سرت آمال كبيرة في نفس الشاعر المصري عمر حاذق بعد إدراج إسمه في قائمة العفو الرئاسي الذي صدر في سبتمبر/ أيلول 2015، بأن يعود لممارسة حياته الطبيعية ويستعيد طقوسه اليومية خارج الزنزانة دون قيود، قبل أن تتحول هذه الآمال لسجنٍ جديد، وتظل آثار فترة الاحتجاز ماثلة أمام عينيه في أيامه خارج السجن.
في البداية فصل عمر (41 سنة) من عمله الحكومي كمصحح لغة عربية بمكتبة الإسكندرية؛ بعدما أصدر رئيس المكتبة آنذاك إسماعيل سراج الدين قرارًا في 22 إبريل/ نيسان 2014 بإنهاء عمله؛ مستندًا في ذلك إلى قائمة التهم التي وجهتها النيابة لعمر، وتنفيذًا للتعليمات التي جاءته، بحسب عمر الذي يضيف "رئيس المكتبة برر لزملائي في العمل أن الجرائم التي ارتكبتها تُهدد أمن النظام؛ وهو مايستوجب عزلي من العمل".
"خطر على أمن مصر من الداخل"، كانت هذه الجملة التي وردت في جواب فصل حاذق من عمله، السبب الذي ساقه سراج الدين لعزله، غير أن عمر لديه رواية آخري لواقعة الفصل "كُنت أحد قادة الاحتجاج ضد سراج الدين بعد ثورة 25 يناير، للمطالبة بعزله من منصبه؛ وعاقبني وقتها بإنهاء عملي بعدم تجديد عقد العمل؛ قبل أن أعود مُجددًا تحت ضغط زملائي؛ ليرضخ لهم، ولكنه ظل راغبًا في معاقبتي على موقفي تجاهه؛ حتى تهيأت الفرصة بعد اعتقالي".
"إحنا آسفين.. سوابق"
ولا يعتبر عمر نفسه حالة استثنائية بالنسبة لمئات السجناء الذين صدرت بحقهم قرارات عفو رئاسية أو أفرج عنهم، سواء في الفصل من أعمالهم الحكومية أو الخاصة، بل إنه يعتبر وضعه أفضل من غيره ممن يخضعوا لفترات مراقبة لسنوات طويلة، أو هؤلاء الذين ينفذون تدابير احترازية تُلزمهم بالذهاب لقسم الشرطة في أيام محددة، وعدم الخروج من منازلهم في حالات أخرى.
من بين هؤلاء الذي يحكي عنهم عمر، الناشط السياسي أحمد ماهر، مؤسس حركة 6 إبريل (38 سنة)، الذي يقضي حاليًا عقوبة مراقبة شرطية لثلاث سنوات، بعد إطلاق سراحه في يناير قبل الماضي، بعدما نفذ حكمًا بالسجن ثلاث سنوات بتهمة خرق قانون التظاهر.
تتشابه التهم التي أدين بها ماهر مع تلك التي أودت بحاذق إلى السجن، وهي خرق قانون التظاهر الذي صدر في نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2013. عمر حاذق أدين على خلفية مشاركته في وقفة تضامنية احتجاجية ضد المتهمين بقتل خالد سعيد "من دون تصريح"، ليقبض عليه مع عشرات آخرين، ويُحال إلى محاكمة قضت بسجنه سنتين، وتغريمه مبلغ 50 ألف جنيه، في في 16 فبراير/ شباط 2014، قبل أن يصدر بحقه عفو رئاسي، أصدره رئيس الجمهورية بحق مائة سجين، في سبتمبر 2015.
ظلت فترة سجن عمر بسبب نشاطه السياسي تلازمه في كُل الوظائف التي تقدم لها في شركات القطاع الخاص؛ حيث تحججت هذه الشركات بصحيفة سوابقه الجنائية وهي ترفضه. يقول "صاحب العمل يتتعلل بأني سجين سابق، وهو الأمر المُثبت في صحيفتي الجنائية، رغم أن قانون الخدمة المدنية يؤكد أن القانون لا يسمح إلا بفصل المدانين في قضايا مُخلة بالشرف والأمانة من أعمالهم، وهي الحالات التي لاتنطبق عليَّ".
