الصورة منشورة بمصاحبة التقرير في نيويوركر

هل قتل طبيب أسناني زوج عشيقته؟

منشور السبت 24 نوفمبر 2018

 

تُعد هذه القصة نمطًا استقصائيًا من "صحافة الحوادث"    

خيانة، هويات مزيفة وتخدير مميت: دراما معقدة في قاعة محاكمة، تتكشف في الجانب الراقي من نيويورك

جيمس لاسدن – نيويوركر

"اتُهم طبيب أسناني مؤخرًا بالقتل".. تبدو كجملة شد انتباه تصلح لحفلات العشاء، لكنها في حالتي كانت حقيقية، ففي 15 أكتوبر/ تشرين أول 2015 اتُهم الدكتور جلبرتو نونيز، طبيبي منذ سنوات عديدة، بقتل صديقه توماس كولمان من بلدة ساجورتيس بنيويورك وذلك عن طريق دفعه لابتلاع "مادة أدت إلى وفاته". وُجهت إليه أيضًا تهمتين بالتزوير، إذ انتحل نونيز صفة عميل بوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، يبدو أنه قال للناس أنه مصرح له بزرع أجهزة تعقب في أسنان المرضى.. من المزعج أن تسمع خبرًا كهذا يخص طبيب أسنان العائلة.

قُتل كولمان قبل فجر 29 نوفمبر/ تشرين ثان 2011، في موقف سيارات صالة بلانيت فيتنيس Planet Fitness الرياضية في منطقة أوليستر الواقعة على بُعد خمس عشرة دقيقة جنوب ساجورتيس. اعتاد كولمان، الذي كان في الثانية والأربعين من عمره، أن يمر على الصالة الرياضية في طريقه للعمل. في وقت متأخر من صباح ذاك اليوم؛ عندما لم يظهر في مكتبه، عثرت زوجته ليندا على جثته في مقعد السائق بسيارته، وبعد أربعة سنوات اتهم نونيز بقتله.

أسرار قذرة 

وفقًا لممثلي الادعاء، فقد أقام نونيز صاحب الخمسين عامًا علاقة مع ليندا كولمان، وانتحل شخصية عميل بالاستخبارات الأمريكية كجزء من خدعته المرسومة لحثها على هجر زوجها. وحين أنهت العلاقة هددها نونيز بالانتحار، في النهاية تحولت دوافعه الانتحارية إلى القتل. صبيحة يوم مقتل توماس، التقاه نونيز في الصالة الرياضية. تظهر تسجيلات كاميرات المراقبة أن سيارتيهما تجاورتا لمدة وصلت إلى 28 دقيقة، ثم تحركت سيارة نونيز بعيدًا. عُثر في جثة توماس على عقار ميدازولام الذي لا يستخدمه إلا الأطباء وأخصائيو الأسنان، وعُثر على علب العقار في مكتب نونيز، كما تبين أنه أجرى بحثًا عن العقار عبر صفحات ويكيبديا.

وطنت نفسي على البحث عن طبيب أسنان جديد، لكن في أبريل/ نيسان 2016 كُسرت سنتي، وكنت بحاجة إلى رعاية عاجلة. خرج نونيز في هذا الوقت من سجن المقاطعة بكفالة بعد أن أمضى فيه واحدًا وأربعين يومًا، فاتصلت لتحديد موعد دون صعوبة.

كان مكتبه الواقع في كينجستون المجاورة لأولستر مُقبضًا، وبدا ابنه -الذي يعمل موظف استقبال- مكتئبًا، وكذلك بدا مدير مكتبه، الذي أكد لي بولاء مؤثر (في غير محله بالطبع) أن دكتور نونيز بريء.

لم أعبأ كثيرًا بالمعايير الاجتماعية التي فرضها الموقف، لكن عندما دعاني دكتور نونيز إلى غرفة الفحص تمتمت قائلًا "يؤسفني ما تعرضت له من متاعب"، فهز رأسه بوقار قائلًا: "شكرًا لدعمك". فكرت أن هذا لم يكن ما قصدته تمامًا، لكن قبل أن أتمكن من قول المزيد كان أخصائي التعقيم يُميلني أكثر  إلى الخلف على المقعد.

بعد العملية سألت نونيز إن كان من الممكن أن نناقش القضية فوافق بحماس خلافًا لما توقعت. بإنجليزيته ذات اللكنة الواضحة - كونه وُلد في جمهورية الدومينكان- قصّ عليَّ نونيز ما جرى من وجهة نظره، وعندما خضع للمحكمة بعد عدة أسابيع وُثقت كل تفصيلة في شهادته.

رواية الطبيب المتهم

صار نونيز صديقًا لعائلة كولمان في 2010. كان كولمان أخصائي علاج طبيعي؛ بينما كانت ليندا مديرًا تنفيذيًا بإحدى المستشفيات. أثرت الأزمات المالية والضغوط على علاقة الزوجين ببعضهما البعض، إذ خلّف زواج توماس السابق عليه أعباءً مالية كبيرة بعد الطلاق، وكانت ابنة ليندا (من زواج سابق) تعاني من أزمات صحية، أما ابنها من توماس فكان متعثرًا في الدراسة.

بينما كان نونيز ينفصل عن زوجته، نمت صداقة قريبة بينه وبين ليندا في الوقت الذي أمضياه في انتظار انتهاء نجليهما من دروس الكاراتيه في إحدى المدارس المحلية، صار نونيز صديقًا مقربًا من توماس كذلك. لكن في ديسمبر/ كانون أول 2010 بدأ هو وليندا علاقة عاطفية، وسرعان ما أغرم بها نونيز فطلب منها أن تخبر توماس بما يجري، غير أن ليندا لم تكن ترغب في إنهاء زواجها.

 أخبرني نونيز أن سرية العلاقة أغضبته حتى أن خياله ابتدع "فكرة فظيعة". في يوليو/تموز 2011 اشترى هاتفًا للاستعمال لمرة واحدة، وراح يرسل رسائل متتالية لتوماس مدعيًا أنه امرأة تدعى سامنتا، ومن خلال تلك الرسائل حاول نونيز أن يوجه تفكير الزوج نحو اكتشاف علاقة زوجته وطبيب الأسنان.

اعترفت ليندا عندما واجهها توماس بالأمر، ثم واجهت بدورها نونيز فأنكر إرساله هذه الرسائل؛ وزيادة في الكذب اتهم توماس بإرسال تلك الرسائل لنفسه، وبعد فترة وجيزة أرسل رسالة من هاتفه الشخصي إلى هاتف توماس ملأها بتأكيدات متشنجة بالبكاء على حبه لكليهما، مصحوبة بوداع مسرحي للعالم. على إثر تلك الرسالة اتصل توماس بالطواريء فأرسلوا شخصًا يطمئن على حال نونيز الذي قال للضابط أنه مر بـ"لحظة ضعف" وأنه الآن بخير.

