تصميم: يوسف أيمن- المنصة

في طريقي إلى الحضانة وجدت أمومتي   

عن الذات والأمومة والسلطة

منشور الثلاثاء 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

في مساء خريفي وأنا على مشارف عامي السابع والثلاثين، وأثناء تجولي بشوارع مدينتي دمنهور رفقة ابني سليم التقيت صديقةً صدفة. جلسنا لنشرب قهوتنا سويًّا.

بحركة عفوية أخذت رشفة من كوبها، ما إن فعلت حتى علا صوت المحاكمة الأمومية داخلي يسألني: كيف تكررين على ابنك دروس النظافة والسلامة الصحية وتتهاونين أنت فيها؟

مشهد بسيط ذكرني بأنني إنسانة سأظل أحمل تناقضًا. غير أن هذا الموقف سرعان ما التف حول عنقي حتى كاد يخنقني لأعود إلى شخصية "أبلة الناظرة"؛ تلك المراقبة القاسية التى تفقدني اتزاني في معاملتي لابني وتعكر صفو أيامي فيضيق صدري.

تبدأ الأسئلة في محاصرتي؛ هل أعيش منقسمة إلى نصفين؟ نصف بعفويتي وحقيقتي والنصف الآخر محكوم بمؤسسة تفرض سطوتها على أفكاري، وتمنحني في كل يوم تقييمًا لأمومتي، كأنها تراقبني من الداخل. إنها الآلية الخفية التي تعيد إنتاج النظام نفسه في داخلي، تجعلني أكرر صوته، وأعيد بناءه كل مرة دون وعي.

الأمومة المؤسسية

يكشف الموقف رغم بساطته عن الصراع المشترك الذي تعيشه الأمهات على مدار اليوم. صراع بين العفوية والتقيد الصارم بالقواعد، الذي بدا واضحًا لي أكثر من أي وقت مضى.

عندما تنجح المؤسسة في السيطرة تصبح أمومتي مجرد وظيفة، وعندما أتقبل محدوديتى أتحرر لأكون أنا. أدركت أهمية التصالح مع عفويتي/طفلتي الداخلية، فالأمر ليس رفاهية إنما رحلة مكاشفة يغمرها الألم ومصالحة يتبعها الفرح.

ربما لن أكون المثل الأعلى أو الأم ذات الهيبة.. لكني سأُعلّم ابني كيف يفكر بتوازن يرضي عفويته

في جلسة طويلة عبرت لابني عن أسفي من السلوك الذى لم أرضَ عنه وأنني فى المرة القادمة سأتصرف بشكل مختلف. اقترب مني ولمعت عيناه بفضول طفولي محب وشاركني بعض الأفكار التي يراها مناسبة للحفاظ على تلك القيمة إن أردنا مشاركة مشروبنا من جديد.

شعرت بلحظة هدوء لم تلبث أن داهمتها المؤسسة الأمومية؛ ها قد شعرتِ بالسكينة لأنك أفرغت مشاعرك، خطوة جيدة تجاه نفسك، لكنها الأسوأ لابنك. هيبتك فُقدت في كونك مثالًا أعلى يقول ما يفعل.

"كلما حاولت امرأة أن تعيش أمومتها بحرية وعفوية، اصطدمت بجدار المؤسسة التى تذكرها دومًا بأنها ناقصة.. عليها أن تعود إلى القالب"، هذا ما تقوله الكاتبة النسوية أدريان ريتش في كتابها Of Woman Born.

تنزل كلمات أدريان كثلج يطفئ نيراني المشتعلة؛ فربما لن أكون المثل الأعلى أو الأم ذات الهيبة التي يروج لها الإرث المجتمعي، لكني سأعلم ابني كيف يفكر من جديد بتوازن يرضي عفويته وقيمه. 

تكرار القسوة

قبل أعوام، عندما أتم سليم عامه الرابع بدأت رحلة بحثي عن حضانة تناسب مقدرتي المالية.

