صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
لماذا تبقى السلطة حيث المال والبنية والمعرفة القانونية؟

إدارة الإنترنت.. نقد نموذج تعددية أصحاب المصلحة

منشور الأحد 26 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في أدبيّات حوكمة الإنترنت والمنصات، تشيعُ فكرةٌ جذّابةٌ ظاهريًا؛ فبدلًا من أن تنفرد الحكومات بوضع قواعد الشبكة، يجتمع المعنيّون حول طاولة واحدة ليتشاركوا صنع السياسات. هكذا يُقدَّم نموذج تعدُّدية أصحاب المصلحة بوصفه بديلًا ديمقراطيًا.

لكن التجربة تُظهر أن المشاركةَ، إذا لم تقترنْ بقدرة تقريرية فعلية، تتحوّل إلى واجهة لتجميل من يملك المال والبنية والوقت، ليستمر في تحديد القواعد، بينما تُستبعد الفئات التي تُشغّل الشبكة وتستخدمها وتتحمّل تكلفتها.

وعد المشاركة وواقع القوة

يُعرَّف نموذج تعدُّدية أصحاب المصلحة بأنه إشراك الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمجتمع التقني والأكاديمي في صنع السياسات المتعلقة بالإنترنت. وتعود جذوره العملية إلى آليات وضع المعايير المفتوحة مثل IETF، وهي طريقة تشاركية لتطوير القواعد التقنية التي تنظّم عمل الإنترنت. 

تَمثّل النموذج مؤسسيًا مع إنشاء ICANN عام 1998، وهي هيئة دولية غير ربحية تأسست لإدارة وتنسيق نظام أسماء النطاقات وعناوين الإنترنت على المستوى العالمي. وكرّسته القمة العالمية لمجتمع المعلومات (2003-2005) عبر إنشاء منتدى حوكمة الإنترنت/IGF، بينما أسهم اجتماع نت-مونديال، البرازيل عام 2014، في بلورة مبادئه وتأكيدها.

المشاركة الديمقراطية لا تظهر في عدد المقاعد بل في حدود السلطة

نظريًا، تبدو الصورة عادلة؛ مقاعد متعددة وتنوّع جغرافي وقطاعي ولغة انفتاح تُشجّع الجميع على الحضور. لكن المشهد يتغير حين ننظر إلى توزيع القوة على الطاولة نفسها، فالشركات الكبرى تدخل وفي يدها رأس المال والبنية التحتية ومستودعات البيانات وفِرَق قانونية وتنظيمية متفرّغة، بينما يصل آخرون مُثقَلين بعوائق التكلفة واللغة والتفرّغ والسفر، لذا تظهر المشاركة واسعة من حيث الشكل، لا من حيث الفعل.

يتجلّى ذلك بوضوح في آلية عمل منتدى حوكمة الإنترنت، فالمجموعة الاستشارية/MAG التي تحدّد أجندته تُعيَّن من قبل الأمين العام للأمم المتحدة. صحيح أن المجموعة تبدو متنوعة، لكنها تبقى إدارة بالتعيين وليست تمثيلًا اجتماعيًا ديمقراطيًا مباشرًا لعمّال الشبكة ومستخدميها والمتأثرين بها، فالمشاركة الديمقراطية لا تظهر في عدد المقاعد بل في مقدار سلطة، ومتى بقيت مفاتيح القرار بعيدة عن متناول من يفترض أنهم مشاركون فإن التعدّدية تتحول إلى تسمية جديدة لميزان قوة قديم. 

تقوم الإنترنت على أكتاف آلاف العمال غير المرئيين من مهندسي الشبكات وفرق التشغيل والأمن إلى عمّال مراكز البيانات، ومُشرفي المحتوى، ومُصنّفي البيانات الذين يدرّبون النماذج الذكية. هؤلاء يضمنون استمرار الشبكة وسلامة المنصّات. مع ذلك يغيب صوتُهم عن منابر وضع المعايير والسياسات.