 

رغم ذلك لم يقر بإرساله رسائل "سامنتا" (الشخصية المنتحلة التي استخدمها لإرسال رسائل نصية لزوج حبيبته) وعندما سمع أن توماس سيستخدم محققًا خاصًا للتحري في الأمر؛ ارتكب حماقة أخرى، فأخبر الزوجين كولمان أن له صلة بخبير حواسب آلية في وكالة الاستخبارات الأمريكية  يمكنه تحديد أصل الرسائل، وعرض على المسؤول التقني بمكتبه خمسمائة دولار، ليدعي أنه الخبير ويلتقي آل-كولمان. تطلبت الخطة أن يقوم التقني بتزوير شارة لخبير بالاستخبارات الأمريكية، أراني نونيز على حاسبه الآلي من أين اشترى الشارة؛ موقع يبيع بطاقات هوية هزلية (تظهر في العديد منها صور للممثل روان أتكينسون يقوم بتعابير الوجه المبالغة المميزة لشخصية مستر بين).

تضاربت التفاصيل فيما بعد لكن كافة الأطراف أقرت بأن ذلك التقني لم يلتق الزوجين كولمان، وبدلًا من ذلك ذهب نونيز بنفسه إلى مكتب توماس وجثا على ركبيته واعترف بأنه من أرسل الرسائل، وطلب الغفران.

قد يحسب المرء أن مثل هذه الدراما جعلت العلاقة بين نونيز وآل كولمان تفتر وتخمد، لكن توماس قبِل بالعلاقة العاطفية على أمل إنقاذ زواجه. والأغرب؛ أنه ونونيز صارا أكثر قربًا، وتبادلا الرسائل النصية عشرات المرات يوميًا، وفي بعض الأحيان كان الثلاثة يخرجون معًا وفي أحيانٍ أخرى كان توماس يجالس الأطفال أثناء خروج ليندا ونونيز معًا، وفي عيد الشكر حضر نونيز تجمُّع آل كولمان حيث تحدث الرجلان عن البدء سويًا في مشروع تجاري، وبعد يومين اصطحب الثلاثة أطفالهم لأحد فروع مطعم أوليف جاردن olive garden.

في يوم الاثنين الموافق الثامن والعشرين من نوفمبر/ تشرين ثان، تناول نونيز وليندا عشاءً مبكرًا قبل أن يعودا إلى منزليهما المنفصلين. لاحقًا تبادل توماس ونونيز رسائلهما كصديقين بينما كان كل منهما يشاهد مباراة فريق Giants على التلفاز.. وبعد عدة ساعات مات توماس كولمان.

تختلف رواية نونيز عند هذه النقطة جذريًا عن تلك التي يقدمها الادعاء. إذ أخبرني نونيز أنه خلد إلى النوم في منتصف المباراة ولم يعلم بوفاة توماس إلا في وقت متأخر من صباح اليوم التالي، في حين يقترح ممثل الادعاء أنه انتظر توماس في موقف سيارات الصالة الرياضية بكوب قهوة سامة. أما ليندا -وفقًا للادعاء- فقد أنهت العلاقة العاطفية مع نونيز بلا رجعة أثناء عشائهما معًا قبل مباراة جايانتس، ما أدى إلى انفطار قلب نونيز. أكد لي نونيز أن هذا الكلام غير صحيح، مضيفًا أن الأدلة في المحكمة ستثبت أن ليندا كانت لا تزال تحتفظ بعاطفتها القوية تجاهه.

رغم العثور على زجاجتي ميدازولام في مكتبه –وهو أحد أدوية التدخل الطارئة لتهدئة المصابين بنوبات التشنج؛ إلا أن الزجاجتين كانتا مغلقتان ولم تستخدما. أما فيما يتعلق بالصور المزعومة لسيارته خارج الصالة الرياضية؛ فالكاميرا كانت بعيدة للغاية ولم تتح إلا رؤية وهج المصابيح الأمامية. شخص ما التقى توماس خارج الصالة الرياضية، يتفق نونيز مع ذلك، لكنه ينكر كونه هذا الشخص.

قال: "هؤلاء الناس دمروا حياتي" وتوقع أن تبلغ تكاليف الإجراءات القانونية أكثر من مليون دولار، فالمرضى يهجرون عيادته، وسمعته شُوِّهَت، ورغم ذلك كان واثقًا من براءته، وحظى بدعم زوجته الجديدة وهي مغنية تدعى ياميل تزوجها في عام 2014.

على حد معرفتي بدكتور نونيز؛ كنت أحسبه شخصًا متحفظًا لكنه ودود. أعرف أنه أجرى جراحات مجانية لنزيلات مأوى نسائي، ونادي للبنين والبنات، وأخبرتني زوجتي التي كانت أيضًا إحدى مرضاه، أنه كان يُقل المرضى العجائز من بيوتهم ويعيدهم بسيارته بعد انتهاء مواعيد الكشف. ومن هذه التفاصيل كونت في ذهني صورة له باعتباره شخص نزيه بتمتع بأخلاق الفروسية مع مسحة الكآبة الانعزالية المميزة للمهاجرين. من الواضح إنني أغفلت أمرًا، فحتى لو لم يكن قاتلًا وحشيًا كما يزعم الاتهام الموجه ضده، فقد ارتكب أشياءً غرائبية.

كانت هناك تفصيلة واحدة ملفتة في روايته لم أكن قد سمعتها من قبل، لقد عُثر على جثة توماس ممدة إلى الخلف في مقعده، كان سرواله وحزامه محلولين وسحاب (سوستة) بنطاله مفتوح، تنبأ نونيز قائلًا "سيسعون للقول بأني كنت أقيم معه علاقة مثلية"، "لكن لدينا تفسير آخر.. سوف ترى".

المحاكمة

 

من طاولة الدفاع - رسوم قاعات المحكمة - ويكيبديا

"الهوس سيداتي ساداتي" هكذا استهلت ممثلة الادعاء ميرلين ألبانيز مرافعتها. بدأت المحاكمة التي عقدت في قاعة المحكمة التاريخية للمقاطعة "أولد كاونتي" old county في كينجستون، في مايو/ أيار 2016. ارتدت ألبانيز ملابس زرقاء داكنة، وعقصت شعرها بزاوية حادة فبرز وجهها الشاحب بدرجة ملفتة، كانت بحاجة إلى جرعة مضاعفة من الأداء المسرحي، نظرًا لصعوبة القضية التي تتولاها.