في جروبات الماميز على فيسبوك كنت كمن يفتش عن دفء مفقود؛ حضانة ذات تقييم جيد من ناحية التعامل مع الأطفال والتعليم باللعب. اخترت واحدة. لم يمر أسبوع واحد على التحاق ابني بها حتى أخبرتني المشرفة الاجتماعية أنه يرفض الجلوس مع الأطفال ويتجاهلهم.

 عليَّ أن أجد طرقًا أقرب إلى ابني يتعلم بها حقوقه وواجباته في مؤسسة تعليمية تعكس وجه المؤسسة الأمومية

خلال كلامي معه أخبرني أنه واجه تنمرًا يتعلق بمظهره واختياراته، وما كان من المعلمة سوى أن طلبت منه التأقلم مع زملائه، فاتخذ التجاهل طريقًا لحماية نفسه من بيئة تنكره، خالية من أي تضامن.

لمُت على المدرسة دعمها للتنمر، كيف لمؤسسة تربوية أن تتصالح مع التنمر؟ لكنها قابلت غضبي بغرور كونها تعمل في مؤسسة تربوية بتصريح من وزارة التربية والتعليم، ثم قلبتْ الدفاع هجومًا على أسلوبي في التربية الذي يعلم ابني التمرد، فقررت سحبه من الحضانة.

حينها أدركت أن عليَّ أن أجد طُرقًا أقرب يتعلم بها ابني حقوقه وواجباته في المؤسسة التعليمية التي تعكس نفس وجه المؤسسة الأمومية التي تنكر الحقوق وتفرض المزيد من العقاب في غير موضعه مقابل الحفاظ على هيبتها وسلطويتها، فاكتفيت بمُدرسة التعليم التأسيسي بالمنزل، وبعد عدة أشهر عاودت البحث من جديد.

وهم المثالية

ذهبت لإجراء مقابلة بحضانة تقع في واحدة من المناطق المعروفة بارتفاع مستواها الاقتصادي، بدا مظهرها مبشّرًا؛ ملعب واسع، وزاوية مليئة بألعاب الأطفال الحركية، وفصول تعليمية مرتبة، وحوض سمك كبير، والأشجار والأزهار تنتشر في الأنحاء.

أيقنت أن المكان سيعجب سليم فهو يضم معظم تفضيلاته. ورغم أن مصاريف هذه الحضانة تفوق مقدرتي المادية فإني عقدت العزم حال قبوله بعد المقابلة، أن أدبر أموري وأجتهد في التعلم وتطوير عملي من أجل توفير تكاليفها.

أدركت أن العلاقة بيني وبين "المؤسسة الأمومية" تشبه سائر العلاقات التي أختبر من خلالها نفسي وقناعاتي

خلال المقابلة مع المسؤولة عن الحضانة تحدثنا عن صعوبة التربية في هذا العصر وعن التحديات التي تواجه الأمهات والآباء. شاركتني تجربتها كأم ترى أن التحدي الأكبر الذي تواجهه مع ابنها هو فترة المراهقة، وكيف تبذل قصارى جهدها لتحافظ على هيبتها أمام نجلها لتضمن أن ينفذ توجيهاتها هي ووالده، كاشفة عن حيرتها المستمرة في سبيلها للوصول لطريقة ناجحة في التعامل مع غضبه.

تعلمت كيف تراجع قراراتها وتصرفاتها وتعترف لنفسها بالخطأ، غير أنها تقف عند هذه المرحلة ولا تتجاوزها إلى الاعتذار، إذ ترفض أن يعتذر الآباء لأبنائهم في سبيل الحفاظ على "هيبة الأمومة والأبوة"، مبررة ذلك بأن اعتذار الكبار يشكك الصغار فيما يصدره الآباء من قرارات، مع فتح احتمالية الوقوع في الخطأ.

