
خالد العناني.. جلوس مثير للجدل على مقعد اليونسكو
بمطلع عقده السادس، خطف خالد العناني، وزير السياحة والآثار السابق، الأنظار بحسم اقتراع المجلس التنفيذي لليونسكو بفارق كاسح (55-2). ولم يتبقَّ سوى التصويت الشكلي في مؤتمر الجمعية العامة نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وهو ما يفتح الطريق أمامه لتولي منصب المدير العام للمنظمة الأممية للتربية والعلم والثقافة للفترة 2025-2029، ليخلف الفرنسية أودري أزولاي.
توّج الفوز مسارًا دبلوماسيًّا امتد ثلاث سنوات؛ بدأته مصر بترشيحه في أبريل/نيسان 2023، ثم حاز دعم الجامعة العربية في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، فالتحالف الإفريقي في فبراير/شباط 2024، قبل أن يضمن عبر شبكة من التحالفات الدولية الانتصار على منافسه الكونغولي إدوارد فيرمين ماتوكو.
وصول العناني لمقعد اليونسكو يأتي أيضًا تكليلًا لسلسلة محاولات مصرية حثيثة؛ بدأت بإسماعيل سراج الدين (1999)، وفاروق حسني (2009)، ومشيرة خطاب (2017).
مع هذا النجاح الدبلوماسي، عادت الأضواء لتُسلَّط على الوزير السابق من زاوية شخصية ومهنية معًا، إذ تحمل مسيرته مزيجًا من الإنجازات والجدل.
فكما ارتبط اسم العناني بأحداث مهمة مثل موكب المومياوات الملكية، وافتتاح طريق الكباش، ودفع أعمال المتحف المصري الكبير، واجه بالمقابل اتهامات بانتهاك التراث؛ من هدم جبانات تاريخية إلى شطب مواقع أثرية من القوائم الرسمية، إضافة لعدد من المشروعات التي أثارت جدلًا واسعًا، من بينها وضع كباش معبد الكرنك في ميدان التحرير، ونقل مسلة أثرية إلى المتحف المصري الكبير، إلى جانب أعمال ترميم تماثيل واجهة معبد الأقصر التي واجهت انتقادات من خبراء التراث.
هذا السجل المحلي المثير للجدل يطرح أسئلة تتجاوز سيرته الشخصية؛ كيف سينعكس على إدارته لمنظمة تُعنى بصون التراث والثقافة عالميًا؟ وهل سيتمكن من قيادة اليونسكو في مرحلة دقيقة تشهد تراجع حضورها الدولي وتحديات متراكمة مع انسحاب الولايات المتحدة مجددًا من المنظمة؟
صعود اجتماعي
خلف مسيرة الموظف الدولي الصاعد تقبع كواليس إنسانية لافتة، فالرجل ليس ابنًا لعائلة نخبوية توارثت السلطة والجاه، بل هو واحد من أبناء الطبقة الوسطى، ممن فتح لها التعليم أبواب الترقي الاجتماعي، فوالده مهندس ابنٌ مزارع بسيط، سكن حي المنيل آتيًا من إحدى قرى محافظة الشرقية.
قدّم العناني في أحد حوارته الصحفية قصة أسرته باعتبارها نموذجًا للعصامية؛ إذ ينحدر من أسرة بسيطة، ثم ترقى معتمدًا على علمه وكفاءته حتى وصل إلى قمة الهرم المؤسسي وزيرًا، هذه الشخصية التي لم تولد وفي فمها معلقة ذهب تمنحه جاذبية خاصة لدى الجماهير المتطلعة للترقي الاجتماعي، والباحثة عمّن يشبهها.
عُرف العناني بقدرته على المزج بين الدقة العلمية والروح البراجماتية في إدارة مهامه
ولاستكمال الصورة الشخصية عن خالد العناني المولود عام 1971، بقي أن نعرف أن والدته عملت أستاذة للغة الفرنسية بكلية السياحة والفنادق جامعة حلوان، التي التحق بها لاحقًا، ثم عُين معيدًا، وفي الكلية نفسها تعرف على إحدى طالباته وتزوجها لاحقًا.
تمحورت مسيرته الأكاديمية حول علم المصريات؛ بعد حصوله على بكالوريوس الإرشاد السياحي عام 1992، حصل على درجة الماجستير في الآثار المصرية بالنوبة من جامعة حلوان، ثم سافر إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا وحصل على شهادة دبلوم الدراسات المتقدمة (DEA) ودرجة الدكتوراه في علم المصريات من جامعة پول-ڤاليري مونپلييه 3. وحتى ترشيحه لليونسكو ظل يعمل أستاذًا لعلم المصريات بجامعة حلوان.
