تصميم: يوسف أيمن - المنصة

احتجاجات العرايا: "الخطأ التراجيدي" في قراءة مظاهرات سبتمبر

منشور الاثنين 28 سبتمبر 2020

 

يبدو من الصعب التعامل مع الحركة الاحتجاجية الأخيرة والتي تركزت على الهامش في أحياء شعبية ومناطق نائية في الظهير الريفي هي الأكثر فقرًا، كنواة لثورة جديدة، وهي في واقع الأمر لم تصل حتى إلى تظاهرات واسعة ذات سند جماهيري حقيقي على الأرض، ولكن في الوقت نفسه، فإن هذا الحراك يحمل في جوهره الكثير من الدلالات حول ما قد تتطور إليه الأوضاع في المستقبل. 

ورغم أن المخاوف من بطش السلطة العشوائي وتحريك آلتها القمعية بعد ما شهدناه خلال السنوات الست الأخيرة من ممارسات أمنية تجاوزت في وقائع كثيرة حدود الدستور والقانون حيّدت كثيرين عن أي حراك سياسي واجتماعي، فإن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الدولة -وما زالت- خلال السنوات الأربع الأخيرة وتحديدًا منذ تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأخرى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، كانت لها تداعيات. 

صحيح أن الإزالات العشوائية لمنازل آلاف المواطنين بدعوى مخالفة قانون البناء كانت الدافع المُباشر للتظاهر، ولكن الأسباب الحقيقية الكامنة فى الخلفية أكثر عمقًا وأكثر تعقيدًا حتى من مجرد ربطها بعموم سوء الحالة الاقتصادية وموجات الغلاء الجنوني التي لم يعد أبناء الطبقة الوسطى وما دونها قادرين على احتمالها.

لا أدافع بأي شكل من الأشكال عن البناء على الأراضي الزراعية ولا إقامة الأبراج السكنية دون التراخيص اللازمة التي تضمن سلامة المباني والسكان، وتضمن كذلك عدم الإخلال بالتخطيط العمراني للدولة –على فرض أنه موجود أساسًا. وبالطبع لا أؤيد كبار حيتان المقاولات الذين يتربحون من وراء ذلك بالملايين. ولكنَّ هذا ملف كان يُمكن التعامل معه بشكل مغاير ودون هدم منازل فقراء الأرياف والمناطق النائية وتحطيم أسقفها فوق رؤوسهم من أجل تحصيل جباية اسمها "التصالح"، في لحظة أصبحت فيها مسألة تدبير قوت اليوم مُعضلة عويصة بالنسبة لغالبيتهم العظمى.

نحن هنا بصدد مواطنين يعجزون عن سداد فاتورة استهلاكهم للكهرباء والمياه –بافتراض تواجد هذه المرافق لديهم من الأساس– وصار دخلهم المتواضع من بيع محاصيلهم الزراعية يتآكل يومًا تلو آخر، على خلفية ارتفاع كُلفة النقل والزيادات المطردة في أسعار وقود المواتير والمولدات اللازمة لخدمة الحقول مع إجراءات رفع الدعم المتلاحقة عن منتجات البترول، بالإضافة إلى تفاقم مشكلات توصيل مياه الري والتقليص الإجبارى لبعض المحاصيل التي كانت تجلب عائدًا مرتفعًا مثل قصب السكر والأرز، مع تفهمي الكامل لإشكالية المحاصيل ذات الكثافة العالية في استهلاك المياه بشكل عام، وفوق ذلك كله الزيادات الاستعراضية العشوائية في مساحات زراعة القطن في الموسم قبل الماضي وعدم استلامه من الحكومة بالشكل المتفق عليه، مما أدى إلى انخفاض حاد في اسعاره، بل وفي بعض الأحيان عدم تسويقه من الأساس، والذي أدى في النهاية إلى خسائر فادحة للمزارعين. 

وإلى جانب هذا كله، فهناك إصرار عجيب لدى الدولة على الاستمرار في تجاهل تنمية المناطق الريفية. على سبيل المثال؛ لم تخصص الدولة في موازنة السنة المالية 2020 /2021 سوى 47.1 مليار جنيه للاستثمار الحكومي في الصعيد. ورغم أن نسبة هذه زيادة تصل إلى 46% مقارنة بالسنة المالية السابقة، إلا أن هذا المبلغ في حد ذاته لا يُمثل سوى 25.1% من إجمالي الاستثمار الحكومي في السنة المالية المُشار إليها.

وحتى ذلك يبقى مجرد هدف لم يتحقق فعليًا بعد، إذ لا تتعدى الأرقام الفعلية حتى هذه اللحظة 9% من إجمالي التكوين الرأسمالي في محافظات الصعيد  و21.3% من إجمالي المنشآت الاقتصادية رغم أن نحو 30% من السكان يعيشون فيها.

