تصميم: يوسف أيمن - المنصة

عجلة الإنتاج فيها سم قاتل: كيف يتجنب رجل الأعمال الذكي الموت مريضًا مفلسًا؟

منشور السبت 18 أبريل 2020

شاركتُ الكثير من المصريين مشاعر الصدمة والذهول وخيبة الأمل، أمام تصريحات رجال أعمال أعلنوا عزوفهم عن التبرع لمصر في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الإنسانية قاطبة على كوكب الأرض، بل وبلغ الأمر بأحدهم أن فضّل أن يمرض الناس ويموت منهم من يموت في سبيل أن يستمر العمل وننقذ الاقتصاد.

هذا بخلاف رطانة متكررة وحديث ممجوج عن عجلة الإنتاج، واستمرار الاقتصاد، والخوف على الناس من "الموت جوعا"، إلى جانب رغبة أعلنوها مطالبين الدولة بتخفيض الضرائب عليهم، مع تأكيد عزمهم على تخفيض أجور العاملين لديهم؛ "ما تموتوا".

هكذا بكل بساطة، وصراحة، وشفافية، يعلن بعض رجال الأعمال عن استعدادهم للتضحية بأرواح الناس، وميزانية الدولة المتكفلة بهم، في سبيل ألا ينتقص من ثروة "عم دهب" مثقال درهم.

ولكن بخلاف الصدمة الناتجة عن هذا القدر من انعدام الإنسانية، والغرور الذي دفعهم للظن أنهم في بروج مشيدة لن يطالهم فيها ولا ذويهم هذا الوباء القاتل، فإن سفاهة أحلام هؤلاء "المخضرمين" في مجال المال والأعمال تثير الدهشة.

فالتبرع للمنكوبين وضحايا الأوبئة والأمراض والكوارث والحروب، ليس فقط محض إنسانية وطيبة قلب وحنان سريرة.

لو أن هؤلاء الأشخاص دخلوا مجال المال والأعمال على أسس علمية، فلابد أنهم يعلمون تمام العلم، أن التبرع شكل من أشكال الاستثمار الربحي الضروري والهام من أجل توسيع نشاطهم الرأسمالي، ودعم مشروعاتهم، بل ومضاعفة أرباحهم.

كما أنني لم أكن أظن أبدًا في هؤلاء الأشخاص هذا القدر من الفقر المعلوماتي، والتكبر على سؤال ذوي العلم والخبرة؛ فما يطمح إليه هؤلاء الذين يرغبون في إجبار الناس على النزول إلى أعمالهم في خضم الوباء، بينما يجلسون هم مختبئون في بيوتهم، لن يؤدي إلى أية أرباح، ولن ينقذ أي اقتصاد.

نحن لا نتحدث بشكل نظري. بنظرة سريعة إلى إيطاليا، فإن هذه الدولة الكبرى التي تنتمي إلى العالم الأول، وتقدم للإنسانية صناعات حقيقية ثقيلة، لا صناعات استهلاكية كما هو الحال في أغلب صناعاتنا، خُدعت بما تردد في بداية انتشار الوباء، من أن كورونا ما هو إلا "دور برد شديد شوية"، وأن الإنفلونزا الموسمية تقتل أكثر من كورونا، وأن الأمر بعيد، فهذه مشكلة صينية، والأوبئة لا تخطو عتبة العالم الأول، فهي من نصيب أولئك المتخلفين القذرين الذين لا يهتمون بالعلم والنظافة، لذلك، فلا داعي للهلع، ولا داعي لوقف عجلة الإنتاج. علينا اتخاذ تدابيرنا، وعدم إيقاف حياتنا.

هناك داعٍ الهلع

اكتشف الطليان أن هناك داعٍ للهلع، فقد حدث ما نعلمه جميعًا من انفجار مباغت للوباء في إيطاليا؛ كان عدد المصابين ما يربو بقليل عن المئتين، وعدد القتلى 17، نام الناس على ذلك، ثم استيقظوا صبيحة يوم على كارثة لم تكن في الحسبان، وصارت الأكفان والتوابيت تغطي طرقات إيطاليا الحزينة، حتى نفدت التوابيت ولم ينفد الضحايا.