القضية ذات أدلة "ظرفية" بامتياز، ألبانيز قالت أمام هيئة المحلفين؛ لا يوجد شهود عيان ولا بصمات أصابع ولا آثار حمض نووي. لكن لديها أدلة دامغة تنسجم مع شخصية المتهم من حيث الدافع والوسيلة. لاحقًا قالت تشبيه مثير "كل تفصيلة تشبه شعرة في الحبل، وكل خصلة شعر إضافية؛ تجعل الحبل أقوى".

أعجبني نونيز وأردت الاقتناع ببراءته، لكنني توقعت أن أقتنع بخلاف ذلك، فتُهم القتل لا يتم توجيهها باستخفاف، وجلسات استماع ما قبل المحاكمة حفلت بشبهات مقلقة. أخبرني نونيز أنه أرسل رسائل "سامنتا" لكنه لم يكشف لي عن عددها. لقد أرسل قرابة الألفي رسالة خلال يومين، كذلك أهمل أن يذكر فِعلًا آخر في عداد التزوير، إذ انتحل شخصية أمه وأرسل رسالة بريدية إلى ليندا يرجوها ألا تنهي علاقتهما.

كانت أولى الخصلات التي شكلت حبل ألبانيز، ممثلة الادعاء، هو اكتشاف وجود عقار الميدازولام في جسد توماس كولمان، وكباقي الخصلات؛ كانت هناك نقاط ضعف، فالكمية التي عثر عليها في جسده لا تكاد تمثل حتى جرعة علاجية، ولا تسبب للمريض سوى أقل درجات التخدير، فلكي تعد الجرعة المكتشفة في جسد كولمان قاتلة؛ كان يجب دمجها مع مواد أخرى. 

الحقيقة أن كولمان كان ذو صحة سيئة، يزن مئتين وثلاثين رطلًا (104 كيلوجرام)، يعاني من تضخم في القلب والكبد وله تاريخ مع ارتفاع ضغط الدم والاكتئاب والتوتر والصداع النصفي والأرق، وكان يعاني أيضًا من انقطاع التنفس أثناء النوم، ويعد الميدازولام علاجًا آمنًا لمن يعانون من ذلك، شريطة أن تتم متابعة المريض.

علم نونيز بمعاناة كولمان من انقطاع التنفس أثناء النوم، ففي مقابلة مسجلة بالفيديو مع محققين قدم نونيز المعلومة طوعًا مشيرًا إلى خطورة حالته. توحي كل المظاهر بأن نونيز كان يحاول أن يبدو متعاونًا، لكن هذا الكشف الذي تطوع به؛ صار دليلا حرجًا ضده خلال بناء الادعاء للقضية، فوفقًا لألبانيز؛ استغل نونيز الحالة الصحية للضحية (كولمان) إذ استخدم مرض انقطاع التنفس أثناء النوم، كي يُنهي ما بدأه الميدازولام (يسقط كولمان في غيبوبة خفيفة بسبب الميدازولام، ثم ينقطع تنفسه أثناء النوم بشكل طبيعي يتوافق مع المرض، فيموت).

كانت خطوة ذكية، حل لعقبة انخفاض نسبة المخدر في الدم على طريقة المحقق شيرلوك هولمز، لكن لكي تتم إدانته يجب أن تقتنع هيئة المحلفين بدهاء نونيز الكافي لرسم هذه الخطة، وأنه على قدر كافٍ من القسوة لكي يشرع في تنفيذها، ومتهور بما يكفي للمخاطرة بإمكانية فشلها، فلم يكن ثمة ما يضمن ألا يستيقظ كولمان ويتساءل عمّا وُضِع في قهوته.

الخصلة التالية في حبل ألبانيز كانت سلسلة الأفعال المشينة التي ارتكبها نونيز قبل ارتكاب الجريمة. غير أن طوفان "رسائل سامنتا" التي أرسلها جيلبرتو نونيز لزعزعة العلاقة بين الزوجين؛ قلل من أثرها على هيئة المحلفين تلك  المتانة التي تمتعت بها الصداقة بين نونيز والزوج المقتول، والتي -للغرابة- لم تصبح علاقة وثيقة وقوية إلا بعد تلك الرسائل.

 أما الإيميل الذي أرسله نونيز منتحلًا صفة أمه، والذي حوَى كلامًا مشتتًا عن خطة الله للجمع بين ليندا وجلبيرتو، فقد كان غريبًا أكثر منه كيديًا. وأخيرًا فالاجتماع المؤجل مع "خبير الاستخبارت الأمريكية" في قاعة المحكمة، لم يُزد القضية إلا تشتيتًا.

ثم جاءت الزوجة

شهادة ليندا كولمان هي الأهم على الإطلاق، اكتظت القاعة عن آخرها حين اعتلت المنصة مرتدية سترة رمادية قيّمة، وكان أداؤها شديد الوقار، وإن كان كارثيًا أيضًا.

أذيع تسجيل للمكالمة التي أجرتها لاستدعاء الشرطة عقب اكتشافها لجثة توماس، وأثار ترديدها: "لا! لا! لا!"، بنبرة مصدومة، واقعية مقتل توماس في قاعة المحكمة، وكذا ألغت أي فكرة في رأسي عن إمكانية تورطها في الأمر، إذ كنت أكتم في رأسي أفكارًا عن مؤامرة من أجل بوليصة التأمين على الحياة على شاكلة فيلم Double Indemnity.. انقلبت ليندا على حبيبها (نونيز) واعتزمت الانتقام. حتى إنها حررت ضده محضرًا يتهمه بالقتل الخطأ، يوفر لها ذلك دافعًا ماديًا قويًا للمساعدة في إدانته بالقتل على نحو لا يمكن إنكاره، وأيًا كان دافعها فقد بدت عازمة على إلصاق جريمة القتل به.

ولأن الأدلة على علاقتهما الغرامية اقتصرت بدرجة كبيرة على عدد من الرسائل العاطفية، فقد ظهرت في عدوانيتها الجديدة مشاكل بنيوية واضحة، لكنها بدت مستمتعة بذلك الأداء الجديد. ففي إحدى المراحل حاولت أن تبرز كرم نونيز كعيب قاتل في شخصيته، في حين أكدت شهادات مختلفة أن نونيز لم يكتفي بالإغداق عليها بالحليّ والملابس ودفع فواتير بطاقتها الائتمانية فحسب؛ لكنه علاوة على ذلك أعطى توماس المال لسداد مدفوعات طلاقه السابق، وعرض عليه أن يعينه ماليًا على العودة إلى الدراسة. لا تبدو تلك مؤشرات واضحة على نية القتل، لكن ليندا كانت مصرة على موقفها.

قالت بكراهية سامة "كان جيل (اختصار جلبيرتو) آلة نقود.. كان هو دائمًا من يعرض المال على الناس، ويصر على دفع حساب الجميع، كلما التقيته أعطاني مالًا"، لكن يبدو أن تعليقاتها لم تثر الغضب تجاه جلبيرتو نونيز بالقدر الذي كانت تتوقعه.

