
ساحة أبو الحجاج الأقصري.. تهميش البشر في مخططات التطوير
يفرش محمد عبد النبي، 40 سنة، بضاعته من ألعاب الأطفال على طرف ساحة أبو الحجاج الأقصري في مدينة الأقصر، مؤملًا أن يتعلق طفلٌ بلعبةٍ فيشتريها له أبوه، ومن عوائد ما يبيع ينفق على زوجته ووالدته وأطفاله الثلاثة.
بات عبد النبي مهددًا هو والعشرات من الباعة في الساحة بفقدان مصدر رزقهم على وقع عمليات التطوير التي لم تضع البشر في اعتبارها.
"أنا موجود في الساحة من 2007، يعني من بعد أول تجديد لها، جبت شوية لعب أطفال وبدأت أفرش بيهم، ومن وقتها وأنا هنا، وناس كتير لحقتني بعد كده، وده مصدر دخلي الوحيد اللي بصرف منه"؛ يشكو عبد النبي في حديثه مع المنصة من الملاحقات الدائمة لشرطة المرافق، فهي إما تغرمه غرامات لم يعد يستطيع التكفل بها، أو يجد نفسه عرضة للطرد.
"أول غرامة دفعتها كانت 105 جنيه، لكن دالوقت الغرامة ممكن توصل ألف جنيه"، يقول بائع لعب الأطفال وهي يشير لزوجته التي تشاركه العمل، وتأمل هي الأخرى في أن تنقذهم المواسم السياحية والدينية فهي الفرصة الوحيدة لتعويض خسائرهم من الغرامات "أكتر وقت بنكسب فيه هو المناسبات، الناس بتخرج وتتفسّح في أبو الحجاج، وساعتها بيشتروا لعب لأطفالهم أو يأجّروا العجل والعربيات اللعبة".
جوار سيدي أبو الحجاج
في قلب الأقصر، تبرز ساحة العارف بالله أبو الحجاج الأقصري وجهةً رئيسيةً لزوار المدينة والسياح، ولا تكتمل تجربة الزيارة بدون تفاعل مع "أرزقية الساحة"، ممن يبيعون لعب الأطفال والإكسسوارات والهدايا التذكارية وطعام الحمام المنتشر، ويؤجرون الدراجات للأطفال.
تقع ساحة أبو الحجاج أمام المسجد الشهير المقام على جزء من معبد الأقصر، بالقرب من كورنيش النيل وديوان عام المحافظة ومحطة السكة الحديد، مما يجعلها نقطة محورية ووجهة مفضلة، لذا لا تنتهي أعمال التطوير بها، منها ما يتم حاليًا ضمن خطة تحويل الأقصر إلى متحف مفتوح عالمي، بدعم من اليونسكو.
بدأت الخطة في ثمانينيات القرن الماضي، وتركزت أعمال التطوير الأحدث في تجديد الأرضيات باستخدام البازلت والرخام، وإنشاء رصيف للمشاة، ما يعزز من حيوية الساحة في التفاعل المجتمعي وتنظيم الفعاليات مثل مولد أبو الحجاج ومهرجان التحطيب، التي تعكس الهوية الثقافية للمدينة.
ورغم أن هذه التحديثات عززت من جاذبية المكان سياحيًا، فإنها زادت أيضًا من القيود على الباعة الجائلين الذين يتراوح عددهم بين 30 إلى 40 بائعًا وبائعة يعولون أسرًا ويعتمد دخلهم على عملهم في الساحة، ومؤخرًا زادت معدلات الحملات الأمنية التي تطاردهم لإجلائهم من المكان.
الساعة بعشرة جنيه
انقطعت أم عمر عن الساحة لفترة، ثم عادت إليها لمساعدة زوجها ماسح السيارات في تدبير نفقات أبنائهم الثلاثة "أوقات كتير جوزي بيخرج من الصبح وميلاقيش شغل، ويرجع نبص في وش بعض ومفيش جنيه في البيت".
دفعها الوضع الاقتصادي الخانق للعودة إلى الساحة "علشان أستر بيتي، أنا مش غريبة عنها، كنت فيها من وأنا بنت صغيرة، ونفسي الساحة تستقر ونشتغل وإحنا مطمنين، مش كل يوم نخاف إننا نمشي".
تبيع أم عمر الإكسسوارات، وأحيانًا تؤجر الدرّاجات للأطفال على الكورنيش بعشرة جنيهات في الساعة، على أمل أن تجمع ما يكفي من المال في نهاية اليوم، لكن هذا لا يحدث غالبًا، حيث تفاجئهم حملات الشرطة، ولا يكون أمامهم إلا دفع الغرامات أو ترك المكان.
مخالف للقوانين
يحظر القانون رقم 33 لسنة 1957 ممارسة حرفة البائع المتجول دون ترخيص، ويعاقب القانون رقم 84 لسنة 1968 المخالفين ممن يضعون عوائق أو يمارسون البيع في حرم الطريق العام.
ورغم غياب إحصاءات دقيقة عن عدد الباعة الجائلين بالأقصر، فإن حملات شرطة المرافق تكشف عن وجودهم المكثف، إذ حُرّر 275 محضرًا ضدهم في شهر أغسطس/آب 2024 وحده.
ينشط هؤلاء الباعة بشكل أساسي في المناطق السياحية والأسواق الحيوية، حيث يعتمدون على الزوار والمواسم الدينية مصدر رزق رئيسيًا، وهو ما يصطدم بسعي المحافظة إلى تحسين المظهر الحضاري في مناطق سياحية مثل الكرنك وسوق الصنايع، بإزالة الأكشاك المخالفة ونقل الباعة الجائلين إلى السوق الحضري.