حتى حين تُعلن هيئات دولية أن أبوابها مفتوحة للجميع، تبقى عتبات الدخول مرتفعة، بسبب تكاليف السفر، وحواجز اللغة التقنية والقانونية، وساعات المشاركة غير المدفوعة التي لا يطيقها إلا من يملك الموارد.

ما الذي يكشفه الواقع؟

أمام هذا النمط الثابت في نموذج تعدُّدية أصحاب المصلحة؛ تحسم المقدرة الكثيرَ من النزاعات، من بينها النزاع حول من يملك حق تشغيل النطاق (.amazon). حُسمت المسألة لصالح شركة أمازون التي تملك العلامة التجارية رغم الدلالة الجغرافية/الثقافية للاسم واعتراض دول الأمازون؛ البرازيل وكولومبيا وفنزويلا وغيرها. 

في الاتجاه نفسه، أثارت محاولة بيع نطاق (.org) إلى صندوق استثماري خاص بين عامي 2019 و2020 جدلًا كبيرًا. فمع أن منظمات المجتمع المدني حول العالم عبّرت عن رفضها الشديد، ظل القرار الحقيقي بيد عدد محدود من الهيئات داخل منظومة إدارة الإنترنت. ولم تتغير النتيجة إلا بعد أن التقت موجة الاعتراضات الشعبية مع مخاوف مؤسسات الحوكمة من فقدان سمعتها ومصداقيتها. 

في سياق مختلف، تُظهر المنصات حاجزًا آخر بين المشاركة والقدرة؛ في عام 2020 وافقت فيسبوك على تسوية بقيمة 52 مليون دولار لتعويض آلاف مُشرفي المحتوى في الولايات المتحدة عن أضرار نفسية نجمت عن التعامل اليومي مع مواد عنيفة ومروّعة. كان ذلك اعترافًا قانونيًا بالتكلفة الإنسانية لعملٍ يُبقي المنصة صالحة للاستخدام، لكنه لم يمنح هؤلاء العمال صوتًا في القواعد التي تنظّم عملهم. وفي نيروبي، خاض مشرفون يعملون عبر شركتي تعهيد نزاعًا قضائيًا انتهى عام 2024 بسماح القضاء الكيني بمقاضاة ميتا محليًا على خلفية الفصل والتمييز والحق في التنظيم.

هذه الوقائع حلقاتٌ ضمن سلسلة واحدة؛ من يملك الموارد يضع القاعدة وتُترك التعدّدية ديكورًا لغويًا ما لم تُقلب معادلة التمثيل والملكية.

من الشفافية إلى إعادة التملّك

مَن يملك الكابل ومركز البيانات والرقاقة والخوارزمية والسحابة يمسك عمليًا مفاتيح القرار، ويقرر مسارات الاستثمار وتسعير المرور ويحتفظ ببيانات المليارات. عند هذا المستوى لا تبقى الحوكمة مسألة صواب تقني لكنها مسألة توزيع عادل للملكية والسلطة.

في هذا السياق يبرز مفهومُ المرفق العام الرقمي بوصفه ترتيبًا مؤسسيًا يعيد تعريف الموارد الرقمية الحرجة باعتبارها منفعةً عامةً تُدار ديمقراطيًا وتُحاسَب علنًا، من دون تضخيم بيروقراطي أو بطء مُعطِّل. لا ينبغي أن يكون ما يقوم عليه التواصل والاقتصاد والمعرفة رهينة لملكية خاصة مغلقة، إنما يكون جزءًا من مشاع تنظّمه قواعد واضحة وشفافة. من أجل هذا يحتاج نموذج تعدُّدية أصحاب المصلحة للكثير من النظر.

على المدى القصير، يمكن أن يبدأ الإصلاح بخطوات واضحة؛ مثلًا ينبغي أن تنشر الهيئات التي تضع القواعد والمعايير التقنية محاضر اجتماعاتها ونتائج التصويت عليها، وأن توضح من أين يأتي تمويلها؟ ومن يشارك في قراراتها.

