
يوميات صحفي في غزة: أنا مش منيح.. أرجوك لا تسألني
تغيرت ملامحنا ولم تعد لدينا طاقة للعمل
قبل شهرين، أثناء تجوالي في منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس المكتظة بخيام النازحين، التقيت امرأةً ثلاثينيةً تحمل طفل لا يزيد عمره عن خمس سنوات، تشكو من الجوع. لم أجرؤ على توجيه أسئلة صحفية لها، لكنها بادرتني "هيني لهلقيت مش عارفة إيش بدي أطعميهم، بعتت ابني الأكبر يوقِّف على التكية القريبة يمكن يجيب معه إشي ناكله".
شعرتُ براحةٍ مؤقتةٍ، هناك أملٌ ببعض الفتات، لكن الأمل سرعان ما تلاشى حين وصل طفلُها بعلبةٍ فارغةٍ. لم أستطع تفسير نظرات أمه؛ مزيج من غضب وحزن وحيرة، حتى نطقت "ولَك وين الأكل؟ إيش بدي أطعميكم اليوم؟"، ليجيبها "مضلش إشي، عاملين شوربة عدس وملحَّقتش آخد".
لم يعد هذا حدثًا عابرًا، بل جزءٌ من الروتين اليومي الذي أعيشه وأعاينه كصحفي في غزة المحاصرة.
محاصرٌ بين محاصَرين
لم أكمل عملي. سرتُ أطالع وجوه الناس وأسمع أحاديثهم في مجالسهم على أبواب الخيام.
الغالبية يتحدثون عن الطعام. هو أكثر ما يشغلهم ويرهق أدمغتهم. أفكر في الجدوى من عملي الصحفي، أفكر في أثر نقل تفاصيل حياة الناس اليومية تحت الحصار الإسرائيلي والتجويع. ماذا ننقل للعالم؟ وماذا يحدث بعدها؟
منذ شهرين تقريبًا، وبعد أكثر من عام ونصف العام من التغطية المتواصلة للإبادة الجماعية بحقِّ مليونين و400 ألف فلسطيني في قطاع غزة، لاحظتُ أني لم أعد أعمل بنفس حيوية الأشهر السابقة.
أصابني هزالٌ، وبتُّ أشعرُ بالدوار أحيانًا وتشوشٍ في الرؤية في أحيان أخرى. أصبحتُ عصبي أمام أبسط الأسئلة التي يطرحها الأصدقاء، "شو أكلت اليوم؟"، أو "أنت منيح؟". لا أكل ولا "منيح" في المجاعة.
أثّرت حالتي على قدرتي على انجاز مهامي الصحفية، لم تعد لدي القدرة على المشي مسافات لمعاينة أماكن المذابح ومقابلة ضحايا التجويع.
مثلي مثل العشرات من الزميلات والزملاء الصحفيين، مثلي مثل المصادر، كلنا نواجه نفس المصير. كلنا نصارع تبعات سياسة التجويع والإفقار التي عصفت بأساسيات حياتنا اليومية. كل صباح، يصيبني الذهول أمام معضلة توفير المأكل والمشرب والعلاج ووقود السيارة والسيولة النقدية اللازمة لشراء فتات من احتياجات أساسية، بأسعار تتجاوز 300 ضعف سعرها الطبيعي، وتصل أحيانًا إلى 500 ضعف. فقط ليتبعه يوم جديد، لتدور نفس المأساة التي أقابلها بنفس الذهول. وكأني محبوس داخل كابوس طويل يعاود التكرار، لا ينهيه إلا الموت.
الاحتلال يحكُم الحصار
في بداية مارس/آذار الماضي، أعادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إغلاق جميع المعابر والمنافذ، أعادت محاصرة القطاع؛ منعت دخول شاحنات المساعدات الإنسانية، سواء الغذاء أو الأدوية أو الوقود، ومعها الخيام وكافة ما نحتاجه كمواطنين مدنيين بعد فقدان منازلنا.
بعد الإغلاق بقرابة أسبوعين ونصف، استأنف جيش الاحتلال الحرب ووسع من عملياته العسكرية ليصل حيز سيطرته لأكثر من 80% من مساحة القطاع الكلية التي تبلغ 365 كيلومترًا مربعًا.
مع إغلاق المعابر خلت الأسواق من المواد الأساسية
احتاط البعض، فخزَّنوا كميات ضئيلة من المساعدات الإنسانية التي تلقوها في فترة وقف إطلاق النار المؤقت، في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط التي امتدت 42 يومًا. مخزون ضئيل يكفي لأقل من شهر، لكن نتيجة إجبارهم على النزوح اضطروا لترك كل شيء والنجاة بأرواحهم وأبنائهم، ومنهم من قُتل بعد أو خلال انتقاله قسرًا إلى المناطق الغربية لمدن قطاع غزة.
مع استمرار إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات، خلت الأسواق من المواد الغذائية الأساسية، مثل الطحين والأرز والمعكرونة والعدس والسكر وزيت القلي. اختفت الفواكه واللحوم المجمدة بشكل نهائي حتى يومنا هذا، وبقي القليل من أصناف الخضروات التي كانت تُزرع محليًا.