وقد حدد قانون الخدمة المدنية، رقم 81 لسنة 2016، الذي صدر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، شرطًا وحيدًا للفصل من العمل في حالة المُفرج عنهم من السجن، وهو إدانتهم جنائيًا بجريمة مُخلة بالشرف أو الأمانة، وهي الحالة التي لا تنطبق على الواردة أسمائهم في قوائم العفو.
امتدت هذه الآثار إلى حياة عمر اليومية، في تغيُر في سلوكه الذي لاحظه مُقربون منه، حسب عمر، الذي يتحاشى الحديث عن هذه التغييرات "الموضوع شخصي؛ الزنزانة تظل تؤثر لفترة طويلة في المحبوس بعد خروجه منها، سواء في أفكاره، صلاته الشخصية مع المحيطين به، عاداته اليومية، أو نظرته الشخصية لمن حوله".
تمتد الصعوبات على استقامتها بالنسبة لعمر؛ حيث أدت إجراءات تتبعه في أماكن خروجه من جانب الأجهزة الشرطية، في السنوات الأولى للعفو الصادر بحقه، لشعوره بالضيق، خاصة بعدما اكتشف إدراج اسمه في قوائم الممنوعين من السفر عندما كان مسافرًا في يناير/ كانون الثاني من العام قبل الماضي إلى النمسا لاستلام جائزة دولية في الأدب.
"إحنا آسفين.. أوامر عليا"
تُلزم العقوبة الاستكمالية ماهر المبيت في قسم شرطة ثالث القاهرة الجديدة يوميًا، من السادسة مساءً وحتى السادسة صباحًا. يوضح ماهر لـ المنصة "تخيلت أن الموضوع سهل؛ مش معقول للدرجة دي يمارسوا موضوع المُراقبة على ناشط سياسي؛ العقوبة تتطبق على حرامية الشقق، النشالين، أو تاجر مُخدرات على أساس أن هيمارس جريمته ليلًا".
اكتشف، ماهر، بعد مرور سنتين على قضاء فترة المراقبة، كم الصعوبات والمشقة، على خلاف أوهامه الأولى حول كونها إجراءات روتينية لن تؤثر على حياته، كما كان يعتقد.
الأشهر الستة الأولى من العقوبة التكميلية قضاها ماهر وحيدًا في غرفة داخل القسم، قبل أن ينتقل إلى غرفة أخرى شبيهة بالزنزانة، مساحتها تقريبًا 5 × 4 متر، مع عدد من المُتهمين الجنائيين في جرائم سرقة، يتراوح عددهم عادةً بين ثماني إلى 12 مُتهمًا، يفترشون أمتعتهم يوميًا للمبيت داخلها؛ حتى تتسلل أشعة الشمس للغرفة من أحد الشبابيك، بحسب ماهر.
يستعيد ماهر وقائع أحد الأيام التي مرت عليه داخل القسم "بعد نزولي من منزلي مُتجها للقسم؛ تلقيت اتصالًا من والدتي تخبرني بمرضها الشديد؛ فاضطررت للذهاب إليها للاطمئنان عليها؛ قبل أن أعاود للقسم مجددًا بعد مرور عشرين دقيقة من بدء موعد المُراقبة؛ لأكتشف أن الضابط كتب محضرًا يتهمني فيه بالهرب من المُراقبة، وأدخل في قضية جديدة اضطررت على إثرها بلبقاء في الزنزانة حتى تم إحالتي للمُحاكمة التي أخلت سبيلي، وأقرت ببرائتي من التهمة، بعد ثبوت صحة أسباب تأخري عن بدء موعد المُراقبة عشرين دقيقة".
