدًا يتأهب لأي حرب من أي نوع.

ثم كان الانتصار، ليتوقف النشاط الكروي ثانيةً ولكن لفترة وجيزة؛ فقد رأت الدولة استئناف النشاط بمسابقة خاصة هي نسخة وحيدة من دوري بنظام المجموعتين، سُمِّي "كأس أكتوبر"، وفاز به الزمالك مع نجمه الأول حسن شحاتة.

متألق في كل المراكز

في ذلك الوقت، كان نجم محمود الخطيب بدأ في اللمعان، لتبدأ حقبة مميزة للغاية في تاريخ الكرة المصرية، يمكن عنونتها بثنائية الخطيب وشحاتة، أو بيبو والمعلم؛ اللقب الذي عرفته به جماهير الكرة خلال فترة لعبه، وحمله عبر مسيرته كلها، وظهر أول ما ظهر في هتاف جمهور الزمالك في المدرجات "حسن شحاتة يا معلم.. خلي الشبكة تتكلم".

مدرب منتخب مصر السابق حسن شحاتة بقميص نادي الزمالك الذي لعب في صفوفه بين 1973 و1983

كان كل من الخطيب وشحاتة رمزًا لقلعته. وكانت القلعتان معًا رمزًا للكرة المصرية، فأضحت كرة القدم تساوي الاسمين اللذين تزاملا في المنتخب وتنافسا محليًا، طوال فترة ثرية استمرت نحو تسع سنوات. ورغم أن الناديين، فضلًا عن الأندية الأخرى، قدَّما للكرة المصرية لاعبين أفذاذًا؛ بقيت ثنائية الخطيب وشحاتة عنوانًا عريضًا للكرة المصرية، امتد لما بعد اعتزالهما بفترة طويلة، وما زال صداه حتى الآن لا سيما للعواجيز أمثالي، ممن عاصروا فترة تنافس النجمين الكبيرين.

لا يمكن تجاوز مسيرة حسن شحاتة لاعبًا دون الالتفات إلى أمرين. الأول أنه حصد مع منتخب مصر جائزة أفضل لاعب في بطولة الأمم الإفريقية 1974، ليصبح اللاعب الوحيد في العالم الذي يحصل على جائزة أفضل لاعب في بطولتين قاريتين مختلفتين. والثاني أنه برع في جميع مراكز الملعب الأحد عشر، هجومًا ووسطًا ودفاعًا، بل وحارس مرمى كذلك.

ففي دورة ألعاب البحر المتوسط 1975، واجه منتخب مصر نظيره الجزائري الذي تقدَّم بهدف. وقبل نهاية المباراة بنحو خمس دقائق، أصيب الحارس إكرامي وكان منتخبنا استنفد التبديلين المسموح بهما في ذلك الوقت، ليتولى شحاتة حراسة المرمى. ورغم الضغط الجزائري فيما تبقى من المباراة؛ حافظ المعلم على نظافة شباكه بل وأدى كحارس مرمى بالفعل، وهو ما يندر أن ينجح فيه اللاعبون الذين يضطرون لمواجهة هذا الموقف.

كذلك ارتبط اسم حسن شحاتة بأشهر هدف مُلغَى في تاريخ الكرة المصرية، حين سجل هدفًا في شباك الأهلي كان كفيلًا بانتزاع درع الدوري من الجزيرة لميت عقبة. كان الهدف صحيحًا لكنَّ الحكم محمد حسام الدين ألغاه بناء على إشارة مساعده عبد الرؤوف عبد العزيز، ليحتل هذا الهدف موقعًا متميزًا من سرديات جمهور الدرجة الثالثة لنادي الزمالك.

مرات ومرات أعلن حسن شحاتة اعتزاله، وفي كل مرة كانت الجماهير البيضاء تنظم فعاليات وتظاهرات تطالبه بالرجوع في قراره، فيستجيب، ويعود ليؤدي أقوى مما كان عليه. لكن كما قال الراحل زياد الرحباني على لسان فيروز "دايمًا بالآخر فيه آخر.. فيه وقت فراق"، حدث الفراق عندما علق المعلم حذاءه بصورة نهائية عام 1983.

