خنق القضية الفلسطينية.. من حزام ترامب إلى حزام نتنياهو
في إطار مساعيها لإعادة رسم الشرق الأوسط بما يحقق لإسرائيل أمنها وتفوقها، وتكريس قبولها إقليميًا لا بوصفها أمرًا واقعًا فحسب، بل باعتبارها قوةً مركزيةً لا غنى عنها، تضغط الولايات المتحدة الأمريكية لتمرير حزمة من المشروعات المشتركة بين تل أبيب ودول المنطقة.
هذه المشروعات لا تستهدف تحقيق التنمية والازدهار، على ما يدّعي الأمريكيون، بقدر ما تهدف إلى تشكيل حزام اقتصادي عازل، يمنح الدولة العبرية مجالًا أمنيًا ممتدًا، ويعمل في الوقت ذاته على طيّ صفحة الحقوق الفلسطينية واستبدال منطق الصفقات والمصالح بها.
وفي الوقت الذي تؤمن فيه حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة بأن القوة العسكرية وحدها قادرة على تأمين بقائها وتحقيق مطامعها في التوسع والهيمنة، تراهن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على استراتيجية موازية، تقوم على توريط دول الشرق الأوسط، خاصة دول الطوق، في مشروعات اقتصادية مشتركة مع تل أبيب، باعتبارها الضامن الأنجع لأمن الدولة العبرية واستمرار تفوقها وفرض هيمنتها الإقليمية.
الازدهار على طريقة ترامب
قبيل تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة بنحو أسبوع، كشف مستشاره للأمن القومي، مايك والتز، ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، التي يُقدَّم فيها الاقتصاد على السياسة.
والتز لخّص رؤية الإدارة الجمهورية في حديثه إلى قناة فوكس نيوز بقوله "أعتقد أن الوقت حان لصياغة اتفاق ما… لا يقتصر على منع تكرار أحداث السابع من أكتوبر فحسب، بل يحقق استقرارًا حقيقيًا في الشرق الأوسط"، مشيرًا إلى أن "اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والإمارات والبحرين تمثل نموذجًا لما ينبغي البناء عليه".
وأضاف والتز "أريد أن نتحدث، مع نهاية ولاية الرئيس ترامب، عن مشروعات بنية تحتية ومياه وسكك حديد… فكلما فعلنا المزيد من ذلك، تركنا هذه المظالم التاريخية خلفنا. هذا هو الأمل"، معتبرًا أن قدرة ترامب على إبرام الصفقات تمثل الضمانة الأساسية لإنجاح هذا التوجه.
ما طرحه والتز لا يخرج في جوهره عن كونه إعادة إنتاج لـصفقة القرن التي طرحها ترامب خلال ولايته الأولى، مع دمجها ببنود الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها تل أبيب مع بعض العواصم العربية تحت رعايته.
غير أن هذه الصيغة المعدلة أخذت في الحسبان ما طرأ على المنطقة من تحولات عميقة بعد "طوفان الأقصى"، وما تلاه من مجازر وحرب إبادة جماعية شنّها الاحتلال على قطاع غزة، ما فرض على إسرائيل عزلةً دوليةً، ترغب واشنطن في إنهائها عبر مشروعها.
أمركة ألمانيا واليابان بعد الحرب
تنطلق الإدارة الأمريكية من قناعة مفادها أن نموذج ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية قابلٌ للاستنساخ في الشرق الأوسط، انطلاقًا من وهمٍ يرى أن تحويل الفلسطينيين إلى تروس داخل ماكينات الاقتصاد الإسرائيلي كفيل بخلق قبول قسري للاحتلال كأمر واقع.
غاب عن ترامب وتجار العقارات الذين يحيطون به أن اليابانيين والألمان لم تُسلب منهم دولتهم، ولم يُطلب منهم التخلي عن أرضهم، بينما يُراد اليوم من الفلسطينيين، ومعهم العرب، التنازل عن الأرض والوعي والكرامة، مقابل وعود جوفاء بالازدهار والاستقرار.
استراتيجية السلام الاقتصادي ليست جديدةً، فهي مستوحاة من رؤية الرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، التي طرحها في تسعينيات القرن الماضي بعد اتفاقيات أوسلو، في كتابه الشرق الأوسط الجديد.
قدّم بيريز حينها تصورًا لتفكيك الصراع العربي الإسرائيلي عبر تحويل المنطقة إلى فضاء للتعاون بقيادة إسرائيل، التي تملك تفوقًا تكنولوجيًا وصناعيًا وزراعيًا. ووفق هذه الرؤية، يجب على العرب قبول الدولة العبرية منصةً لانطلاق مشاريع البنية التحتية والطاقة والتقنية، بما يحقق لهم "الازدهار الاقتصادي" ويُلهيهم عن مطالبهم في التحرر وتقرير المصير.
بعد أحداث الربيع العربي، صاغ بيريز رؤيته بشكل أكثر وضوحًا، معتبرًا أن الإحباط الأكاديمي العربي وغياب فرص العمل أحد أسباب اندلاع الثورات، وأوضح أن إسرائيل يمكن أن توفر فرص عمل لهؤلاء العلماء "بما يحقق أساسًا للتعايش المشترك"، ليفهم من ذلك أن إسرائيل تسعى لسرقة العقول العربية واستغلالها لخدمة مشروعها الإقليمي، وهو ما يُكمل استراتيجية الربط الاقتصادي والسيطرة الفكرية.
