من جنازة الرئيس التونسي الراحل، قائد باجي السبسي. الصورة: الرئاسة التونسية على فيسبوك

بين المنع والتحريض والحصار: الجنازات كساحة للمعارك السياسية

منشور السبت 3 أغسطس 2019

خرجت جنازة الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي؛ بمشاركة عدد من قادة دول العالم، واصطف آلاف التونسيين في شوارع العاصمة لتشييع الجثمان، أيضا أعلنت الحكومة التونسية الحداد لمدة سبعة أيام ونكست الأعلام وألغت النشاطات الفنية في البلاد، كما أعلنت مصر الجزائر وليبيا وموريتانيا والأردن الحداد لمدة ثلاثة أيام، بينما أشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بيان للبيت الأبيض بـ "قيادة السبسي الرائعة". في المقابل أعادت الجنازة المعارك الفكرية والسياسية للإسلاميين في مواجهة العلمانيين، وقال الداعية المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين وجدي غنيم، اللاجئ في تركيا، إنه لا يجوز الترحم على السبسي، معتبرًا أياه "كافر" عاش يحارب الإسلام، حسب وصفه. إذ كان غنيم من أشد المنتقدين لمواقف السبسي المتعلقة بالمرأة وخصوصًا المساواة بين المرأة والرجل في الميراث، والسماح للتونسية المسلمة بالزواج من غير المسلم.

تلك التصريحات دفعت يوسف الشاهد، رئيس الحكومة التونسية لمنع غنيم من دخول تونس، وهاجم نائب رئيس حزب النهضة اﻹسلامي التونسي، عبد الفتاح مورو،  الداعية المصري ووصفه بأنه "ليس إنسانًا، بل قاذورة من قاذورات التاريخ، ومجرد ذكر اسمه يستوجب الوضوء".

تفجّر اﻷزمات السياسية بسبب الجنازات ليس جديدًا، ولمصر عدة سوابق في ذلك، فعبر الأنظمة الحاكمة المختلفة، كان هناك الكثير من الجنازات التي تحولت إلى ساحة للمعارك السياسة، ابتداء من النظام الملكي مرورا بثورة يوليو ونظام مبارك، وصولا إلى النظام الحالي.

 

نعش تحمله النساء

كان موقف النظام الملكي من جنازة حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ومرشدها الأول، أشهر تلك العداءات وأشدها عنفًا، لا سيما وأن لصاحبها مئات الآلاف من الأنصار والأتباع، حتى أن أتباعه يعتبرونه إمامًا، فكان حرص النظام على عدم إقامة جنازة له، ومنع أتباعه من المشاركة، بل ومنعهم من أداء واجب العزاء، نابعًا من التخوف من تجمع أنصاره واحتمالية تظاهرهم، وربما وقوع أحداث دامية.

في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف ليل 12 فبراير 1949، كان حسن البنا، مؤسس جماعة اﻹخوان المسلمين، يلفظ أنفاسه اﻷخيرة بمستشفى قصر العيني، بعد تعرضه ﻹطلاق نار أمام جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس.

أرادت الحكومة المصرية أن تظل الجثة في المستشفى حتى تخرج إلى الدفن مباشرة، وذلك خشية تجمع أنصاره، ولكن ثورة والده جعلت الحكومة تتنازل فتسمح بحمل الجثة إلى المنزل، لكنها اشترطت أن يتم الدفن في الساعة التاسعة صباحًا، وألّا يُقام عزاء.

وحسب مقال نشر بموقع إخوان أون لاين، "نُقلت جثة البنّا إلى بيته في سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين، وفي أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة ونزل الجند فأحاطوا ببيت الإمام الفقيد، ولم يتركوا ثقبًا ينفذ إليه إنسان إلّا سدوه بجند وسلاح".

اعتقال المعزين

ويقول الكاتب الصحفي محمود الشريف، في تحقيق له نشر بصحيفة الغد تحت عنوان من قتل حسن البنا؟ إن الشرطة لم تسمح لأحد بالاقتراب من البيت، حتى أن والده لم يجد من يغسّل ابنه، ففعل ذلك بنفسه، وأيضًا لم يجد رجالا لحمل النعش، فكل رجل حاول الاقتراب من بيت البنا قبل الدفن، اعتقلته السُلطة، وحسب الشريف، عندما أخبر والد البنّا الشرطة بذلك، ردوا عليه بأن تحمله النساء، وبالفعل خرج النعش محمولا على أكتاف النساء.

أما عن العزاء فمَن استطاع الوصول إليه لم يمكنه العودة إلى بيته، فقد قُبض على كل من حضر الجنازة، وأودعوا المعتقلات، باستثناء وزير المالية وقتها، مكرم عبيد.