مثل باقي المواطنين والصحفيين والصحفيات، صار يومي يدور حول "ماذا سآكل اليوم". ولأني محظوظ، أستطيع بصعوبة التحصل على بعض المال، ما زلت أخرج إلى السوق بشكل يومي لأشتري الخضروات. أصبحنا نصنع المقلوبة الكذابة، التي تحوي ما يتوفر من مكونات هذا الطبق الشعبي من أرز وخضروات، لكن دون لحمٍ أو دجاج.
ليستْ هذه شكوى، على العكس، فقليلون من لا يزال بوسعهم تدبير النقود لشراء خضروات وتحضير المقلوبة الكذابة، فيما الغالبية العظمى لا يجدون ما يأكلونه.
الغالبية، الأكثر إفقارًا، يُضطرون لإرسال أطفالهم إلى أقرب تكيّة؛ أي مطبخ يقدم الطعامَ المجانيَّ للنازحين، ويصطفون في طوابيرَ طويلةٍ بانتظار الحصول على حفنة من العدس أو المعكرونة أو الأرز المطبوخ مع معلبات الخضار.
ضاقتْ واستحكمتْ ولم تفرجْ
لكن حتى هذا الوضع البائس لم يَدُم إلا أسابيع، نفدت بعدها مخازن المطابخ المجتمعية والتكيّات من المواد الغذائية، أو سُرِقت. وباستثناء عدد محدود من المطابخ، توقفت التكايا والمطابخ منذ أكثر من شهرين.
والأفدح كان فقدان الطحين من الأسواق، اضطرت المخابز الآلية لإغلاق أبوابها فصارت كارثة. لم يعد لدى أرباب الأسر القدرة المادية على توفير الخبز، ولم يعد بإمكان الأمهات إقناع أطفالهن بتحمل الجوع. كيف يمكن أصلًا أن تقنع طفلًا جائعًا لا يتجاوز عمره خمس سنوات بالصبر على جوعه؟ كيف ستشرح أن كسرة الخبز صارت من حظ الأغنياء؟
نجوع سويًا
بعدما تركت المرأة الثلاثينية وطفلها الذي فشل في الحصول على طبق عدس، انتهى بي السير إلى حيث نتجمع كصحفيين في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح - وسط القطاع. يومها طرحنا الأسئلةَ ذاتَها التي لا نجدُ لها إجابة، حتى قاطعنا أحد الزملاء "طيب إيش بدنا ناكل اليوم إحنا؟".
عمَّ الصمت، نظرنا لبعضنا البعض، قلت "بنجيب أي إشي، علبة فول بيمشي حالها".
أقضي ساعات اليوم في طابور خبز أمام فرن بلدي مصنوع من الطين
زميل آخر رد علي "أنت ولادك بمصر ومرتاح، بس أنا بفكر إيش بدي أطعميهم بالبيت".
لم يقصد زميلي التجريح، وربما هو مُحق، لكني شعرت بالضيق وتركت المكان مسرعًا.
انعزلت بعدها عدة أيام في منزل استأجرتُه مع نور، وهي أيضًا مراسلة تليفزيونية. لم تعد لدي رغبة في الحديث مع أحد. فقدت الرغبة في العمل.
أعيش مع زوجتي نور بعدما نقلت أطفالي للقاهرة قبل 16 شهرًا. نشتري أنا وهي كمياتٍ ضئيلةً من الطحين إذا توفرت لعجنها وخبزها، أو نعتمد على الأرز أو المعكرونة أو العدس وجبةً رئيسيةً واحدةً في اليوم، ما يجعل حالنا أفضل من حال معظم المسؤولين عن عائلات وأطفال.
أقضي ساعات طويلة من اليوم في طابور خبزٍ أمام فرنٍ بلديٍّ مصنوعٍ من الطين ثم أعودُ لأشعل نار الحطب لطهي ما تيسَّر. حتى أصبتُ بالتهاب رئوي شديد. لم يتوفر علاجٌ، ولم أتمكن من العمل، ولكن مهامي من الوقوف في الطوابير وخبز وطهو طعام على الحطب والأخشاب لم تتوقف.
محاولات البقاء
عدتُّ للعمل مضطرًا. ما زلت أتحدث يوميًا إلى أطفالي. أطمئن على دراستهم وصحتهم، وأسعد عندما أعرف ما يأكلون. أحاول تجنب أسئلتهم عما نأكل نحن، مثلما أفعل مع الغرباء. في كثير من الأحيان أشكرهم على سؤال "شو أكلت اليوم؟" دون رد. ما زال السؤال يثير عصبيتي. ماذا سيفعلون لو علموا بجوعي؟ سيبكون؟ أقدر مشاعرهم لكنها لن تطعمني!
للتعايش مع المعطيات، قررت تخفيف حركتي حفاظًا على ما أجمعه بصعوبة من سُعرات حرارية. اعتمدت التواصل مع المصادر وشهود العيان على الجرائم الإسرائيلية عبر الموبايل أو الإنترنت بدلًا من إهدار طاقتي الشحيحة في المشي تحت الشمس.
في المرات القليلة التي خرجت فيها ومشيت بين الناس، راقبت تغيّر ملامحهم. بدوا لي أكثر نحافة، برزت عظام الوجوه وعروق الأيدي، وبتُّ أفكر ما حال باقي أجسادهم وجسدي! أحاول الهرب من التفكير في حال والدتي التي تحتاج إلى جلسات غسيل كلوي ولا تتحصل عليها. الخطر يخنقنا يومًا بعد يوم. بتُّ أكثر خوفًا في نهاية كل يوم مما يحمله غدًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.