في مهمة وزارية
حسب الموقع الخاص بحملة ترشيح العناني لليونسكو، فإنه منذ تعيينه وزيرًا للآثار عام 2016، عُرف بقدرته على المزج بين الدقة العلمية والروح البراجماتية في إدارة مهامه. وفي عام 2019، ومع إلحاق وزارة السياحة بمهامه، أشرف بنفسه على عملية دمج الوزارتين ليقود معًا حقيبة السياحة والآثار، ونجح في إنجاز مشاريع كبيرة.
يشيد الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية بدقة العناني في عمله، و"يحسب له أنه أكاديمي بالأساس. يتناول أي ملف بمنهجية الباحث، يعرف التفاصيل والرؤية العامة، ويُظهر دائمًا حرصًا على المتابعة الدقيقة. وعلى المستوى الإنساني هو شخصية راقية ومهذبة وبشوشة".
يشير عبد البصير لـ المنصة إلى أن مكتبة الإسكندرية استضافت العناني قبل ثلاث سنوات وألقى محاضرة متميزة. ويضيف "منذ انطلاق حملته لليونسكو، أجرى جولات واسعة حول العالم، التقى مسؤولين من ثقافات ودول عديدة، ولم يقتصر على ملفات الثقافة والآثار بل قدّم رؤية شاملة في التعليم وحقوق الإنسان. الحملة كانت ذات منهجية وواضحة، وهو وجه معروف بثقافته الفرانكفونية وإجادته الفرنسية والإنجليزية والعربية".
في المقابل، يرى الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتاريخ العمرانيّ في جامعة كاليفورنيا بيركلي، وأحد أبرز المهتمين بتوثيق تراث القاهرة، أنه خلال فترة تولي خالد العناني منصبه الوزاري، شهدت القاهرة عمليات هدم لعدد من الآثار الإسلامية، خصوصًا في مناطق المقابر، بعد شطب تسجيل بعض المباني التراثية. وقد أثارت هذه القرارات استياءً واسعًا في أوساط الأثريين والمهتمين بالحفاظ على التراث.
الخطأ الأكبر يقع على الدولة التي أصرت على دمج الوزارتين من جديد وكأنّ الهدف الوحيد من الآثار هو توظيفها لخدمة السياحة الخارجية
ينتقد الصياد في حديثه لـ المنصة قرار دمج وزارتي السياحة والآثار في عهد العناني، معتبرًا أنه تكرار لخطأ تاريخي. فقد أنشأت الدولة عام 1964 وزارة باسم "السياحة والآثار"، لكن سرعان ما أعادت الفصل بينهما عام 1965 حين عادت الآثار إلى وزارة الثقافة في عهد ثروت عكاشة. وبعد ثورة يناير 2011 استُحدثت وزارة الدولة للآثار بقيادة زاهي حواس، وظل الوضع قائمًا حتى 2019، حين أُعيد الدمج مرة أخرى ليتولاه خالد العناني، على ما يقول الدكتور نزار الصياد.
ويتابع "صحيح أنّ لدى العناني خبرة إدارية تؤهله لقيادة منظمة كاليونسكو، لكنّه لم يكن موفقًا في كثير من مواقفه تجاه محاولات الحفاظ على التراث خلال وجوده على رأس الوزارة. عذره الأساسي أنه أقرب إلى مجال الإرشاد والسياحة منه إلى كونه أستاذًا أو عالم آثار. وبرأيي، الخطأ الأكبر يقع على الدولة التي أصرت على دمج الوزارتين من جديد، وكأنّ الهدف الوحيد من الآثار هو توظيفها لخدمة السياحة الخارجية. لذلك، ليس من المستغرب أن يستمر في منصبه أكثر من ثلاث سنوات".
من بين الاتهامات التي لاحقته أيضًا خلال فترة ترشحه ما ورد في حوار صحفي أُجري نهاية العام الماضي مع الدكتور محمد حمزة، عميد كلية الآثار الأسبق بجامعة القاهرة، حيث اتهمه بـ"دفن" قرار تشكيل لجنة كانت مسؤولة عن تسجيل جبانات القاهرة، ثم باستبعاده عمدًا من مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار.
غير أن المفارقة ظهرت حين عادت المنصة للتحقق من صحة هذه الاتهامات من حمزة نفسه، فأوضح أن توقف عمل اللجنة كان نتيجة عدم الاستقرار الأمني عام 2016، نافيًا أن يكون قد جرى استبعاده عمدًا، مؤكّدًا أن عضويته في المجلس ارتبطت بصفته عميدًا للكلية، وبانتهاء فترة عمادته انتهت عضويته تلقائيًا. ومع ذلك، شدّد على ضرورة أن يفتح العناني صفحة جديدة، ويسعى إلى إصلاح ما اقترفه بحق التراث خلال فترة توليه الوزارة.