صراع بين ثورتين

عندما قامت ثورة يوليو 1952 سرعان ما شرع رجالها في حل الأحزاب السياسية، وكانوا أكثر عداءً تجاه حزب الوفد،  وهذا يتضح في إشارات الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في كتابه قصة الثورة كاملة، إذ يقول "بقي أن نعود إلى وحداتنا في الجيش ونترك البلاد لنفس الأشخاص الذين حكموها قبل 23 يوليو"، وفي توضيحه لمقصده أضاف "أي أن ثورة الشعب العربي المصري تسلم قيادتها هكذا ببساطة إلى النحاس وسراج الدين والهضيبي وإبراهيم عبد الهادي، وكل أفّاق مدعيٍّ يريد أن يصبح زعيمًا بخطبة أو  بوعد معسول"، ما يعكس نظرة الضباط الأحرار إلى رجال الوفد باعتبارهم من بقايا النظام البائد.

وكانت جنازة رئيس حزب الوفد، مصطفى النحاس، دليلا على ذلك الصراع بين رجال يوليو والوفد، فتجمعت الشرطة بكثافة، في ميدان الحسين، مزودة بأنواع عديدة من الأسلحة والعصي والهراوات والبنادق والغازات المسيلة للدموع والسيارات والموتسيكلات، وكأنها تستعد لخوض معركة، كما وصفها علي سلامة في كتابه "ما لا يعرفه الناس عن الزعيم مصطفى النحاس".

وأضاف سلامة في كتابه، أن الجماهير أتمت الصلاة على النحاس وسط ترحيب دراويش الحسين، إلى أن خرج النعش محمولا على أعناق الجماهير رغم طلقات رصاص الشرطة في الهواء، والقنابل المسيلة للدموع في محاولة للاستيلاء على النعش لوضعه في إحدى العربات الحكومية.

وأضاف أن الجماهير رفضت ذلك، إلى أن تم وضع النعش في السيارة المخصصة له وسارت وسار من خلفها رتل من سيارات كبار المشيعين إلى البساتين، حيث مقبرة الزعيم التي بناها لنفسه، وعلى جانبي الطريق  شوهدت العربات الجيب والعربات المصفحة، التي رصدتها الحكومة لإشاعة الخوف في نفوس المشيعين. لم يرضَ النظام عن تلك الجنازة الشعبية التي جاءت بديلا عن الجنازة الرسمية التي لم تقمها الدولة، وأيضًا كاشفة لحجم الجماهيرية الحقيقية لحزب الوفد، فلم تكتف بمطاردة الجنازة؛ بل صدر قرار جمهوري باعتقال كبار الوفديين الذي شاركوا في الجنازة، حيث قبعوا في السجن لعامين وشهرين وعشرين يومًا، حسبما ذكر علي سلامة في كتابه.  

صوان الوفد الممتد

ما بين وفاة مصطفى النحاس وموت فؤاد سراج الدين، مؤسس الوفد الجديد، في 12 أغسطس 2000؛ سنوات كثيرة، إلا أن الرجل الذي عاش يعاني الاعتقالات السياسية في حياته، طالت يد النظام جنازته أيضًا ، فالواقعة تسجلها جريدة الحياة، في تقرير بعنوان جنازة فؤاد سراج الدين كادت تتحوّل إلى مواجهة بين أنصاره والشرطة.     تقول "الحياة" إنه "كان مقررًا تشييع الجثمان الذي لُفّ بعلم مصر، في جنازة شعبية من مسجد عمر مكرم في ميدان التحرير وسط القاهرة ولمسافة لا تتجاوز مئة متر. إلا أن الوجود الأمني الكثيف في المنطقة فرض حصارًا على الجنازة، ومنع الجزء الأكبر من المشيّعين من المشاركة فيها، وأبقى عليهم إلى جوار المسجد. وأغلقت قوات الأمن الشوارع المؤدية إلى المسجد الواقع في مدخل حي جاردن سيتي".

أشارت الصحيفة أيضًا إلى الحضور الرسمي رفيع المستوى؛ حيث شارك في جنازة سراج الدين أشرف بكير، نائبا عن الرئيس اﻷسبق حسني مبارك، ونائب رئيس الحكومة الدكتور يوسف والي، وشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، وغيرهم من السياسيين البارزين، وممثلين عن منظمات وهيئات نقابية وشعبية.

