طريق الإصلاح الآمنة
منعطف خطر
"وها قد مرت عشر سنوات على تسلمه السلطة وما يزال بشار الأسد رئيسًا لسوريا، بل إنه أقوى من أي وقت مضى وبخاصة مع عدم وجود أي تهديد له في السلطة في الوقت الحالي".
هكذا تحدَّث تقرير نشرته BBC عام 2010 في الذكرى العاشرة لتولي الأسد الابن مقاليد السلطة في سوريا خلفًا لوالده، تحت عنوان "بشار الأسد يحكم قبضته على سوريا"، مُسهبًا في ذكر الأدلة التي تؤكد سيطرة الرئيس السوري الكاملة على الوضع بالحديد والنار، وإقصاء كل الأصوات المعارضة، مُغلقًا الباب أمام أي تحركات شعبية محتملة.
بعد أقل من ثلاث سنوات، كان ملايين السوريين في الشوارع يُطالبون برحيل الأسد، الذي واجه الاحتجاجات السلمية بالرصاص والمدافع، لتدخل سوريا في سنوات طويلة من الظلام خسرت خلالها كل مقوماتها كدولة، وكل طموحاتها كشعب.
هذه صفحة واحدة من مجلد يزدحم بأمثلة مشابهة لدول كانت تظن أنها مستقرة، وأنظمة كانت تعتقد أنها مُسيطرة، قبل أن يتضح أن هذا الاستقرار هشٌّ، وأن هذه السيطرة وهمٌ، وأن الأوطان تدفع ثمنًا باهظًا في سبيل اكتشاف البديهيات.
اتجاه واحد
يُحذِّر الرئيس عبد الفتاح السيسي من انهيار الدولة، ومن أنها لو سقطت مجددًا في الفوضى فلن تقوم لها قائمة، ويُذكِّرنا بالخطر الوجودي الذي كان يهددها قبل سنوات ونجت منه بصعوبة.
لا يُسقِط تعدد الأصوات أوطانًا لكنَّ الصوت الواحد يفعل
نُصدّق أن الرئيس لا يريد لمصر الفوضى؛ فلا مصلحة له في ذلك. بقي أن يصدق الرئيس أننا لا نريد لمصر الفوضى، فنحن مثله لا مصلحة لنا في ذلك. لكنَّ هناك خلافًا واضحًا في الطريق الذي يعتقد كل طرف أننا نتجنب الفوضى بالسير فيها؛ فبينما تسود قناعة في دوائر الحكم بأن الطريق إلى الاستقرار تمر عبر السيطرة والغلق وتوحيد الصوت، يقول التاريخ إن كل الدول التي نخشى مصيرها الآن سلكت قبلنا هذه الطريق، وهي تعتقد أيضًا أنها طريق النجاة.
على سبيل الحصر لا المثال، لم تسقط دولةٌ في الفوضى أو وقفت على حافة الانهيار إلا وكانت تعتمد المنع والإغلاق والاحتكار نظام حكم، لحماية الأوطان من شيء ما. على سبيل الحصر لا المثال، لم تسقط دولة في الفوضى أو وقفت على حافتها إلا وكان حكامها يعتقدون حتى ساعة واحدة قبل الانفجار أنها مستقرة.
لا يعني الاستقرار شيئًا، ما دام مبنيًا على الخوف.
أمامك نفق
ربيع قصير عاشته سوريا في بدايات حكم بشار، لكنَّ ضبابَ الماضي انتصر.
الطبيب الثلاثيني ذو التعليم والثقافة الأوروبية بدا وكأنه آتٍ بمشروعٍ مختلفٍ عن والده؛ ظهرت المنتديات السياسية والثقافية، أصبحت النقاشات تدور في العلن حول الإصلاح والانفتاح وإلغاء الطوارئ وتحرير المعتقلين وتقوية المجتمع المدني، والدولة من جانبها أعطت إشارات على دعمها هذا التوجه، بإطلاقها عددًا من المعتقلين وتخفيف نبرة إعلامها الرسمي ضد المعارضين، وعقد لقاءات غير مسبوقة بين مسؤولين ومثقفين، ومفردات غير معتادة في الخطب الرئاسية.
لكنَّ الحرس القديم أقنع بشار بخطورة هذه المنتديات، وقالت له أجهزته الأمنية إنها لو تُركِت ستُسقط النظام خلال سنوات قليلة، فأغلقوها واعتقلوا روادها وعادت القبضة الحديدية لتحكم. لم تُترك المنتديات، ومع ذلك النظام سقط خلال سنوات قليلة!
لا يُسقِط تعدد الأصوات أوطانًا، لكنَّ الصوت الواحد يفعل.
خفّف السرعة
تحتاج مصر إلى إصلاح حقيقي يؤدي إلى تغيير مأمون، أو على الأقل إلى استقرار صلب. لم تعد صيغة الحكم التي ارتضاها البعض اقتناعًا والغالبية اضطرارًا منذ 2013 صالحةً للعمل في 2025، ولا مؤهلةً للصمود حتى 2030 بعد تغير الظروف والوجوه، وزوال التهديدات القديمة وظهور أخرى جديدة.