لم أر فيما تقول سوى صورة من القسوة على نفسها رضوخًا لمتطلبات الأمومة المثالية، فقلت لها "أظن أننا حين نعتذر  لأبنائنا ونعترف بضعفنا سيهدأون أكثر، وسيفعلون معنا الشيء نفسه فنرتقي معًا".

اندهشت المسؤولة وارتسمت على وجهها نصف ابتسامة وهي تقول "لا ما ينفعش. الابن حيفضل ابن، والأم والأب لازم يكونوا المثل الأعلى".

اصطدام الحقيقة بجذر السلطة

غادرت اللقاء شاردة الذهن ورأسي منشغل بالأسئلة؛ ما الذي نعنيه بالهيبة وهل هي عكس الضعف؟ وأيهما أختار؟ أن ألهث خلف المثالية أم أتصالح مع  محدوديتى وأعمل على تطويرها؟ هل أختار الإنكار أم المواجهة؟ قبل الوصول لإجابة انتبهت إلى أن هذه السلطة ليست جديدة فما هي إلا بقايا إرث جداتي الأوائل؛ سلطة تسن القوانين لتقص أجنحة العفوية البريئة.

وأدركت أن العلاقة بيني وبين "المؤسسة الأمومية" تشبه سائر العلاقات التي أختبر من خلالها نفسي وقناعاتي. مع الوقت سأتمكن من فرض حدود صحية، لأنتصر على ما تهددني به "تشتتها ومغرياتها وابتزازها ومخاوفها".

علي أن أستوعب أنها سلطة لم تكن يومًا نزيهةً، فهي تعمل في خدمة سلطة أكبر: سلطة الذكر/المهيمن، التي تستغل جميع الوسائل المتاحة من أجل نشر أفكارها وفرضها ووصم من يحاول مواجهتها. 

عاودت رحلة البحث عن الحضانة، لكني هذه المرة كنت على يقين بأنني لا أبحث عن "الحضانة المثالية" بل عن بيئة تحتمل المرونة، وتسمح بالتطور دون قسوة. بيئة تسعى للحقوق، وتمنح المساحة لإبداع الأطفال المتنوع في أداء واجباتهم السلوكية والمدرسية، وهي ممتنة لقدرتها على الخلق رغم محدودية أدواتها، فنتشارك، نحن والأطفال، لنحاول معًا استخدام أدواتنا المختلفة لصالحنا وصالح أبنائنا وبناتنا.

الصدفة وحدها دلتني على حضانة تقع في وسط البلد، سألتني المشرفة المسؤولة أسئلة شخصية واجتماعية ونفسية عن سليم، فشعرت بالأمل في أنني وجدت ضالتي لكن عقلي كان يهمس لي "اصبري لا تحلمي بعالم سعيد".

ثم سألتني: "ما هدفك من وجود ابنك هنا؟" قلت "عايزة مكان يحسسه بالأمان… على مشاعره، وعلى اللي بيدخل عقله". ابتسمت وقالت إنها تحاول وتتعلم، لكن الأمر مرهق لأن الأطفال مختلفون. أخبرتها أنني لا أبحث عن أكثر من مكان يتفهم الاختلاف، ويتقبل متابعتي اليومية، فرحبت بذلك.

حينها أدركت أن الأمومة شجاعة يومية مغموسة في الصبر، نتعلم فيها مع أبنائنا العيش بصدق، نحترم مشاعرنا، ونتدرّب على الاختيار لا على المثالية. أدركت أيضًا أن الأمومة ليست معركة ضد النقص، بل رحلة مستمرة من الفهم والمسامحة، نعيد فيها تعريف القوة لتشمل الضعف، ونكتشف أن الحقيقة لا تهدد الهيبة، بل تُنقذها من الزيف. أن أربي ابني، وأن أربي نفسي معه، كلاهما فعل حبٍّ وشجاعة، نمارسه كل يوم ونحن نحاول ببساطة أن نعيش بصدق، لا بكمال.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.