ولا تكمن المسألة فقط في هذه النسب المُجردة، بل يجب أيضًا مراعاة أن البنية التحتية في جنوب مصر تحتاج إلى كثير من التطوير لتصل إلى المستوى المتهالك للبنية التحتية في الوجه البحري، وهو ما يؤدي في النهاية إلى عزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في الصعيد لغياب الحوافز المطلوبة وصعوبة توطين الصناعات هناك.

الأزمات التي يعاني منها الصعيد موجودة بدرجات متفاوتة في الريف المصري كله؛ خاصة محافظات الدلتا الأفقر مثل البحيرة وكفر الشيخ، بل وحتى الظهير الريفي لمناطق حضرية مثل بعض قرى محافظتي الجيزة والإسماعيلية.

وفي هذا السياق الاقتصادي، تبدو الدولة على الجانب الآخر منساقة تمامًا وراء شغفها ببناء ما تسميه "مدنًا جديدة" وتشييد طرق فخمة تخدم الأثرياء من زوار المقاصد السياحة الداخلية الراقية، مثل طريق الجلالة ومحور روض الفرج – الضبعة، متناسية الاحتياجات الملحة للغالبية العظمى من المواطنين.

ومن ثم لم يكن غريبًا أن يخرج الناس في المناطق الريفية والنائية تحديدًا، للتعبير عن سخطهم. ليس فقط بسبب ما اتخذ من إجراءات تحت ستار "مخالفات البناء"، ولكن أيضًا تجاه ما وراء ذلك من سياسات اقتصادية تراجيدية تستهدفهم هم، لا تضع في اعتبارها المتطلبات التنموية لمناطقهم، وهو أيضًا الخطأ التراجيدي الذي وقع فيه حتى من ينتقدون الحكومة، حيث اعتبروا أن الموضوع يتلخص في الأوضاع الاقتصادية في مصر بشكل عام، دون أن ينتبهوا إلى خصوصية الاقتصاديات الريفية بالذات.

في الاقتصاديات الريفية، وهي اقتصاديات ذات طبيعة زراعية في المقام الأول، فإن تجريف الأرض ليس في صالح السكان، ولو كان هناك تخطيط صحيح للمدن من البداية لما اضطر معظمهم إلى البناء على الرقعة الزراعية أصلاً، لأن هذا ينتقص بوضوح من موارد دخل المزارعين (مع وجود بعض الاستثناءات التي لا تستهدف الزراعة المُستدامة فعليًا). ومن ثم؛ فإن معاقبة هؤلاء على أخطاء جذرية ظلت ترتكب طوال سبعين سنة مضت، يعد ضربًا من ضروب العبث.

ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للمناطق النائية الواقعة على تخوم المدن، سواء كانت ريفية أم لا، فقد أصبح القيام فيها بأي نشاط اقتصادي مجدٍ أمرًا شبه مستحيل، لتدهور شبكات الطرق المؤدية إليها وافتقادها إلى بنىً تحتيةً مناسبة، كخدمات الكهرباء التي لا تصل إلى هناك بشكل فعال ومستمر، تلبي احتياجات أي مشروعات صناعية حتى وإن كانت مجرد صناعات خفيفة.

ما غفلت عنه الحكومة أو أهملته هنا هو أن المناطق الموجودة بعيدًا عن العاصمة في دول مركزية مثل مصر، تحتاج إلى شبكات ربط قوية وتخطيط اقتصادي قادر على استيعاب أنشطة متنوعة، وبخاصة الأنشطة الصناعية. وتحتاج أيضًا إلى دور واضح المعالم تلعبه الحكومة بشكل مباشر فى ضبط إيقاع قطاعات بعينها مثلما تفعله فرنسا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في مناطق الأقاليم La Provence لدعم العملية الزراعية. هذا ليس بالضرورة نهجًا اشتراكيًا.

أما الكبارى المُعلقة والجسور الزجاجية الشفافة وشق الجبال لإنشاء طرق محدودة القيمة الاقتصادية فهي كلها مجهودات قد تصلح مادة لملء البرامج والفواصل الدعائية لوسائل الإعلام الموالي للدولة، ولكنها في النهاية لا تسمن ولا تغني من جوع.

في ظل هذا النهج الاقتصادي الذي يهمل سكان الهوامش البعيدة عن المركز ويزيد من إفقارهم، جاء هدم المنازل فوق رؤوسهم ليشكل نقطة تحول قد لا تكون نواةً لأي حراك كبير في المستقبل القريب، ولكنها تبقى نقطة إحباط دفعت بهم إلى الشارع بعد أن فقدوا بيوتًا بناها أجدادهم إذا كانت بيوتًا حديثة العهد، لمجرد أنهم لا يملكون ما يكفى من المال لدفع الجباية، فماذا يمكننا أن نتوقع من أشخاص أصبحوا عرايا في الشوارع؟