يصبح الإصلاح فعالًا حين يكون اختياريًا، لا تحت ضغط شارع ثائر وغضب متفجر. لو أنَّ حسني مبارك ألقى خطاب الأول من فبراير قبلها بأسبوع واحد فقط، لكانت صوره تملأ الشوارع حتى الآن، ولَذَكَرَه التاريخ والمصريون رئيسًا ترك الحكم طواعية وأدار مرحلة انتقال آمن وهادئ. لكنَّ تأخّر هذا الخطاب أسبوعًا واحدًا فقط جعل الملايين المحتشدين في الشوارع يرفضون بقاءه ساعةً واحدةً أكثر، ويصرون على رحيله فورًا وبلا شروط.
عندما دعا الرئيس إلى حوار وطني قبل سنوات لم تنجح التجربة لأنه كان حوار الخائفين والمضطرين
نحن أمام لحظة مناسبة تمامًا لإصلاحٍ اختياريٍّ ناجحٍ. لحظة نادرة يتفق فيها الشارع والمعارضة والسلطة على الخوف من خيار الثورة والتغييرات العنيفة. فبصرف النظر عن أسباب كل طرف، يبدو أن الجميع بات على قناعة بأنه لن يكون المسيطر على هذا الغضب إن حدث؛ لا السلطة ولا المعارضة ولا حتى الشارع.
إذا كان الانفجار الناتج عن غياب الحلول ليس هدفًا، والاستقرار القائم على قوة القبضة ليس حلًا، فيجب أن يكون الإصلاح الصادق خيارًا.
منطقة عمل
أولى خطوات العلاج دومًا هي الاعتراف بوجود مشكلة، لن يجدي تحميل ثورة يناير المسؤولية عن كل كارثة حتى بعد 15 عامًا من قيامها وبعدما أصبح شبابها شيوخًا ورغم أنها لم تحكم أصلًا.
نحن أمام دولة يحكمها اتجاه واحد وصوت واحد منذ أكثر من 12 عامًا بصلاحيات مطلقة ودون منافسة من أحد، ورغم ذلك تحاصرها الأزمات من كل جانب باعتراف السلطة قبل غيرها، من الانتخابات والمشاركة السياسية إلى التعليم والصحة وحوادث القطارات، ومن التوترات على كل الحدود إلى نتائج المنتخب الأول.
عندما دعا الرئيس إلى حوار وطني قبل سنوات لم تنجح التجربة لأنه كان حوار الخائفين؛ بين سلطة مقتنعة بأن المعارضة تتربص بها وتنتظر أي فرصة للانقضاض على كرسي الحكم، ومعارضة تُجري الحوار داخل القاعة بينما خارجها لا تتوقف الاعتقالات والملاحقة على الرأي. ولأنه كان حوار المضطرين؛ بين سلطة تجبرها التغيرات الدولية والإقليمية على وضع بعض مساحيق التجميل على سياساتها، ومعارضة لا يمكنها رفض دعوةَ حوارٍ أطلقها رئيس الجمهورية، مهما كانت التحفظات على جوهرها.
نحتاج إلى حوار وطني فعلًا، لكن من نوع الحوارات الوطنية التي يجلس فيها المختلفون على الطاولة نفسها لطرح أفكارهم وخلافاتهم ومخاوفهم، وللبحث عن إجاباتِ أسئلةٍ لا يخشون تبعات طرحها. حوار نخرج في نهايته بتصوّر واضح للدولة التي نسعى إليها وشكل نظام الحكم فيها وعلاقة مؤسساتها ببعضها البعض وبالمجتمع، مع خطط لإصلاح التعليم والصحة وتطوير البنية التحتية وتقوية الاقتصاد.
حوار جاد يؤدي إلى إصلاح حقيقي تظهر أماراته حين تسند السلطة مسؤولية إدارة أي قطاع لأكفأ من فيه ولو كان أعتى خصومها، وتوظف كل عقل لخدمة بلده دون التفتيش داخله عن الآراء والمواقف، وتُشجع الجميع على التفكير وإطلاق الخيال.
مفترق طرق
الاستقرار جيد جدًا، لكن حين يكون أساسه الرضا لا الخوف.
الإصلاح بديل آمن للخائفين من الانفجارات، لكن تأخر البدء فيه قد يفقده جدواه.
الاتفاق على أسس اللعبة السياسية، ولو كانت ظالمة وبكثير من التنازلات، خير من اللعب بلا قواعد ولا أسقف.
تتبقى في فترة الرئيس الأخيرة 4 سنوات ونصف السنة، وهي كافية جدًا لبدء عملية إصلاح شاملة تؤسس لدولةٍ أكثر حداثةً وانطلاقًا، وحكمٍ أكثر ثقةً واستقرارًا، وانتقالٍ أكثر أمنًا وسلاسة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.