بالتأكيد لم يكن الحضور الرسمي هو ما يقلق مبارك بل ما أوضحته "الحياة" في وصفها للحضور الشعبي الكبير، ومسيرة الجنازة المحاطة بلافتات سوداء وأخرى خضراء رمز الحزب، كتبت عليها شعارات مثل "الوفد سيظل قلعة الحرية" و"عشت زعيمًا ومت زعيمًا يا فؤاد"،  مشيرة إلى نية الوفد تحويل الجنازة "إلى تظاهرة شعبية تعكس ثقل الحزب جماهيريًا وسياسيًا". كل ذلك جعل قوات اﻷمن  تنتشر بشكل وصفته "الحياة" آنذاك، بأنه "لم تشهده القاهرة منذ سنوات". الأمر الذي أغضب أنصار فؤاد سراج الدين، حتى تلاسن بعضهم مع ضباط كبار في الشرطة، ما كاد أن يتطور إلى اشتباكات، لولا صدور تعليمات بإتاحة الفرصة أمام مرور جزء من المشيعين بعد التصاقهم بالشرطة، حسب وصف "الحياة".

أربعة أشخاص

أثارت وفاة مرشد جماعة اﻹخوان المسلمين، مهدي عاكف، في سبتمبر 2017 أزمة جديدة، إذ فرضت الداخلية طوقًا أمنيًا حول مستشفى قصر العيني، حيث كان توفي بينما كان يتلقى العلاج، بدأ من خروج الجثمان من المستشفى حتى مكان دفنه بمقبرة مرشدين الإخوان بمدافن الوفاء والأمل بمدينة نصر، في اليوم التالي لوفاته.

كما منعت أنصاره وأقاربه من تشييع جثمانه، وسمحت لمحاميه و3 من أفراد أسرته فقط بحضور الجنازة. ذلك الأمر الذي جعل جماعة الإخوان تشن هجومًا حادًا على السُلطات، واتهمتهم بالتسبب في وفاته ومنع الصلاة عليه، وهو ما نفته وزارة الداخلية، مؤكدة أن "عاكف" فارق الحياة، إثر أزمة صحية، مشيرة إلى أنه "خضع لرعاية طبية متميزة شأنه شأن أي محبوس مريض".

الجنازة تنتصر على الانتخابات

بعيدًا عن أي انتماء سياسي، كان غريبًا أن تثير جنازة كاتب أزمة، ولكن هذا ما حدث مع جنازة أحمد خالد توفيق في أبريل 2018،  عندما توفي عن عمر 55 سنة، إثر تعرضه لأزمة قلبية حادة، وهو الخبر الذي تلقاه محبوه بصدمة شديدة، ما أثار جدلا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيّما وأن الكاتب الملقب يتمتع بجماهيرية كبيرة، فراح قراؤه ومحبوه، وهم بالآلاف، ينعون الكاتب، ذاكرين فضله عليهم مثلما يقول شاهد القبر "جعل الشباب يقرأون".

لم يتوقّف الأمر عند التدوين على مواقع التواصل المختلفة، بل امتد إلى المشاركة في تشييع جثمانه، بمسقط رأسه بمدينة طنطا، التي تبعد عن القاهرة بمسافة 93 كم، وفي مشهد استثنائي وضع محبوه على قبره مئات القصاصات من الورق، دُوّن عليها عبارات للكاتب أو عرفانا بالجميل له. ما جعل جنازته تحظى بنصيب الأسد من التغطية اﻹعلامية في تلك الفترة.

تزامن ذلك مع إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات في مصر، نتائج الانتخابات الرئاسية 2018، وهو الخبر الذي لم يتفاعل معه الشارع كثيرًا، ما دفع بعض الصحف المعروفة بولائها للنظام، وبعض الإعلاميين، إلى مهاجمة توفيق، الأمر الذي آثار غضب محبيه، فراحوا يدافعون عنه، مهاجمين النظام وأنصاره.

 

https://www.youtube.com/embed/fDPMLQsj-U4

بدون جنازة، وفي حضور أفراد أسرته ومحاميه فقط، دُفن الرئيس اﻷسبق محمد مرسي، فجر  18 يونيو المنقضي، وتحولت وفاته إلى معركة سياسية، حرص فيها الإعلاميون والصحف المحسوبون على النظام، على مهاجمة مرسي، واصفينه بـ"الإرهابي"، ومعتبرين من تعاطفوا مع وفاته "إخوان".

وتنوعت برامج التوك شو عبر الفضائيات المصرية التي تناولت وفاة الرئيس الأسبق، بين التنصل والتبرؤ من التعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين إلى الهجوم على من قدموا واجب العزاء من الشخصيات العامة لأسرة المخلوع.

كذلك جميع وسائل الإعلام المصرية الحكومية والخاصة عبر مواقعها على الإنترنت، باستثناء مصراوي، أهملت ذكر صفة مرسي في خبر وفاته، كرئيس سابق أو معزول، وهو خطأ مهني إذ تلزم الأعراف الصحفية المستقرة ذكر صفة أي شخص يأتي ذكره في أي قصة صحفية منشورة.


اقرأ أيضًا: اسم بلا صفة: كيف سقط الإعلام المصري مهنيًا في تغطية وفاة مرسي