كما ينبغي أن يُسمح بوجود مراقبين دائمين يمثلون النقابات ذات الصلة والمبادرات المجتمعية والتعاونيات الرقمية داخل مؤسسات مثل ICANN وغيرها، مع منحهم الحق في الاعتراض المبرّر الذي يُلزم الجهة المسؤولة بالرد علنًا خلال فترة محددة.

صحيح أن هذه الإجراءات وحدها لن تغيّر موازين القوة فورًا، لكنها خطوة ضرورية لإنهاء الغموض المحيط بكيفية صنع القواعد ومن يملك سلطة وضعها.

في المدى المتوسط، يمكن توجيه الجهود نحو ما يمكن تسميته بالترخيص المشروط؛ أي شركة ترغب في إنشاء كابل بحري أو مركز بيانات أو نقطة تبادل إنترنت يجب أن تلتزم بشروط واضحة، من بينها وجود ممثلين عن العمال والمستخدمين في الجهة التي تشرف على تشغيل هذه البنية، ووضع نظام تسعير عادل يمنع الاحتكار أو الاستغلال، والتأكّد من وجود خطط بديلة تقلل من احتمالات انقطاع الخدمة.

أما على مستوى المنصات الرقمية الكبرى، فيجب أن تُلزم القوانين هذه المنصات بفتح واجهاتها بحيث يتمكن المستخدمون من نقل حساباتهم وبياناتهم وروابطهم الاجتماعية إلى منصات أخرى بسهولة ومن دون قيود أو رسوم.

على المدى الطويل، يتطلّب الإصلاح مسارًا تدريجيًا لإعادة تملّك البنية الرقمية العامة. يمكن للدول والمجتمعات أن تستخدم أدوات مالية وقانونية مثل الشراء العام أو تحويل الديون إلى حصص ملكية لنقل إدارة الموارد الحيوية إلى مؤسسات عامة. 

ويمكن أيضًا إنشاء هيئة عالمية ديمقراطية للموارد الرقمية تتولى تنسيق إدارة الممرات البحرية والكابلات ومفاتيح الإنترنت الأساسية باعتبارها موارد مشتركة بين الشعوب، تحت رقابة متعددة المستويات تضمن الشفافية والمساءلة. 

ويبقى التمويل عنصرًا أساسيًا لضمان استمرار هذا المسار. قد يكون الخيار إنشاء ما يُمكن أن نسميه بصناديق المنفعة العامة الرقمية، وتُجمع أمواله من رسم يحصّل عالميًّا، يُفرض على الإعلانات الرقمية وعلى استخدام الممرات البحرية التي تمر عبرها الكابلات الدولية. لتُستخدم هذه الأموال لدعم المجتمعات التي تعاني من ضعف البنية الرقمية، ولمساعدة البلديات الصغيرة على إنشاء شبكات محلية أو تحسين الوصول إلى الإنترنت، ولتمويل مشروعات المحتوى والتعليم المفتوح. 

أيضًا يجب الاعتراف بحقوق الوصول إلى الإنترنت والخصوصية وحرية التعبير باعتبارها حقوقًا اجتماعيةً أساسيةً يمكن للناس الدفاع عنها أمام القضاء، وأن تُمنح جهات تنظيمية ديمقراطية صلاحيات حقيقية لضمان حماية هذه الحقوق ومحاسبة الشركات المخالفة.

التجربة تقول بوضوح إن الانفتاح من دون مساواة مادية لا يمنح أحدًا صوتًا، والمشاركة التي لا تُسندها سلطة ومساءلة تتحول إلى قشرة تلمّع الوضع القائم.

ولأن الإنترنت نشأت من لقاء التمويل العام بخيال الباحثين ومهارة المهندسين، يمكن لمستقبلها أن يستعيد هذا المنطق المشترك؛ من بنية تُدار كمنفعة عامة تحكمها قواعد واضحة، وتمثيل حقيقي لمن يشغّلون الشبكة ومن يعتمدون عليها يوميًا، إلى حقوق اجتماعية قابلة للنفاذ لا تُختزل في نصوص قانونية أو شروط خدمة لا يقرأها أحد.