 استجوبت ألبانيز ليندا عن حادثة سابقة، اختلق فيها نونيز سيناريو "وكالة استخبارات الأمريكية"؛ تضمنت تلك الواقعة التي كانت أساس اتهامه بالتزوير فيما بعد، المزيد من "رسائل سامنتا"، لكن هذه المرة بُعثت الرسائل إلى ليندا نفسها لا زوجها. ارتبكت ليندا حين تلقت الرسائل التي ألمح محتواها إلى أن زوجها توماس يخونها. وكما حدث في الواقعة السابقة؛ عرض نونيز أن يتحرى في الأمر.

في يناير/ كانون ثان 2011، التقاها نونيز خارج أحد فروع سلسلة فنادق "هوليداي إن"، وسلّمها خطابًا مزعومًا من عميل بوكالة الاستخبارات الأمريكية، جاء في أحد أجزائه " نتوهم في بعض الأحيان أننا على علمٍ تام بشخصية وطباع شخص ما فقط لأننا عايشناهم لسنواتٍ عديدة، لكننا عُرضة للوقوع في الأخطاء على مدار حياتنا، وكما أكدت الأبحاث، فدائمًا ما يحدث أن يزول الحب من الناس ويظلوا في علاقة لأسباب متعددة ليس الحب من بينها.

-المخلص

 عميل 753246910213"

في شهادتها قالت ليندا إنها شعرت بأن كاتب الخطاب "لم يتعد العامين من العمر"، لكن جريمة القتل المعروضة أمام ألبانيز كانت بحاجة لاستخدام الخطاب كقرينة على شخصية نونيز المتلاعبة، وأفادت ليندا في استجوابات لاحقة؛ أنها تعاملت مع الخطاب كوثيقة حقيقية من الاستخبارات الأمريكية.

في هذه المرحلة من شهادتها وضع بعض المحلفين أيديهم على وجوههم ربما لمنع أنفسهم من الضحك. وبالفعل، السذاجة المتناهية لهذا الجانب من القضية عززها شاهد آخر قدمه الادعاء، فرانكي فارجاس، وهو سجين زامل نونيز في سجن المقاطعة، ذكر فارجاس أن نونيز اشترى بطاقات هويات الـ CIA المزورة بهدف إثارة حياته الجنسية، حتى هذا الوقت كنا على علم بأن نونيز حصل على بطاقات الهوية قبل عام من لقاءه بالزوجين كولمان.

ومن خلال ما كشفه فارجاس والاعترافات الساذجة التي أدلى بها نونيز لي؛ تبين بوضوح أن عمليات التزوير التي هددت بزيادة مدة عقوبة نونيز، بدأت في الأصل كدعائم لألعاب جنسية يمارس فيها أدوار متعددة، (كانت الشخصية التي ابتدعها هي العميل الخاص الدكتور ج، وهو طبيب أسنان على صورة جيمس بوند، رُخص له زرع أجهزة تعقب لصالح الـ CIA).. فجأة أصبحت التفصيلة المتعلقة بتسليم الخطاب أمام نزل "هوليداي إن" منطقية.

وفّر مثلث الحب هذا لألبانيز المزيد من المادة الخام لبناء القضية. لقد خلق ميل كل طرف من اللاعبين الثلاثة لتحويل كل شعور عابر إلى رسالة نصية أو بريد إلكتروني جبلًا من الأدلة يمكن من خلاله خلق سيناريو بعينه لما حدث. معظم اسئلة ألبانيز لليندا كانت توجّه المحلفين نحو صورة الزوجة التي انجرفت بعض الشيء ثم عادت لرشدها بالتدريج.

كان لذلك أساسٌ في الواقع فمن الواضح أن ليندا ممزقة، وفي الذكرى الشهرية الحادية عشرة لعلاقتها بنونيز –إذ كانا يحتفلان بها كل شهر- كتبت له في بطاقة المعايدة "لا أحد يعلم بتحليقنا الجميل في علاقتنا إلا نحن" غير أنها في الوقت ذاته كانت تلمح له بانتظام إلى رغبتها في إنهاء العلاقة، في بعض الأحيان كان نونيز يرد بصبر "سأحبك إلى الأبد سأنتظرك حتى ما تشائين"، وفي أحيانٍ أخرى كان يرسل سيولًا من الحب الجارف "إن خسرتك فسأفقد كل حقيقة أؤمن بها، كل ما آمل فيه وأتمناه وأحلم به وأصلي من أجله"، وأحيانًا كان يرسل رسالة يمكن القول أنها نذير شؤم: "لن أتركك، لا اليوم ولا غدًا ولا إلى الأبد".

في 12 نوفمبر/ تشرين ثان 2011 ذهب كل من ليندا وتوماس بصحبة أطفالهما لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في منتجع "موهيجان صن كازينو" في كونيتيكت، أدركت ليندا أنها لازالت مغرمة بزوجها، وأنه -حسب نص شهادتها- "ما قمت به مع المتهم كان أمرًا في غاية الأنانية".

هذه الرحلة شكلت ركنًا مهمًا في رواية "إصلاح علاقة الزواج"، أيدت ذلك مجموعة رسائل إلكترونية حانية تبادلها الزوجان بعد أسبوعين من الرحلة، وقبل يومين من مقتل توماس. تحدثت ليندا في تلك الرسائل عن رغبتها في إنهاء علاقتها بنونيز وخشيتها من رد فعله "قلت له علينا أن نتحدث.. لذا فهو يتوسل ويتضرع إليَّ ألا أهجره".

قدم الادعاء تلك الرسالة كعلامة على أن نونيز استشعر نهاية علاقته العاطفية وانفعل لهذا السبب. لكن حينها كشف محاميه، إيفان ليبتون، بدمٍ باردٍ اختلاف ما كانت تقوله ليندا عن ما كانت تقوله لنونيز. فخلال رحلة "موهيجان صن" أي بينما كانت مع زوجها ف يرحلة لإصلاح العلاقة بينهما؛ كانت ترسل رسائل إلى نونيز على شاكلة "أحبك.. أفتقد الإمساك بيديك وتلك البقعة الناعمة في وجهك والندبة.. قبلات قبلات".

على صعيد آخر، لم يكن نونيز يشجعها على هجر توماس، بل كتب لها قائلًا "أرجوكِ يا حبيبتي لا تقدمي على أي شيء" وأجابها تحت ضغطها لتفسير رده الفاتر "قلتِ لي أنك لن تتخذي أي قرار إلا بعد انتهاء العطلة.. وأنا أمتثل لما قلتِ أنه رغبتك".. وأمام دليل كهذا ظهر الحبيب المهووس لحد الخطر في نظر الادعاء، كشخص أكثر رزانة.