ماذا بعد الفوز؟
رغم الانتقادات اللاذعة، فاز العناني وبدأ مرحلة وظيفية جديدة، وهنا يقول الدكتور محمد عبد المقصود الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار لـ المنصة "ما يعنيني الآن ليس ما فعله الدكتور خالد العناني في الماضي، بل ما نريده منه بعد فوزه بالمنصب. لأنه وصل إليه باسم مصر، وباسم العرب، وباسم إفريقيا للمرة الثانية بعد السنغالي أمادو مختار مبو (1974-1987). وأتمنى أن يكون داعمًا لزيادة عدد المواقع المصرية على قائمة التراث العالمي".
يُشار إلى أن مصر تمتلك سبعة مواقع فقط مسجَّلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، في حين تتفوق عليها دول في المنطقة مثل المغرب بتسعة مواقع، والسعودية بثمانية، وإيران بـ22 موقعًا، بينما تتصدر إيطاليا القائمة عالميًا بـ61 موقعًا.
اليونسكو ليست آثارًا فقط بل هي التربية والعلوم والثقافة وبالتالي تحتاج إلى إدارة أكثر كفاءة وشفافية
"أرجو أن يكون انتخابه فرصة لتعزيز حظوظ مصر في تسجيل مزيد من مواقعها الأثرية، إلى جانب دعم التراث العربي والفلسطيني الذي تعرّض للدمار. هذه هي النقطة الجوهرية بالنسبة لي"، يقول عبد المقصود.
ويضيف أن اليونسكو نفسها تحتاج إلى إصلاحات جذرية في منظومة عملها "تُنفق الأموال أحيانًا على أمور ليست ذات أولوية، بينما تُهمل قضايا أكثر أهمية. اليونسكو ليست آثارًا فقط، بل هي التربية والعلوم والثقافة، بالتالي فهي تحتاج إلى إدارة أكثر كفاءة وشفافية. من الضروري أن يكون هناك هيكل عمل أكثر تنظيمًا داخل هذه المؤسسة الكبيرة بما تحويه من لجان وخبراء كُثر، وذلك من أجل الحفاظ على أموالها وضمان توجيهها لما يخدم أهدافها الحقيقية".
ويختم بالقول "المهمة أمام الدكتور خالد العناني ستكون صعبة بلا شك، لكنها مسؤولية كبرى تفرض ضرورة الإصلاح والدعم المتوازن لمصر وللمنطقة".
من جانبه يستنكر الدكتور نزار الصياد المبالغة في الاحتفاء بفوز العناني "لا أفهم كل هذا الاحتفاء بوصول مصري إلى منصب المدير العام لليونسكو، والذي اعتبره البعض فوزًا ذا صبغة وطنية. فجنسية المدير ليست هي الأهم، بل مؤهلاته وخبرته ومواقفه".
ويتابع "اليونسكو اليوم هي إحدى منظمات الأمم المتحدة التي باتت مهلهلة إلى حدّ كبير، ولا تملك سلطة حقيقية سوى تسجيل بعض المناطق التراثية على قائمة التراث العالمي. ومصر، رغم غناها بالآثار، تُعد من بين الأقل من حيث عدد المواقع المسجّلة مقارنة بدول أخرى. نأمل أن يتغير هذا الوضع مع وصول العناني، لكن تاريخه ومواقفه السابقة لا تبشّر بذلك".
في سياق المسؤولية التي يستعد العناني لتوليها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يواجه تحديات جسيمة في إدارة منظمة تعاني من تدهور واضح، خاصة على الصعيد المالي. فقد أظهر تقييم MOPAN 2025 وهي شبكة دول مانحة تقيّم كفاءة وشفافية المنظمات الدولية أن اليونسكو سجلت التزامات مالية زائدة بلغت 5.6 مليون دولار في ميزانية 2022-2023، نتيجة تضخّم تكاليف الرواتب وسوء إدارة المخصصات. وفي مارس/آذار 2024، أقر المجلس التنفيذي إجراءات تصحيحية وكلف خدمة الرقابة الداخلية بإجراء تدقيق كشف عن ضعف في أنظمة إدارة الميزانية، مؤكّدًا الحاجة إلى تعزيز الحوكمة والرقابة المالية داخل المنظمة.
إلى جانب الخلل المؤسسي؛ تواجه اليونسكو فجوة تمويلية مزمنة منذ انسحاب الولايات المتحدة وإسرائيل عام 2018، إذ فقدت المنظمة أكبر ممول لها، قبل أن تعود واشنطن في 2023 بخطة لتمويل 22% من الميزانية المنتظمة وسداد متدرّج للمتأخرات (619 مليون دولار)، ثم تُعلن مجددًا في 2025 نيتها الانسحاب بنهاية 2026، ما يعيد حالة عدم اليقين المالي. ما يضع أمام العناني تحدي توسيع قاعدة المانحين وتنويع مصادر التمويل. إذ يقف اليوم أمام اختبارٍ جديد؛ ليحسم التاريخ ما إذا كان سطره القادم امتدادًا للجدل أم بدايةً للإنجاز.