ورغم أن نقل الباعة إلى السوق الحضري جاء ضمن خطة القضاء على العشوائيات، فإنه واجه مقاومة من الباعة الذين اعتبروا السوق الجديد بعيدًا عن حركة السياح، الأمر الذي يهدد مصدر رزقهم، ونظموا احتجاجًا أمام ديوان المحافظة طالبوا خلاله بوقف إزالة أكشاكهم، واستمرت محاولات بعضهم العودة إلى أماكنهم الأصلية، مما يعكس عدم ملاءمة البديل المقترح لاحتياجاتهم الاقتصادية.
لا يرفض عبد النبي وزملاؤه من الباعة خطط التطوير، بل يرحبون بها، ولكنهم ينتظرون أن تراعي في الوقت ذاته مصالحهم التي ترتبط بالأساس بـ"أكل عيشهم".
يرى عبد النبي أن اقتراح المحافظة نقلهم إلى السوق الحضري لا يناسب ما يقدمونه من خدمات أو يبيعونه من سلع "إحنا بنبيع لعب ونأجر عربيات أطفال، السوق مخصص لبيع الخضار والبصل، مين هييجي يشتري لعب ولا يأجر عجل في السوق؟"، مضيفًا "ولا سياح بيروحوا هناك ولا زحمة، يعني هنقعد هناك نضرب أخماس في أسداس".
ويشير إلى وعد سابق من المحافظ الأسبق اللواء سمير فرج، الذي شغل منصب المحافظ في الفترة من 2009 وحتى 2011، بإنشاء أكشاك رسمية للباعة في الساحة، وهو ما لم يتحقق مع تغّير المحافظين المتكرر، فكل محافظ يأتي بـ وعود مختلفة لا تنفذ على أرض الواقع.
وتواصلت المنصة مع رئيس مدينة الأقصر، علي الشرابي، في 20 مايو/أيار الماضي، وأُبلغت بسفره على أن يرد بعد عودته، دون أن يحدث ذلك رغم المتابعة. كما حاولت التواصل مع سكرتير مدينة الأقصر دون استجابة، ومع مكتب العلاقات العامة ومديرية الإعلام بالمحافظة، فأفادا بعدم توفر معلومات وأوصيا بالرجوع لرئيس المدينة، الذي لم يرد حتى موعد النشر.
الإنسان أولوية
رغبةُ الباعة في تقنين أوضاعهم تدعمها طروح بعضها برلماني وبعضها من المجتمع المدني. وسبق ودعا النائب الوفدي أيمن محسّب لإنشاء قاعدة بيانات وطنية للباعة الجائلين، وإصدار تراخيص رسمية لمزاولة النشاط، وتحديد أماكن مخصصة لهم للحد من العشوائية، مشيرًا إلى أن وضعهم غير القانوني يعرضهم للطرد وملاحقة الشرطة، كما يؤدي إلى انتشار السرقة والانفلات الأمني في بعض المناطق نتيجة زيادة معدلات البطالة.
وأكد محسّب في اقتراح تقدم به إلى رئيس مجلس النواب في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أن تقنين أوضاع الباعة في الساحة سيوفر لهم مظلة قانونية وتأمينًا صحيًا واجتماعيًا، ويُسهم في تحسين المشهد الحضاري وتخفيف الازدحام.
فيما تتمنى إحدى زائرات الساحة ممن التقهم المنصة أن تكون هناك أكشاك مرتبة تليق بالمكان "أنا بحب أشوف الحاجات اللي بيعرضها البياعين، فيه حاجات حلوة وبأسعار مناسبة"، مؤكدة أن وجودهم لا يزعجها.
وتدعو ابتهاج أحمد، أثرية بمعبد الأقصر لتحقيق التوازن بين الحفاظ على الآثار ومراعاة العاملين والسكان المقيمين حولها ما يتوجب عقد اجتماعات ونقاشات للوصول إلى أفضل الحلول، مع وضع ضوابط وقوانين يلتزم بها صاحب أي نشاط تجاري أو السكان تضمن الحفاظ على المظهر الحضاري.
ويشدد الدكتور محمد إبراهيم جبر، أستاذ العمارة وعلوم العمران بكلية الهندسة جامعة عين شمس، على أن أي تطوير عمراني لا بد أن يضع الإنسان في مقدمة أولوياته، خاصة المقيمين في المنطقة، لأنهم في الغالب يرتبطون بأنشطة وخدمات مرتبطة بالمكان نفسه.
ويشير إلى وجود تجارب ناجحة في مصر، وإن كانت قليلة، يمكن الاستفادة منها، مثل تطوير شارع المعز بالقاهرة، الذي حافظ على القيمة الأثرية دون الإضرار بالمكان أو سكانه.
يؤكد أستاذ العمارة بالمقابل على ضرورة تدريب الباعة ورفع وعيهم بقيمة الموقع، لأن بعضهم يتصرف بعشوائية مما يُهدد الأثر وسُمعة المكان، ويشير إلى أن رفع الوعي مسؤولية أجهزة الدولة، وأن دراسات التطوير يجب أن تشمل معلومات دقيقة عن طبيعة الأثر ومشكلاته، وسلوكيات الناس حوله، لصياغة خطة متكاملة تحمي الأثر وتخدم البشر.
يبدي الباعة الجائلون تجاوبًا مع هذه الحلول، متمنين أن تتوفر لهم أماكن لبيع بضائعهم حتى لو كانت مجرد "تندة"، وهم على استعداد لدفع إيجار شهري لها، فكما يقول عبد النبي "أنا مش عايز حاجة ببلاش، حتى لو هدفع إيجار أرضية، بس عايز أشتغل في أمان، عايز تندة أفرش تحتها بضاعتي وأنا مطمّن".