استمر تدفق الرسائل بين نونيز وليندا حتى الأيام الأخيرة لعطلة تسوية الخلافات تلك بين الزوجين كولمان. في الواحد والعشرين من الشهر، أرسل نونيز إلى ليندا رسالة يقول فيها "يا إلهي قبلاتك التي تلقيتها اليوم، لا زلت أشعر بها" فردت ليندا "كانت جيدة أليس كذلك؟" طلب الدفاع من ليندا أن تقرأ رسائلها جهرًا وبدت مندهشة حقًا من كلماتها، كان يمكنك أن تشعر بالاستسلام المتردد لشخص أجبر على إعادة تقييم نظرته للواقع.

  ظلت ليندا تتواصل بودٍ مع نونيز حتى ساعات قليلة سبقت معرفتها بمقتل توماس، تشتكي من آلام دورتها الشهرية، وهو ليس موضوعًا مألوفًا للحوار بين من أنهوا علاقتهم العاطفية، ورد عليها نونيز "أرسل لك حبي من هنا.. أرسل لك قبلاتي إن كان هذا يساعدك" فاجابت "جدًا".

كان من الصعب تبين أي السناريوهات ستقبل به هيئة المحلفين، في أحيانٍ كثيرة كان يبدو عليهم الاندهاش والذهول، وفي أحيانٍ أخرى كنت أرى بعضهم يتأملون نونيز، نبع المفاجآت الغريبة هذا الذي يحدق بوجه داكن غير منفعل، وكأنهم سيتمكنون من كشف أسراره عبر التحديق فيه، كان وجهه يبدو مجهدًا وعابسًا بدون ابتسامته الحيوية الدائمة، خاصة إن كان يرتدي بدلة باهتة مشدودة على كتفيه العريضين، كان في قاعة محاكمة مليئة بوجوهٍ بيضاء وكان قد أخبرني أن العرق له دور في محاولة إلصاق تهمة مقتل كولمان به، وزعم أن أحد رجال الشرطة نعته بلقب عنصري ضد المتحدثين بالإسبانية spic وهو ما أنكرته الشرطة.

متهم واحد أم اثنين؟

آخر خصلة في حبل ألبانيز هو دليل الفيديو الذي كان من المفترض أن يثبت وقوف سيارة نوينز النيسان باثفايندر Nissan Pathfinder خارج الصالة الرياضية ذاك الصباح، وهو ما ظل نونيز ينكره باستمرار.

استُجوب جرانت فريدريكز، محلل الفيديو المنتدب من القضاء، كان خبيرًا في تحليل "كيفية امتداد إضاءة المصابيح الأمامية"، وهي تقنية ترتكز على أساس أن إضاءة السيارة تكتسب صفات مميزة مع مرور الوقت.

يمر الطريق من شقة نونيز إلى صالة بلانيت فيتنيس الرياضية (التي ارتكبت الجريمة في محيطها) جزئيًا بالصف التجاري لطريق ألباني. عُرضت لقطات صورتها كاميرات المراقبة على هذا الطريق؛ في الساعة 4:30 صباحًا مرت سيارة نيسان باثفايندر Nissan Pathfinder في طريقها إلى الصالة الرياضية أمام عدة متاجر، وكانت تضيء كشافات الإنارة المخصصة للمناخ الضبابي لكنها كانت تمتد على نحو غريب، فأحد المصابيح كان يضرب نوره في الأرض أقرب من الآخر، وكان لسيارة نونيز الباثفايندر النمط ذاته جراء مشكلة في تركيب المصابيح.

بعد دقيقة ونصف الدقيقة التقطت إحدى الكاميرات التي تعمل باستشعار الحركة قرب باب الصالة الرياضية صورًا لعربة يصعب تحديد نوعها تدخل موقف سيارات الصالة الرياضية، ولم يظهر منها في الظلام سوى أنوارها، لكن عند نقطة معينة تواجه مقدمة السيارة الكاميرا، ويعيب أحد المصابيح الخلل ذاته الذي يعيب سيارة نونيز وبعد 15 دقيقة، تقف بجوارها سيارة توماس كولمان، وفيما تقف السيارتان متجاورتين لا يمكن معرفة ما إذا فُتحت أو اُغلقت أبواب أي من الاثنتين، وعندما تخرج السيارة ذات الإضاءة غير المتوازنة بعد 28 دقيقة، يتبين أنها سيارة رياضية باهتة من نوع ما، وبعد دقيقة ونصف تظهر على طريق ألباني مجددًا سيارة Nissan pathfinder بكشافات ضباب معيبة.

تحدى ليبتون (محامي نونيز) إمكانية الاعتماد على أسلوب فريدريك (خبير إضاءة السيارات)، لكن حتى لو كان أثبت عدم جدواه فثمة دليل لا جدال فيه على مرور سيارة باثفايندر على طريق ألباني في فترات تزامنت على نحو مريب مع ظهور واختفاء العربة ذات المصباح الأحول في موقف السيارات، كان من الصعب الاقتناع بأنها ليست السيارة ذاتها وأنها ليست سيارة نونيز.

أدلة مستبعدة عن عمد؟

لم تفترض ألبانيز –خلافًا لما توقعه نونيز- وجود علاقة عاطفية بينه وتوماس كولمان، وكِلا شاهديها قللا من حقيقة أن كولمان عُثر عليه مضطجعًا إلى الوراء بسروال مفتوح "كان يحاول أن يكون مرتاحًا" وهي الجملة التي استخدمها كلاهما. لكن رواية الإدعاء تبدّلت تمامًا بعد أن قدم الدفاع في قاعة المحاكمة دليل حاسم استُبعد سابقًا، إذ وُجدت على هاتف كولمان رسائل بريدية من موقع مواعدة يُدعى benaughty.com، أُرسلت واحدة منها في الساعة 1:31 صباحًا أي قبل عدة ساعات من وصول كولمان خارج الصالة الرياضية، كانت الرسالة مجرد تحديث للحساب الشخصي أرسلته الشركة، لكنها قادت إلى تخمين جديد في عالم ملابسات مقتل كولمان، فعلى ما يبدو أن هناك ثقافة بديلة نشطة تتعلق بالمواعدة في الصالات الرياضية التي تعمل على مدار الأربع وعشرين ساعة.

رفض القاضي دونالد وليامز، الذي حافظ على كياسته المتصلبة بينما تتكشف أمامه تلك الملحمة المُخلّة بالآداب، السماح بأي ذكر لهذه الرسائل البريدية التي قد "تطعن في شخصية المجني عليه" لكنه تساهل مع الدفاع حين احتج قائلًا أن الادعاء شدد على دقته، في حين لم يتحقق من هذا الدليل على الإطلاق. وكان هذا ما قصده نونيز بقوله أن فريقه قد عثر على "تفسير مختلف" لحالة كولمان المهلهلة وقت الجريمة: مواعدة من أجل الجنس.