تحدث أحمد ماهر عن التعسف في منحه إجازات لظروف اضطررية كحالة وفاة، أو ظروف عمل خارجة عن إرادته، وهو ماتفهمه بعدما أبلغه ضباط القسم "بشكل مُهذب" عن تلقيهم "أوامر عُليا" بالتشديد عليه، على وجه التحديد، وعدم منحه أي إجازات تحت أي مُبررات أو ظروف.
يلاحظ ماهر نظرات "كراهية" و"غل" ترمقه من عيون أمناء الشرطة داخل القسم، يوميًا، التي توصل لأسبابها بعد نقاشات معهم "هم أشبه بمن عندهم عقدة مني؛ على اعتبار أني من شباب الثورة التي كان سببًا في المشاكل الكبيرة للبلد"؛ على خلاف تعامل الضباط الذي يتسم بالاحترام في التعامل حتى في ظل التعليمات المُشددة التي يعقبونها بجملة "إحنا آسفين".
امتدت آثار هذه الصعوبات على ماهر في الساعات التي يقضيها خارج أسوار القسم؛ "كُل حاجة بعملها وأنا باصص للساعة؛ الطريق لو وقف؛ يجيلي هلع. العربية لو عطلت؛ بترعب".
يستكمل حديثه "اترفدت من شغل كتير بسبب أني أحمد ماهر؛ الفيش بتاعي مكتوب فيه الجريمة والحُكم. أصحاب الشغل بيخافوا يشغلوني. حياتي وحياة أهلى اتأثرت كتير بسبب ظروف السجن، الي انقطعت عن الوظيفة ومصدر الدخل لثلاث سنوات متصلة، وبعد كده فترة المُراقبة كملت علي".
تغيّرات كبرى
حملت هذه السنوات الثلاث التي عاشها ماهر داخل السجن تغيرات كبيرة أيضًا على مستوى تقييم مسارات الأحداث السياسية، إذ بدأ في هذه الفترة قراءات جديدة لتجارب دول مرت بثورات، وأنماط العمل لحركات سياسية حول العالم، جعلته أميل إلى التوافق والقبول بالحلول الوسط، على خلاف "راديكاليته المُفرطة التي كانت خطأ كبيرًا"، كما يصف نفسه في السابق.
إلى جانب وظيفته الحالية كمهندس مدني، يدرس ماهر حاليًا لنيل دبلومة دراسات سياسية، متأثرًا بقراءات سنوات السجن، التي جعلته أميل للتعرف على العلوم السياسية من بعد نظري بعدما مارسها على المستوى الحركي فقط، وفقًا له. لكن حتى أفكاره التوافقية لايجدها ماهر "وسيلة مقبولة" للحوار مع السلطة الحالية التي يعتبرها "كيانات متضخمة معندهاش فكرة أن فيه حاجة اسمها إصلاح أساسًا".
وحول ما إذا كانت سنوات السجن السابقة، والصعوبات التي عاشها هو وعائلته ستجعله يعتزل الشأن العام والسياسي، أجاب "مش سهل؛ لكن سأمارس السياسة بأفكار جديدة عما كان عليه الحال في السابق".
"التدابير الاحترازية وفترات المراقبة تحولت إلى عقوبات سياسية في الأعوام الأخيرة" في رأي حليم حنيش، المحامي في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، إذ أنها باتت تُمارس بحق النشطاء السياسين، في العام الأخير بشكل ملحوظ، على خلاف الأعوام السابقة التي كانت عقوبة التدابير الاحترازية يندُر تضمينها في الأحكام القضائية.
كانت المُصورة الصحفية إسراء الطويل أول حالة لمعتقل سياسي يواجه عقوبة "التدابير الاحترازية"؛ بعدما قررت محكمة جنايات القاهرة، في ديسمبر/ كانون الأول عام 2015، إخلاء سبيلها على ذمة التحقيقات التي تجري معها بمعرفة النيابة في قضية "اللجان الالكترونية والإعلامية للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان"، مع اتخاذ تدبير احترازي، يُلزمها بعدم مُغادرة مسكنها، إلا بإذن مسبق من الشرطة لتلقي العلاج في حالة حاجتها له.