ولكن ماذا يحدث عندما يعتزل اللاعبون؟

تختلف الإجابة عن ذلك السؤال من لاعب لآخر، البعض لم يقدم إنجازًا يذكر وهو لاعب، لكنه قدم مسيرة حافلة في التدريب أو الإدارة أو الإعلام. وآخرون كانوا لاعبين عظماء، لكنهم فشلوا بعد الاعتزال، فعاشوا فقط على تاريخهم. نادرون من حققوا المجد داخل المستطيل الأخضر وخارجه، ومن هؤلاء كان حسن شحاتة.

لم يكن التحدي أمام شحاتة وهو يتجه إلى الإدارة الفنية سهلًا، فمهما بلغت أسطورتك كلاعب، يبقى الاختبار هنا مختلفًا وجديدًا، وعليك أن تخوضه من الصفر. لأن كونك المعلم داخل الملعب لن يشفع لك هنا. واللافت أن مسيرة شحاتة بالذات بدأت من تحت الصفر حيث بدأ تشكيل أسطورته. فمع أندية الدرجة الثانية عرف تحقيق الإنجازات التي لم يسبقه لها أحد، وأغلب الظن أن أحدًا لن يلحق به كذلك.

أول تلك الإنجازات هو تكرار الصعود للدوري الممتاز مع عدة أندية مختلفة في سنوات قليلة. المنيا والشرقية ومنتخب السويس، غير أن الإنجاز الأكبر والخالد هو قيادته لفريق المقاولون العرب عام 2004 وهو في الدرجة الثانية، ليحصد به كأس مصر على حساب الأهلي، ثم كأس السوبر بعد الفوز على الزمالك برباعية تاريخية. سطر شحاتة اسمه باعتباره الوحيد الذي يقود فريقًا من الدرجات الأدنى لمنصات التتويج، في إنجاز لا يبدو أنه سيتكرر في المدى المنظور.

وكغيره من المديرين الجيدين وحتى المتوسطين، حصل حسن شحاتة على فرصة قيادة منتخب الشباب في كأس الأمم الأفريقية 2003، وكان يمكن أن يمر هذا مرور الكرام كغيره ممن قادوا تلك المنتخبات، لكن المعلم فاز بالبطولة ليتأهل إلى كأس العالم للشباب، ويقدم مشاركة جيدة. لكن ذلك الإنجاز في حد ذاته لم يشكل فارقًا كبيرًا، إلا عندما جاءت السنة التالية، ليتبين أنَّ له ما بعده.

الثلاثية التاريخية

منتخب مصر يتوج في القاهرة بكأس الأمم الإفريقية 2006، 10 فبراير 2006

كانت لحظة فريدة في خريف 2004. يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول على وجه التحديد. فرادة اللحظة تعود إلى أن منتخب مصر وقتها، بعد أن فقد فرصته في التأهل لمونديال 2006، لم تكن أمامه منافسات هامة قبل كأس الأمم الإفريقية التي ستقام في مصر عام 2006. ما يعني أنه لن يخوض التصفيات حتى. 15 شهرًا دون استحقاقات دولية فارقة، وهو ما جعل اتحاد الكرة يتمهل في اختيار المدير الفني الجديد، بعد إقالة ماركو تارديللي لعثراته المتكررة.

ولحين الاستقرار على المدير الفني الجديد، تطلَّب الأمر تعيين واحدٍ مؤقت. من ثَمَّ كان الاختيار بين الأسماء التي تأتي وهي على دراية أن مهمتها طارئة ولفترة قصيرة وغير فعالة. وقع الاختيار على حسن شحاتة، بناء على خبرته مع منتخب الشباب، الذي سيشكّل لاعبوه قوام المنتخب الأول.