لم يفسر طرح اللقاء العاطفي وجود سيارة شبيهة بسيارة نونيز على طريق ألباني، لكنه سمح بإدراجه ضمن بند الصُدف، وأيد ذلك قرار مثير للفضول من جانب الشرطة إذ أرسلت ملابس كولمان الداخلية التي كانت مبقعة إلى الطب الشرعي، لكن قبل أن يتم فحصها للكشف عن الحمض النووي أو اللُعاب طالبت المعمل بإعادتها. لم يُسجل أي تفسير للأمر، وهو ما يثير التساؤل حول ما إذا كانت هناك مناطق تفضل الشرطة عدم الخوض فيها.

فور تقديم رسائل benaughty.com البريدية قدّم الادعاء تفسيرًا مغايرًا تمامًا للمقعد المائل للخلف والسوستة المفتوحة: أن نونيز قام بضبط وضعية الجثة على هذا النحو حتى يبدو الأمر وكأنه لقاء جنسي. وحوى التضمين على أن نونيز كان يأمل أن تفترض الشرطة إثر عثورها على رجل أبيض بدين ميت بسروال محلول، أن ممارسة الجنس تسببت في اضطراب قاتل في ضربات القلب، وتكتفي بذلك دون تحقيق جاد.

كان خط استجواب ألبانيز يقترح دائمًا نظرية شديدة التكلف: بعد أن أعطى نونيز لكولمان قهوة مخلوطة بمادة مخدرة وانتظره حتى فقد وعيه، وعندها ارتدى نونيز القفازات المطاطية ودخل إلى سيارة كولمان وعدّل وضعيته ليوحي بأن ثمة لقاءً جنسيًا حدث، ثم أزال كل أثر لحمضه النووي من العربة (مع الحرص على عدم إزالة الحمض النووي لتوماس وزوجته و ابنهما) وانتظر أن تجعل حالة انقطاع التنفس أثناء النوم التي يعاني منها توماس من جرعة الميدازولام الخفيفة مادة قاتلة، وكل ذلك في ثمانية وعشرين دقيقة.

رأيت أنها نظرية عسيرة على الإقناع، وكذلك أحسّت ألبانيز. وعندما ذكرت لها ذلك بعد المحاكمة، جادلتني قائلة إنها لم تقترحها على الإطلاق. كنت قد سألتها في رسالة بريدية إن كان لديها نظرية جديدة فردّت قائلة "إنني منذهلة من ما تشير لكونه النظرية الأصلية لـ (قيام نونيز بضبط وضعية جثة توماس كولمان عن عمد لكي يبدو الأمر وكأن لقاء جنسيًا تم)؛ إنها المرة الأولى التي أسمع فيها هذه النظرية منك".

غير أن نص ما جاء على لسان ممثلة الادعاء في المحاكمة يوضح بدون لبس ما أجملته، قائلة "أقترح أن المتهم قام في هذا الإطار الزمني بإرجاع توماس كولمان إلى الوراء وضبط وضعية جثته ليبدو الأمر وكأن لقاءً جنسيًا حدث". وبدون هذا التخمين يُترك المرء أمام إمكانية حقيقية لحدوث لقاء جنسي كتفسير لوضعية كولمان المائلة إلى الخلف والبقع الموجودة في ملابسه الداخلية، وهو ما يثير التساؤل عن سبب عدم التحقق من نشاطاته على benaughty.com.

 استمرت المحاكمة ثلاثة أسابيع، وانسحب المحلفون من أجل المداولات في أحد أيام الاثنين من شهر يونيو/ حزيران. كان الوقت الضائع في قاعة المحاكمة أشبه بحفل كوكتيل سريالي مريب، وكان هناك اختلاطًا قسريًا بين عائلة المجني عليه والزوجة التي خانته والرجل المتهم بقتله، وأحيانًا يَلوح الهارب المقيد بالسلاسل مجلجلًا كشبح مارلي. تسكعت في الأنحاء متخيلا مداولاتي الخاصة.. هل كانت أي من ثنايا وخصلات حبل ألبانيز قابلة للتحقق؟

لم تضبط الشرطة أي مخزون للميدازولام بخلاف ما كان في حقيبة الاسعافات الطارئة لنونيز، بنفس الجرعة التي كان يجددها سنويًا. الحل الذي اقترحته ألبانيز هو أن نونيز كان يخزن زجاجات منتهية الصلاحية لسنوات (كان هذا سيتطلب خمس سنوات من التخزين حتى يصل للكمية الموجودة في جسد توماس)، لكن لأي سبب قد يخزن نونيز الميدازولام؟ أتحسبًا لقتل شخص يعاني من انقطاع التنفس أثناء النوم يومًا ما؟

أيدت مقاطع فيديو كاميرات المراقبة طرح الادعاء، لكنها لم تحسم الأمر. غير أن هناك شهادة سابقة زعمت أن نونيز قام بأمور تنطوي على خداع ومراوغة مستخدمًا الهواتف، تمثلت في تبديل شرائح الاتصال في هاتفه ومسح 62 رسالة من هاتف كولمان، حتى يمحو أي دليل يشير لقيامه باستدراج كولمان إلى الصالة الرياضية، لكن تمت استعادة آخر عشرين رسالة ولم يأتِ فيها أي ذكر لمواعيد عاطفية. أما الخطوة المزعومة التي وصفها خبير الشرطة وقال فيها إن نونيز بدل شرائح الاتصال في هاتفه، فكانت معقدة إلى درجة أنها غير مفهومة. 

كان هذا أساس مشكلة الادعاء: فرواية ألبانيز تفرض أن يكون نونيز ماكرًا شديد الخداع وأخرًق في نفس الوقت. ماكرًا بما يكفي حتى يستخدم بطاقة الهاتف لإخفاء أنشطته، لكنه لم يشك في أن تُرصد سيارته بالكاميرات التي غالبًا ما تغطي أي طريق تجاري، ماكرًا بما يكفي لحبْك رواية انقطاع التنفس أثناء النوم، لكن دون أن يدرك أن عملية تشريح ستُجرى بشكل تلقائي إذا عُثر على رجل في الرابعة والأربعين ميتًا بدون أسباب، ماكرًا بما يكفي لإزالة حمضه النووي من مسرح الجريمة لكنه يغفل عن محو سجل عملية شرائه لبطاقة هوية CIA مزيفة، أو بحثه عن الميدازولام من حاسوبه الآلي. يمكن للسلوك أن يتناقض مع ذاته، أما الذكاء فلا يتبدّل بهذه الحدة.