الانفجار المباغت للوباء في إيطاليا، لم يتسبب في وقف الاستثمارات والأعمال الخاصة والحكومية فحسب، بل كبد الدولة نفقات ترميم النظام الصحي الذي انهار فجأة، وكان نظاما صحيا ممتازًا لا نمتلك مثقال ذرة من إمكاناته. ولم تحل الأموال والسلطة دون إصابة رجال الأعمال ورجال الدولة بالمرض الذي قتل العديد منهم. في حال انتشار هذا الوباء الطاعوني بشكل خارج عن السيطرة، يصبح الجميع، من أصغر رأس في البلاد حتى أكبرها، تحت تهديد الإصابة، ولا منجي سوى الله.

إذن، فقد ضنت الدولة الإيطالية على مواطنيها بأزمة اقتصادية مؤقتة لاحتواء المرض، كي تقع في أزمة اقتصادية سرمدية ليس من المنظور أن تتعافى منها في وقت قريب، كما كبدت نفسها تكاليف باهظة على إثر الانهيار الصحي. فأصبحت خسارتها الاقتصادية مضاعفة، كما أنها لا تملك ثروة بشرية تتمتع بالصحة اللازمة لإقالة عثرة الاقتصاد بعد تخطي الأزمة.

أعلم أن بعض رجال الأعمال يظنون أنهم بمنأى عن هذا المرض؛ أنا رجل ثري، أجلس في بيتي، وأحيط نفسي بأبنائي وأسرتي، ولقد اشتريت أجهزة تنفس، واشتريت دواء الملاريا، ولن أخالط أحدا، وسأقيم مستشفى على أعلى مستوى في بيتي، أو ربما أسافر إلى ألمانيا أو إنجلترا أو سويسرا للعلاج. وهذا ما يمنحهم الشجاعة للزج بالناس في أتون المرض والوباء.

حد ضامن يمشي آمن؟ 

الحقيقة العلمية المستخلصة من التجربة الإيطالية هي أنه لا أحد في مأمن، وجهاز تنفسك الصناعي هذا باللهجة العامية المصرية "تبله وتشرب ميته"، إلى جانب "مية" دواء الملاريا. 

تفضل، سافر إلى ألمانيا وإنجلترا وسويسرا، وكما يقول المثل المصري، كان الـ*** نفع نفسه، لإنهم ليسوا في أفضل حالاتهم ولن يتمكنوا من علاجك هذه الأيام. جهاز التنفس الذي اشتريته بضعف ثمنه وتضعه إلى جوارك الآن ليس ضمانة للنجاة، فقد مات عليه الآلاف في مكان أفضل من بيتك، وبلد أكثر تقدما من بلدك.

دواء الملاريا أيضًا له آثاره جانبية، ولا يشكل أي ضمانة. انعزالك في قصرك المنيف لن يحول دون إصابتك بالوباء إذا ما، لا قدر الله، انتشر في البلاد نتيجة لنظرياتك الاقتصادية الثاقبة. أنت لم تصب الآن لإن الوضع لم ينفجر بعد، لكنك تعمل جاهدًا على انفجاره ولكل مجتهد نصيب. أما إذا فقدت الدولة السيطرة بسبب تهديداتك المطردة بزيادة معدلات البطالة وتجويع الشعب، فسيأتيك الوباء لا محالة، والعزل لن ينفعك، لإنك تعيش في مجتمع موبوء ولا مهرب لك، فالعالم كله يطارده الوباء.

أنت تبخل على الناس بخسارة لمدة أسبوعين أو شهر أو شهرين على الأكثر، كي تخسر مدى الحياة؛ تخسر مالك واستثماراتك وأعمالك وتخسر حياتك وحياة أحبابك. تدفعك خشية خسارة بعض الملايين إلى قتل آلاف الناس، دعني أبشرك بإن ما تبذله الآن من جهد سيجعلك تلحق بالآلاف الذين لا تمانع قتلهم، بعد أن تخسر ملايينك وتموت مريضًا مفلسًا.

شوية هبل بتوع حقوق إنسان؟

المثير للشفقة فعلا، أن هؤلاء الأشخاص لم يقرأوا أو يسمعوا عن الشركات العالمية ورجال الأعمال الذين تبرعوا للتصدي لوباء الكورونا، أو ربما قرأوا وسمعوا وظنوا أنهم "شوية خواجات هبل عاملين فيها بتوع حقوق إنسان... هو اللي عندنا دول إنسان؟".