الهدف المقاومة
تأتي خطة "شروق الشمس لتعمير غزة"، التي جرى تسريبها قبل أيام، بوصفها امتدادًا مباشرًا لهذه الرؤية، إذ تطرح مشروعًا لتحويل ركام القطاع إلى وجهة ساحلية مستقبلية، ونقل سكان غزة من "الخيام إلى الشقق الفاخرة"، ومن "الفقر إلى الازدهار"، بتكلفة إجمالية تُقدَّر بنحو 112.1 مليار دولار على مدار 10 سنوات، مقابل شرط جوهري يتمثل في نزع سلاح حركة حماس وتفكيك جميع الأسلحة والأنفاق.
الخطة، التي أعدّها فريق يقوده جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، وبمشاركة المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، تتجاهل بصورة فجة الواقع الإنساني لسكان غزة، إذ لا تجيب عن السؤال الأكثر إلحاحًا "أين سيقيم نحو مليوني فلسطيني نازح خلال سنوات تنفيذ المشروع؟"، وهو ما يعيد إلى الواجهة سيناريو التهجير، خاصة أن من يُدفع إلى مغادرة القطاع لن يُسمح له بالعودة بعد أن يُعاد تشكيله ليصبح "ريفييرا الشرق الأوسط".
الهدف الخفي للخطة الأمريكية يبدو واضحًا "استئصال كل ما يمتّ للمقاومة بصلة، من السلاح إلى الوعي والفكرة"، تمامًا كما سيُزال الركام من المدن والأحياء، مع دفع أكبر عدد ممكن من السكان إلى خارج القطاع، في محاولة لخلخلة الحاضنة الاجتماعية لحركات المقاومة الفلسطينية وتفكيك بنيتها على المدى الطويل.
الهدف نفسه يتكرر في المشروع الأمريكي الإسرائيلي للمنطقة الاقتصادية في جنوب لبنان، الذي أعلنه المبعوث الأمريكي توم برّاك قبل شهور، إذ يهدف إلى فرض واقع أمني وديموغرافي يضمن حماية إسرائيل عبر الحزام الاقتصادي.
برّاك تحدّث من بيروت عن المنطقة الاقتصادية، التي يمكن أن تحقق الازدهار وفق رؤيته، وقال "ماذا نقول للناس في جنوب لبنان هل نقول لهم أعطونا سلاحكم واذهبوا لزرع بعض الأشجار؟ لا يساعدنا ذلك علينا أن نتمكن من مساعدتهم وسنعمل معًا من خلال خلق وإنشاء صندوق اقتصادي يؤمّن الرزق والحياة، وسيكون موجودًا إذا كانت إيران تريد ذلك أم لا".
صفقة الغاز الكبرى
على الرغم من أن مشروعات غزة وجنوب لبنان غير قابلة للنجاح، نجحت إدارة ترامب في إخراج "أكبر صفقة غاز في تاريخ إسرائيل"، لتوريد الغاز الطبيعي إلى مصر بقيمة 34.6 مليار دولار، ما "يعزّز إسرائيل قوةً إقليميةً في مجال الطاقة"، حسبما أعلن نتنياهو، فيما اعتبرت القاهرة أنه مشروع تجاري يخضع لقواعد السوق وآليات الاستثمار الدولي، دون أي أبعاد سياسية واضحة.
الصفقة، التي جاءت بعد ضغوط أمريكية، تهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية للرئيس الأمريكي وعائلته، التي تمتلك حصةً كبيرةً من أسهم شركة شيفرون، المستثمر الأجنبي الرئيس في حقل ليفياثان، الذي يُستخرج منه الغاز، كما أنها تخدم مساعي واشنطن لإخراج إسرائيل من عزلتها الدولية ودمجها في الإقليم، والترويج لذلك بوصفه أحد إنجازات ترامب، إلا أن أسوأ ما في هذه الصفقة أنها تهدف إلى تكبيل يد مصر عن التعاطي مع القضية الفلسطينية، التي طالما تعاملت معها القاهرة باعتبارها قضية أمن قومي مصري.
ومثلما تسعى الولايات المتحدة إلى تطويق إسرائيل بحزامٍ اقتصاديٍّ يضمن أمنها ويحمي تفوقها؛ تعمل الدولة العبرية على تطويق الدول العربية التي ترى فيها تهديدًا محتملًا في المستقبل، عبر تدشين "حزام نار" يهدف إلى إذكاء النزاعات الإثنية والطائفية والقبلية والمناطقية داخل الدول الأكثر هشاشة، كما يحدث في السودان وليبيا واليمن.
فلم يكن اعتراف تل أبيب بما يسمى "صوماليلاند"، قبل أيام، خطوةً تستهدف تهجير الفلسطينيين فحسب، لكنها تتجاوز ذلك إلى مسعى أوسع في التموضع عند مدخل البحر الأحمر، بما يتيح لإسرائيل التحكم في حركة الملاحة بهذا الممر المائي الحيوي، ويمنحها أوراق ضغط تمس أمن قناة السويس، فضلًا عن اقترابها جغرافيًا من الحوثيين في اليمن، بما يتيح لها دعم حلفائها الانفصاليين في جنوب البلاد.
الرهان على ما يُسمّى "السلام الاقتصادي"، أو على حماية أمن إسرائيل عبر تشبيكها مع محيطها الإقليمي بمشروعات وصفقات كبرى، رهان خاسر؛ فأصحاب القضية، ومن خلفهم الشعوب العربية، لن يقبلوا الخضوع أو التنازل عن حقوقهم وأرضهم، مهما جرى تغليف هذه المشاريع بشعارات الازدهار، أو مررتها أنظمة رضخت للأمر الواقع.