بعد ست ساعات من المداولات وصلت هيئة المحلفين إلى قرار. وأثناء عودتي إلى قاعة المحكمة جعلتُ أتحقق من حكمي، صرت أتشكك فيما يقدمه الادعاء، لكن الكثير ممن تحدثت إليهم بدوا على اقتناع به.

 هل ضللني نونيز بهدوئه غير المبالي؟ ثم تذكرت شهادة ثانوية: ذكرت ابنة ليندا واقعة أرادت فيها أن تثقب أذنها، وقام نونيز بالعملية في سيارته بحضور ليندا، مستخدمًا مخدر من عدته الطبية، وفكرت مليًا في هذا الصورة إذ يجري نونيز عمليات جراحية في سيارة.

اصطفت هيئة المحلفين وقرأ رئيسها القرار: غير مذنب بتهمة القتل، ومذنب بتهمتي التزوير.

شهقات ودموع وأفواه فاغرة، وصاحت ليندا في قاعة المحاكمة: "مريض! مختل! كاذب حقير!" فرافقها الأقارب إلى الخارج. طلبتُ منها عبر وسيط أن أجري معها مقابلة لكنها رفضت، ومضى نونيز عائدًا إلى مكتبه حيث كان المرضى بانتظاره إذ كان يذهب للعمل بعد المحاكمة يوميًا.

خلّفت المحاكمة العديد من الألغاز التي لم تُكشف. صرّح طبيب الدفاع بأن كولمان مات بأزمة قلبية، وأنه لم تكن ثمة جريمة قتل، لكن هذا لم يوضح كيفية وصول الميدازولام إلى جسده.

تم استجواب ليندا وأُدرجت كمتهم محتمل، لكن هذا لم يستبعد وجود سبب حميد وراء تزويد زوجها الذي يعاني من الأرق بمهدئ. فحصت الشرطة صيدلية المستشفى التي تعمل بها ليندا لكن كان بإمكانها هي وزوجها شراء الميدازولام عبر الانترنت، ولم تفتش السلطات منزل الزوجين كولمان أو حواسيبهما.

أثناء المحاكمة شهد الطبيب الشرعي المحلي -الذي تخلص من محتويات معدة توماس قبل تحديد وقت الهضم- بأن تناول توماس للميدازولام قد يكون مستمرًا منذ عدة أسابيع سبقت الوفاة. من المحتمل أن كولمان كان يعالج نفسه سرًا، ومن المؤكد أنه اشترى عقارًا واحدًا على الأقل عبر الإنترنت وهو التستوستيرون، وقد استلمه على صندوق بريد خاص، أكد المحققون أن الصندوق أُغلق (أنهى صاحبه إيجاره) قبل مقتل كولمان، لكنهم لم يتحققوا من تاريخه.

يحسب المرء أن تلك السبل كان يمكن اكتشافها، ولو فقط من باب حماية القضية أمام أية تحديات متوقعة. أثناء المداولات طلبت هيئة المحلفين إعادة الاطلاع على شهادة الطبيب الذي ذكر أن ملابس توماس الداخلية لم تفحص للتحقق من وجود الميدازولام. بدا مرجحًا أن هيئة المحلفين مالت إلى تبرئة نونيز من تهمة القتل بسبب وجود العديد من الأدلة التي تم التغاضي عنها.

لا لوم على الشرطة في التحفز ضد نونيز، لكن المزعج في الأمر هو إصرارهم على أن تكشف الحقائق رواية قتل، مهما بدا الدافع غير مؤكد، ومهما بدت وسيلة القتل المزعومة مستبعدة.

بعد النطق بقرار المحلفين التقيتُ بهولي كارنرايت، المدعي العام لمقاطعة أولستر الذي تقدم بالدعوى في الأصل، وحين أبديت شكوكي إزاء كوْن نونيز مذنبًا، اقترح عليَّ مشاهدة أحد أجزاء فيلم صمت الحملان Silence Of the Lambs حيث يقوم هانيبال ليكتر بإعطاء ضحاياه جرعات من مادة مشابهة للميدازولام، ثم يفتح رأس الرجل ويجبره على تناول قطع من مخه.

ظني أن كارنرايت كان يستهين بي، لكن اقتراحه سلّط الضوء على هشاشة ما يدبره الادعاء، بدا من الصعب مقاومة فكرة أن ما حكم التحقيق، الذي استمر لأربع سنوات، نظرة جماعية ضيقة مفادها: "سيداتي ساداتي.. إنه الهوس".

 

نظرية بديلة

على كل، لقد حدث شيء ما لكولمان، فهو لم يتوقف ببساطة أمام صالة بلانيت فيتنيس ويلقى حتفه بأزمة قلبية، لقد التقى شخصًا ما هناك.

طرأ في ذهني أن نونيز ربما أحضر امرأة إلى كولمان في موقف السيارات، لقد دبر جلبيرتو لتوماس أحيانًا عدة مواعيد غرامية عندما امتزجت علاقتهما، وعندما أطلعته على أفكاري أنكر الأمر وأنا صدقته.

بعد المحاكمة شاهدت فيديو لتحقيق الشرطة مع نونيز مدته ثماني ساعات، وهو بمثابة دراسة عن المقاومة النبيلة للضغط المتواصل، محى من رأسي كل الشكوك حول نزاهته، لكن ظلت صورة السيارة الباثفايندر التي تتجه صوب الصالة الرياضية تطارد رأسي.

لم يُقَل الكثير عن توماس كولمان مباشرة خلال إجراءات المحاكمة، اختصرته مرافعات الطب الشرعي في عضلات وشعر وسوائل شفافة. واستمعنا إلى تسجيل للمحادثة التي أجراها للإبلاغ عن تهديد نونيز بالانتحار، لقد بدا قلقًا ومتعاطفًا، يُرجح أن الأدوية التي كان يتعاطاها حاصرته بحالة ذهنية ما، كاستعداده للتساهل مع علاقة زوجته العاطفية وهو ما يشير ضمنيًا إلى سعة تسامح غير مألوفة، ومن علاقته المتينة حد الغرابة بنونيز يستنتج المرء رقة طبعه، وربما وحدته المرهفة.

ذات ليلة قدت إلى صالة بلانيت فيتنيس التي تقع في مركز تجاري يطل على الطريق السريع، وضّحت الصخور المسحوجة، كيف اقتطع موقف السيارات جانبًا من التل، وفي البقعة التي أوقف فيها كولمان سيارته يمكنك رؤية كاميرات المراقبة عند زاوية مبنى كول (التي سجلت لحظات اللقاء بين السيارتين)، وعلى الجانب الآخر من الطريق السريع يمكن مشاهدة الجبال.