مرَّ عام 2005 على حسن شحاتة وهو يواجه موقفًا صعبًا، ليس في الملعب، وإنما بسبب الحملات المتكررة التي تطالب بضرورة تعيين مدير فني جديد للمنتخب، وأكثرها شراسة ما يمكن تسميته "حملة مانويل جوزيه".

كان الأهلي وقتها يعيش فترةً زاهيةً للغاية مع انطلاق عصر مانويل جوزيه، الذي قاد القلعة الحمراء لتسيّد الكرة محليًا وقاريًا بسهولة، حتى إنه حصد الدوري في موسم 2004-2005 بفارق 31 نقطة عن إنبي صاحب المركز الثاني. جعل ذلك الأقلامَ في الصحف تطالب أن يقود جوزيه منتخب مصر بلاعبي الأهلي كقوام أساسي، مُطعَّمًا بالمتميزين من الأندية الأخرى.

صبر شحاتة على كل هذا، ولكن كان الأهم هو صبر القيادة. لا أقصد هنا القيادة الكروية ممثلةً في اتحاد الكرة، بل القيادة السياسية التي كانت وقتها منغمسة حتى النخاع فيما يتعلق بكرة القدم المصرية، ليستقر الأمر على أن يقود شحاتة منتخب مصر خلال كأس الأمم الإفريقية 2006 على الملاعب المصرية، ثم نقيّم نتائجه.

كثيرون في الوسط الرياضي، ولا أدري لماذا، استكثروا على حسن شحاتة أن يكون على رأس المنتخب الوطني، لكن هذا كان جليًا خلال البطولة، وكان على المعلم أن يواجه المنافسين في الملعب، وكذلك الإعلام، الذي كان يخرج عقب كل مرة متشككًا بشكل صريح أحيانًا وموارب في أحايين أخرى.

فزنا على ليبيا! هو منتخب ضعيف، تعادلنا مع المغرب! رسخنا العقدة وخفنا من الورطة. تغلبنا على كوت ديفوار! كان يلعب بالاحتياطي بعد أن ضمن الصعود. فزنا على الكونغو! هو منتخب غير مصنف، وهكذا.

لم تخرس الألسنة إلا عندما سجَّل محمد أبو تريكة آخر ضربة ترجيح في النهائي أمام كوت ديفوار، ليحصد شحاتة وفريقه بطولتهم الإفريقية الأولى في ثلاثية تاريخية، مفتتحًا عهدًا كرويًا زاهيًا نحفظ جميعنا تفاصيله. 

مع حسن شحاتة لعب منتخب مصر خلال ثلاث نسخ متتالية من كأس الأمم الإفريقية 18 مباراة، خسر ثلاثة وفاز في البقية دون هزيمة، وهذا رقم غير مسبوق. كما بلغت مصر معه عام 2010 المركز التاسع في تصنيف فيفا لمنتخبات العالم، وهذا مركز بعيد جدًا عن أي مركز ناله منتخبنا في هذا التصنيف قبل المعلم وبعده.

إنجاز وحيد لم يحققه شحاتة وهو التأهل لمونديال جنوب إفريقيا 2010 بعد مباراة أم درمان ضد الجزائر، والتي لا يحب أحد تذكُّر تفاصيلها. لكن الجمهور على الأغلب سامحه بعد إحراج البرازيل في بطولة كأس القارات 2009 والهزيمة بصعوبة في الثواني الأخيرة 3/4، قبل الفوز على بطل العالم، إيطاليا، بهدف وحيد لمحمد حُمص.

مسيرة طويلة ثرية، تكفي مساحات الكتابة الصحفية بالكاد لتغطية أبرز محطاتها على عُجالة؛ فلو أفردنا له ما يستحق لاحتجنا على الأقل مجلدًا ضخمًا. ففي كُرتنا المصرية؛ أمثال حسن شحاتة المُحمَّلين بحُبٍّ واحترامٍ جماهيري عابر للأندية شديدو الندرة.