خنق منظمات المجتمع المدني بين أروقة "التضامن" ومتاهة "الجهات المختصة"
قبل ثلاث سنوات، ونحن نخوض أولى خطواتنا في مؤسسة حرية الفكر والتعبير للتسجيل وفق قانون الجمعيات الأهلية، لم نتوقع أن تكون الطريق ممهدةً لعملنا، رغم مفارقة إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2022 عام المجتمع المدني في مصر.
بدأنا إجراءات التقدم بطلب إشهار مؤسسة حرية الفكر والتعبير لحقوق الإنسان في ديسمبر/كانون الأول 2022، وبعدها بثمانية أشهر كاملة، في 27 يوليو/تموز 2023، صدر قرار الإشهار. مُدّة اعتبرها كثيرٌ من الأصدقاء وقتًا قصيرًا مقارنةً بحالات أخرى استغرق الرد فيها وقتًا أطول، أو لم يأتِ من الأساس، إضافة إلى التدخل الإداري في رفض بعض أعضاء مجالس الإدارة/الأمناء.
وقتها كنت أسأل نفسي: حسنًا، إذا كان الإشهار بعد عدة أشهر إنجازًا، فكم سنستغرق من الوقت لنتمكن من تنفيذ المشروعات الحقوقية التي ستعمل عليها المؤسسة؟ أستطيع الآن أن أخبركم: قد يستغرق الأمر سنوات وسنوات.
ها نحن اليوم، بعد سنتين ونصف السنة من الإشهار، نراوح مكاننا في أروقة وزارة التضامن الاجتماعي، حيث المكاتب متهالكة والموظفون متعَبون للغاية، والإجراءات التعسفية لا نهاية لها. ومن بين ما واجهناه تعطيل البنوك الخاصة تفعيل حسابنا البنكي لـ11 شهرًا منذ يونيو/حزيران 2024 إلى مايو/أيار 2025، في إجراء فسّره موظف في أحد هذه البنوك بأن هناك "جهات أُخرى" يجب أن توافق على تفعيل الحساب.
خلال الأشهر الستة الماضية، تقدمنا لوزارة التضامن الاجتماعي بطلبين للحصول على منحتين من أجل تنفيذ بعض الأنشطة في مجالات دعم حرية التعبير وحرية الإعلام وحرية التعبير الرقمي. بعدها، رأيت بنفسي تقرير مديرية التضامن الاجتماعي في القاهرة الذي أوصى بقبول المنحتين استنادًا إلى أنهما تتوافقان مع النظام الأساسي للمؤسسة، ونصوص قانون تنظيم العمل الأهلي رقم 149 لسنة 2019.
لكن بعد توزيع ملفات المنحتين على الجهات المختصة، وهي لمن لا يعرف جهات أمنية منحت نفسها حق الموافقة أو الرفض لكل المنح الواردة إلى الجمعيات والمؤسسات الأهلية في مصر، تلقيّنا هذا الشهر خطابًا من نصف صفحة من وزارة التضامن الاجتماعي، تُبلغنا فيه برفض طلب المنحتين.
ويوثق تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعنوان "اللي الأمن يقوله يتعمل: تقييد حرية تكوين الجمعيات المستقلة أو الانضمام إليها في مصر" جانبًا من هذه التدخلات الأمنية الواسعة في عمل المجتمع المدني.
هكذا تعيش المؤسسات والجمعيات الأهلية واقعًا مؤسفًا لا سلطةَ فعليةً فيه للجهة الإدارية؛ فلا قيمة لما تراه وزارة التضامن الاجتماعي والمديريات والمكاتب التابعة لها أمام رأي الأمن.
من جانب آخر، لا تصدر قراراتُ رفضِ المنح المقدمة إلى الجمعيات والمؤسسات في المجالين الحقوقي والتنمية مُسبَّبةً، فتنعدم سُبل مناقشتها مع الجهة الإدارية أو الطعن عليها قضائيًا. ومع خنق هذه الآليات بدلًا من خلقها تُترك التفسيرات والأسباب للهمسات والتفسيرات التي يتناقلها البعض هنا وهناك.
تارة يتحدث البعض عن "تعليمات عليا" برفض التمويل الأجنبي للجمعيات والمؤسسات الأهلية، و"تارة أخرى" يشير البعض إلى عدم حماسة وزيرة التضامن الاجتماعي مايا مرسي لعمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية غير المُنضوية تحت راية التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، الذي أُطلق استجابةً لإعلان 2022 عامًا للمجتمع المدني.
للتحالف قانونٌ خاصٌ ينظم عمله ويمنحه استقلالية تحت "رعاية وعناية" رئيس الجمهورية. لكنه رغم ذلك يخضع لهيمنة مركزية من بعض الجهات السيادية، يُمنح في مقابلها حريةً في الحركة والعمل لا تتوفر لغيره من الجمعيات والمؤسسات غير المنضوية في إطار هذا التحالف.
وبينما يتكرر ظهور الوزراء في الفعاليات التي ينظمها التحالف حاولنا وغيرنا من الجمعيات عقد ولو لقاء رسمي واحد مع مسؤولي وزارة التضامن الاجتماعي للحصول على تفسير لرفض طلباتنا أو إطالة أمدها دون جدوى، وكأن مسؤولي الوزارة خصصوا أوقاتهم فقط لدعم التحالف.
في هذه الظروف الصعبة ينبغي التأكيد على أمور أساسية:
الأمر الأول أننا لن نترك حقنا في التنظيم من خلال قانون الجمعيات الأهلية، ولن نغادر مواقعنا على الأرض في خدمة المصريات والمصريين. فالعملُ الحقوقي المُنظَّم أداةٌ مهمةٌ لتمثيل المواطنين والدفاع عن حقوقهم ونقد وتطوير السياسات العامة والتشريعات، وأخيرًا هو جزء أساسي من الالتزامات الدولية للحكومة المصرية، وهي التزامات لن تنقضي، حتى وإن تراجع الاهتمام الدولي بقضايا حقوق الإنسان.
الأمر الثاني أننا نعتبر تجربتنا في التسجيل تحت قانون الجمعيات الأهلية نموذجًا عمليًا على انفتاح وشفافية المنظمات الحقوقية المصرية، ورغبتها الصادقة في تحسين حالة حقوق الإنسان. لذلك فلن ندَّخر جهدًا في فضح التعسف والانتهاكات التي نتعرض لها، والتي تتلاشى أمامها قيمة التصريحات الرسمية عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني، فهناك من لا يريد للمجتمع المدني المستقل أن يعمل من الأساس، ناهيك عن أن يكون شريكًا لأحد.
الأمر الثالث أن هذه "الاعتبارات الأمنية" التي تُحاصر بموجبها المنظمات الحقوقية المستقلة وغيرها من منظمات المجتمع المدني، لا تراعي الحقائق على الأرض. فالعمل الحقوقي الذي تطور في مصر على مدار عقود يرتبط ارتباطًا وثيقًا بهموم المواطنين ومشكلاتهم اليومية، كما أنه يمثل ضمانة مهمة في استقرار حكم القانون.
الخلاصة، لن يكون بالإمكان استئصال المنظمات الحقوقية بل ستبقى وتنتزع المساحة تلو الأخرى، ولو كره الكارهون.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.