كتب توماس دي كوينسي في مقاله "الطرّق على البوابة في ماكبث" عن "الإغماءة العميقة" أثناء مقتل الملك دانكن. كانت الإغماءة فجوة أو ثغرة غامضة. لقصة توماس الإغماءة ذاتها، الدقائق الثمانية والعشرون التي أمضاها مع شخص ما في الظلام، وأيًا من كان؛ فلابد وأن أحدًا ما يعرف كيف مات. يتمنى المرء ظهور تلك الشخصية إلى العلن يومًا ما.

كشف الفحص الدقيق لحياة نونيز عن تهمتين أخريين أحيلتا إلى المحاكمة في الخريف الماضي. تضمنت إحداهما الاستيلاء على قيمة التأمين على مبنى كان يملكه واحترق، أدرج الادعاء جزء صغير من الدعوى –أقل من خمسة بالمائة- تحت بند الاحتيال دون أن يقترح الحريق المتعمد، ولم تنازع شركة التأمين في الدعوى من الأساس. أما التهمة الأخرى فكانت التزوير في طلب ترخيص سلاح.

أنكر نونيز التهمتين بشدة، وغني عن القول أن حجج الطرفين كانت على قدر بالغ من التعقيد، لكنه أُدين بالتهمتين وألغى القاضي كفالته وحبسه في سجن مقاطعة أولستر انتظارًا لصدور الحكم.

قمت بزيارته هناك. جلس خلف الزجاج السميك لغرفة المقابلة مرتديًا ثيابًا برتقالية فضفاضة، وبدا مبتهجًا على نحو مفاجئ. كانت زوجته ياميل حاضرة أثناء المحاكمة فأبقته احتمالية لم شمل اسرته مرة أخرى مرنًا، وأثنى على ضباط التأديب ومؤسسات الدولة الذين شاركوا في هذه القضية، ولم يُظهر العداوة إلا للشرطة المحلية وممثل الادعاء، إذ رأى أن دفعهم بالتهم الأقل شأنًا بعد أن خسروا قضية القتل كان من باب الانتقام.

تراجع نونيز عن ذكر العنصرية كتفسير للقضية، لكنه تحدث عن "تعصب حضاري". أكد لي أن سلوكه المليودرامي العاطفي الذي بدا مريبًا في مقاطعة أولستر لم يكن ليثير انتباه أحد في جمهورية الدومينكان. ظل برهة متفائلًا بإعادة تأهيل عيادته للأسنان. لقد واظب العديد من مرضاه على زيارته أثناء سير المحاكمة، من بينهم اثنان من القضاة. لكن الآن وقد أدين بأربعة جرائم فمن غير الوارد أن ينجو بمهنته، وكانت لا يزال محتملًا أن تطول مدة عقوبته في السجن.

صدر الحكم في 7 فبراير. أُحضِر نونيز إلى القاعة المكتظة مكبلًا بالأصفاد. تضمنت إدانته اثنتا عشرة تهمة، وطالبت ألبانيز القاضي بتوقيع أقصي عقوبة عليه في التهمتين، لكي تقع عليه العقوبتان بالتوالي أينما ترى المحكمة فانزعج القاضي وليامز وسألها متشككًا وموبخًا "متى كانت أخر مرة طالبتي فيها بإيقاع عقوبتين متواليتين لجنايتين لا تندرجا تحت بند العنف أو الخطورة، أو حتى أقصى عقوبة للاحتيال من أجل ثمانية آلاف دولار؟ أنت تريدين الانتقام"، فيما بدا منه أنه يدرك أنها تحاول انتزاع عقوبة القتل من نونيز عبر تهم أخرى.

بعد استراحة قصيرة، عاد القاضي وليامز إلى مقعده، ونوه إلى أن القانون يحظر عليه الالتفات إلى قضية القتل، وقال إن الجُنح المتبقية لم تكن لتظهر من ذاتها أبدًا في محكمة جُنح، وسيتم الاستئناف على أحكامها في محكمة جزئية ورفع في يده ملفًا سميكًا: مائة وثلاثين خطاب دعمًا لنونيز.

لكن بعد ذلك تبدلت تعبيرات وجه القاضي والتفت إلى نونيز معنفًا إياه لكونه كاذب محتال، و"رجل لا يخجل من ذاته على الإطلاق"، و"ما من إمكانية لإصلاحه". كان هذا تحولًا يستحق أن ننظر إليه وكأنه دراما كلاسيكية من العصر الفيكتوري. لم يكن ثمة ما يعيب الأمر إلا أداء نونيز الذي نفَّر منه القاضي؛ وهو الأداء ذاته الذي أمالني إليه: هدوء لا يتزعزع، رفضه الحازم للاستسلام تحت ضغط التحقيق الذي استمر لثمانية ساعات، ما رأيت أنه دليل براءته، رأي القاضي أنه دليل إدانة بلا ريب.

"ما أثار خشية المحكمة هو هدوءك المريب"، هذه العبارة دوت في أذني باعتبارها اتهام من القاضي لنونيز بقتل كولمان بالفعل، وأنه (نونيز) منيع –بشكل مرضي- ضد الشعور بالذنب، وإن كان الأمر كذلك فويليامز بلا شك لم يغض الطرف عن المحاكمة بتهمة القتل.

أنا لا أثق في حكمي ثقة عمياء، وربما أكون مخطئًا إذ أحسب نونيز غير مؤذي من الأساس، حتمًا أسأت الحكم على القاضي. قبل الاستراحة وبَّخ القاضي وليامز ممثلة الادعاء ألبانيز، لمطالبتها إياه بممارسة دور "الشرطة الأخلاقية" لكنه لم يقسُ عليها، ولم يبد أنه يعبأ بمعاقبة الأفعال التي تتم بين الأطراف المتناحرة، لكنه حكم على نونيز تحديدًا بأنه "زاني".. ورجل "استحوذت عليه علاقة غير مشروعة، وعلى استعداد مطلق للقيام بأي شي من أجل اهتماماته الشهوانية".

حكم وليامز على نونيز بالسجن عامين وثلث العام إلى سبعة أعوام..  لم تكن تلك أقصى عقوبة يمكن تمريرها، وبالتالي لم تكن الإشارة إلى الغضب الشعبي إلا استعراضًا، لكن على الرغم من تلميحه إلى "تمادي الادعاء في الانتقام" فقد رأف بنونيز بعض الشيء.

بدا نونيز مصدومًا، وتذكرت أمرًا قاله في سجن المقاطعة، حين كان انتصاره في قضية القتل لا يزال حديث العهد "سأخرج من هنا في وقت ما، لا أعلم متى تحديدًا لكنني أعلم يقينًا ما أراد هؤلاء الناس أن يفعلوه بي.. أن يحبسوني في السجن مدى الحياة لكن لم يعد في وسعهم القيام بذلك بعد الآن"، كان هذا لا يزال صحيحًا وأردت أن أذكره به لكن الحراس اقتادوه بعيدًا.