وفقاً الباحث الحقوقي، فالتدابير الاحترازية هي بديل للحبس الاحتياطي، حسبما أشارت المادة 201 في قانون الإجراءات الجنائية، التي لا تحدد نهاية لهذا الإجراء. وفي حالات أخرى تكون عقوبة تكميلية لعقوبة السجن الأصلية، تنتهي بعد عدد محدد من السنوات يُحددها الحُكم الصادر من القاضي.
الجنائيون أوضاعهم أسوأ
من واقع مُتابعة حنيش لعشرات القضايا السياسية والجنائية التي يترافع بها، فإن السجناء الجنائيين أوضاعهم أكثر سوءًا من غيرهم خصوصًا أولئك الذين يقضون فترات مُراقبة، ويضيف حنيش لـ المنصة "أشكال التكدير تتنوع بين الابتزاز مالي وتعمد الإساءة الشخصية، أو الإذلال بوسائل مختلفة غير أخلاقية".
س .غ سجينة جنائية يبلغ عمرها 34 سنة أخلي سبيلها في إحدى القضايا المُخلة بالشرف، وتقضي حاليًا عقوبة تكميلية، وهي فترة مراقبة تستوجب منها الذهاب لقسم شرطة يبعُد عن قريتها بمحافظة الشرقية نحو 15 كيلو متر، لستة ساعات يوميًا، بواسطة عربة نصف نقل أجرة مقابل ثلاثة جنيهات أو توكتوك بعشرين جنيهًا.
"الأمناء بيتعاملوا على أني مش هيفرق معايا شيء لوعملوا حاجة معايا؛ على اعتبار أني كدا كدا ملطوطة" هكذا تصف المرأة الثلاثينية طريقة التعامل معها من جانب أمناء الشرطة، وهي التي تقضي فترة مراقبة لمدة سنتين، بعد إخلاء سبيلها.
تروي السيدة وقائع مختلفة مع الانتهاكات التي ترتكب بحقها على مدار هذه السنة من جانب الأفراد العاملين في القسم."ممكن يقولوا لينا ممنوع ترفع رأسك لفوق؛ تقعد وأنت رأسك في الأرض، وأي تحسين في الأوضاع لازم تدفع فلوس، وكُل حاجة لها تسعيرة".
عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، حافظ أبو سعدة، يصف مُتابعة ملف المُخلى سبيلهم ودمجهم مُجتمعيًا بـ "الضرورة" بالنسبة للمجلس ومنظمات المجتمع المدني، كاشفًا عن وجود جمعيتين حقوقيتين تعملان على رعاية السجين قبل إخلاء سبيله بشهرين كاملين، وذلك بالتنسيق مع وزارة الداخلية.
يقول أبو سعدة لـ المنصة إن هذه الجمعيات تعمل مع المُخلى سبيلهم بشكل اختياري؛ حيث تترك للسجين حرية التجاوب من عدمه. ويضيف "التوسع في مثل هذه المبادرات مطلوب للرعاية اللاحقة للسجين؛ وهو أمر سنعمل عليه الفترة المُقبلة، بعد الانتهاء من عادة تشكيل المجلس".
ويعتبر أبو سعدة أن "فترة المراقبة أو التدابير الاحترازية انتقاص من أهلية الشخص، والتشديد من عدمه يخضع لأهواء الضابط أو أمين الشرطة المسؤول عن مُتابعة السجين في هذه الساعات".
المجلس القومي لحقوق الإنسان تلقى بالفعل العديد من شكاوى النشطاء السياسيين الذين يقضون فترة المراقبة أو التدابير الاحترازية، وفقًا لأبو سعدة، الذي يوضح أن المجلس يتفاعل مع هذه الشكاوى كما حدث في شكوى سابقة لماهر "بشأن انتهاكات تُمارس بحقه خلال ساعات المراقبة، والتي تفاعلت معها، وقررت الذهاب إليه شخصيًا في قسم الشرطة الموجود به، وأزيل الكثير من الصعوبات التي كانت تنغص عليه حياته".