أليس كذلك؟

الحقيقة لا، رجال الأعمال في كل أنحاء العالم لا يرغبون إلا في الربح، ولكن التبرع عمل ربحي بامتياز. المليار الذي ستتبرع به اليوم، سيرد إليك عشرة في المستقبل القريب جدًا، فأنت ربحت سمعة، وحافظت على الأيدي العاملة التي تفرخ لك البيضة الذهب، وكسبت "زبائن" ومتعاملين، حافظت على حياتهم، فأصبح لديهم ما ينفقونه لشراء سلعتك، وأعفيت من الضرائب، وكسبت ثقة الملايين، وأطلقت حملة إعلانية عالمية ستجود عليك بنتائج أكبر وأوسع بكثير من ألف إعلان مدفوع.

ولدينا أمثلة في العالم كثيرة.

جاك ما، رجل الأعمال الصيني، الذي تبرع لإفريقيا – قبل أن تسجل إصابات كبيرة بالفيروس – بمليون شريحة اختبار للفيروس، وستة ملايين قناع واق، وستين ألف سترة واقية، مصرحا؛ لا يمكن أن نفقد إحساسنا بالمسؤولية تجاه العالم، ونستسلم للفزع، ولا نساعد أولئك الذين إذا ما أصابهم الوباء لن يتمكنوا من مجابهته بسبب فقر مواردهم. 

كما تبرعت شركة أمازون لدعم الاقتصاد الداخلي وتعويض الخسائر التي ستلحق به من جراء انتشار الفيروس، إلى جانب تبرعات لقطاع الأعمال وقطاع الصحة في الولايات المتحدة الأمريكية، قامت بها شركات ميكروسوفت، وستارباكس، وآلاسكا للخطوط الجوية. أما على المستوى العالمي، فقد تبرعت الشركات المذكورة بإرسال شاحنات بالمستلزمات الطبية الأساسية لإيطاليا وفرنسا. 

مؤسس فيسبوك مارك زوكريبرج بدوره تبرع بعشرين مليون دولار أمريكي، كما تبرعت شركة أبل بخمسة عشر مليون دولار لمنظمة الصحة العالميةوالأمم المتحدة، للتصدي لوباء الكورونا في الولايات المتحدة وحول العالم. 

والأمثلة حول العالم كثيرة، لا ننسى منها شركة روش السويسرية للأدوية، والتي تبرعت بشرائح التحليل للولايات المتحدة الأمريكية، وشركتي رولز رويس ودايسون اللتين تبرعتا بأجهزة تنفس لبريطانيا. حتى شركة لوي فويتون التي تصنع حقائب النساء المترفات، وكريستيان ديور، وجيفينشي تبرعوا لدعم الاقتصاد وإغاثة المرضى. 

بخلاف تصريحاتهم التي تنطق بالإنسانية والرحمة، نقرأها ونتذكر "الناس ترجع الشغل بقى حتى لو هيعيوا، ما يجراش حاجة". و"ما يعيوا.. شوية حيموتوا ونضحي بيهم زي ما ضحينا بالعساكر في حرب أكتوبر". "ماحدش بقى يقول لي اتبرع وأنتوا مقعدين الناس في البيت".

الله! الملافظ سعد يا عبد العال. وأنت عليك لفظ يهد جبال. فإن لم يرد رجال الأعمال أن "يغدونا" فعلى الأقل "يلاقونا" بتصريحات رحيمة، أو بالصمت، لا بأس من ذلك.

هل تظن عزيزي المواطن الثري الذي أجاب بمنتهى البساطة متحدثا عن ملايين الفقراء والمهمشين؛ "ما يعيوا"، أن كل هذه الشركات ما هم "إلا شوية خواجات عاملين فيها بتوع حقوق إنسان"؟ كلا البتة، إنها شركات ترغب في الربح، بل وتحقق أرباحًا أكبر بكثير مما تحققه أنت؛ قس رأسمالك برأسمالهم وأرباحك بأرباحهم.

إن هذه الشركات قاطبة، تستغل هذه الأزمة لصالحها تماما، وتقوم بالتبرع كي تجني أضعاف ما تبرعت به في مستقبل قريب جدًا، وتطلق تصريحات إنسانية كشكل من أشكال الدعاية المجانية، بينما لا تخطط أنت إلا لقتل العاملين في شركاتك، والمتعاملين معها، كي تجلس وحيدًا مريضًا مفلسًا، فنرجو منك التدبر في حديثك وإعادة النظر في خططك وألا يكون على قلوب أقفالها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.