من أرشيف وائل عباس

أسطورة عَبَدَة الشيطان: إكويليبريوم 1997

منشور الخميس 21 يناير 2016

إكويليبريوم هو فيلم خيال علمي ديستوبي من إنتاج عام 2002، بطولة كريستيان بيل وكتابة وإخراج كيرت فيمر.

يحكي الفيلم عن مستقبل للبشرية يحكمه نظام قمعي يعتقد أن المشاعر هي سبب الصراعات ودمار العالم، وبالتالي يفرض حظرا على مختلف أنواع التعبير الفني من موسيقى وفنون وآداب، ويجبر الناس على تناول مادة تسمى "البروزيوم" تقوم بكبت المشاعر والأحاسيس، ويعتبر الإحساس جريمة وكذلك الاستماع إلى موسيقى أو امتلاك أعمال فنية يعاقب عليها بالإعدام حرقا.

يشبه الفيلم رواية فهرنهايت 451 وهي رواية للكاتب الامريكي راي برادبوري صدرت عام 1953، وتحكي عن مستقبل متخيل للعالم؛ تصير فيه الكتب ممنوعة وتقوم الحكومة بحرق أي كتب يمتلكها الناس وتعاقبهم على تلك الجريمة، ومسموح فقط بمتابعة الإعلام الحكومي وأخبار الرياضة، أما أي انشطة اخرى فتعتبر مخالفة.

في عام 1997، كنت ما زلت أدرس الأدب الإنجليزي بالجامعة، وبحسب ما كنا نسمع من الإعلام فالداخلية تحقق انتصارات باهرة على الإرهاب في الصعيد.

لم يكن هناك إنترنت أو مدونات أو مدونون ينقلون لنا الأحداث من أرض الواقع بعد، لكن حواديت متفرقة سمعناها بعد سنوات، فهذا شخص رموه من السطوح، وهذا إرهابي بعد أن أمسكوه اشعلوا النار في ذقنه، وهذا صديق أصيب في ساقه في إطلاق نار عشوائي من الشرطة أثناء دراسته بإحدى كليات الصعيد اللي حدفه مكتب التنسيق عليها، لأن ضابط في مدرعة أصيب بنوبة من الذعر فاخذ يطلق النار على المواطنين رجال ونساء وأطفال، قصص لم يدونها أحد حتى الآن.

 

من أرشيف وائل عباس

وزير الداخلية وقتها كان راجل كما نقول بالبلدي "فوريجي"، يحب الشو والظهور والأونطة قوي ويحب يطلع في الإعلام ويعمل فراقيع، كل يوم قصة جديدة وقضية جديدة.

تخيلي لملابسات هذه القضية هو ببساطة إن هذا الوزير في لحظة تجلي قالّك يا واد يا وزير الناس بتهاجمك علشان حربك ضد الارهاب، وبيقولوا عليك عامل حرب ضد الاسلام، تعمل ايه يا واد يا وزير تعمل ايه تعمل ايه؟ آه بس وجدتها، احنا نشوفلنا شوية عيال ملحدين نمسكهم ونعمل عليهم شوربة تنظيم، ما فيش ملحدين؟ طب أعمل إيه يا ربي، ثم يلتقط بزهق عددا من مجلة روز اليوسف ويقلب صفحاتها، فيجد تحقيقا لصحفي من تحت بير السلم اسمه عبد الله كمال، بس وجدتها، إمسك العيال دول، عَبَدة الشيطان والعياذ بالله، ده انا هيتعمل لي مقام وابقى ولي من أولياء الله بعد القضية دي.


اقرأ أيضًا: أسطورة عَبَدَة الشيطان: 19 عاما على مطاردة "المَتّيلة"


شارك في فبركة القصة من روز اليوسف وغيرها في ذلك الوقت أسماء بعضها كبير ولامع الآن في عالم الصحافة والإعلام اللي انتم عارفين كنهه، عادل حمودة، كرم جبر، إبراهيم خليل، عبد الله كمال، وائل الإبراشي، أسامة سلامة، وأخيرا وليس آخرا أحمد موسى، بنوا مجدهم على أشلاء مجموعة من الشباب هم النقيض تماما لتلك المجموعة من الصحفيين القادمين من أعماق الريف والباحثين عن الشهرة السريعة، الإثارة، ودغدغة عواطف المجتمع الدينية والأخلاقية اللي كانت بهارات لتسبيك القصة.

أما المتلقي فهو مجتمع يعاني الفقر والجهل والمرض وتسري بينهم الخرافة، وما أسهل تزييف الحقائق لمجتمع لا يعلم، نضيف إليهم الصحفي المتدروش فهمي هويدي ومفتي الجمهورية الذي طالب بإقامة الحد على الكفار وقتها والبابا شنودة بابا الإسكندرية.

بدأت أستمع لموسيقى الروك عام 1989، لم تكن الموسيقى الوحيدة التي أسمعها، بدخولي الجامعة وجدت أن الرائج بين الشباب وقتها هو الهيب هوب والراب، لكن الروك استهواني أكثر، الكلمات جادة تناقش قضايا مختلفة منها السياسة والبيئة والمخدرات والحروب، الموسيقى متعوب فيها، مكتوبة وليست مصنوعة من لووبز loops مكررة على أجهزة كمبيوتر كموسيقى الهيب هوب والراب الإلكترونية.

ثمة فن حقيقي هنا وثمة فنانون حقيقيون وليس طالبي شهرة فقط، ومواضيع أخرى مختلفة غير المعتادة من الحب والرقص والفرفشة، وساهمت دراستي للأدب الانجليزي وتاريخ إنجلترا الكئيب المظلم كجو لندن في عصر النهضة الصناعية في احتضاني لهذا النوع من الموسيقى، وبدأت تدريجيا في إطالة شعري وارتداء الملابس السوداء.

رحلة الجيتار

لا تتخيلوا صعوبة الحصول على الموسيقى في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، حيث لا إنترنت، والإم بي ثري ما زال في علم الغيب، المتوفر في الأسواق شرائط كاسيت مطبوعة في مصر، وغالبا محذوف منها أغنية أو اثنين بسبب الرقابة أو توفيرا للنفقات من أجل الطباعة على شريط أقصر، بعض المحلات كانت توفر نُسَخا كاملة من الشرائط المهربة من الخارج والممنوعة، بعض الأغاني كانت ممنوعة لأسباب دينية أو سياسية، بعضها كان لمجرد أن المطربة مثلا تتنهد تنهيدة مثيرة!

والأغلب الأعم أن المنع كان بسبب أن الرقيب مش فاهم لأنه مش فنان ومش عارف يوصل الناس دي عاوزة تقول إيه، كانت أحيانا تصلنا الشرائط من الخليج حيث الرقيب هناك متسامح وفاهم أكثر من الرقيب المصري الجاهل الشلحف، وكنا نُصَوِّر كلمات الأغاني كما نصوَر محاضرات الكلية، كذلك كنا نصور نوتة الجيتار للأغاني التي نريد أن نلعبها من محل أدوات موسيقية في المعادي، أما الكليبات فكنا نتبادلها على شرائط فيديو إما اشتراها صديق من الخارج أو سجلها آخر من الديش الأنالوج وقتها، حيث لم يكن هناك يوتيوب.

اشترى زميلاي هشام وتامر جيتارين خشبيين كلاسيكيين من شارع محمد علي، كنا زملاء في المدرسة الثانوية نتدرب على الكونج فو سويا، ولم أعلم عنهما الاهتمام بالموسيقى من قبل، لكن اكتشفنا ذلك بالجامعة، كانا يميلان للموسيقى الأسبانية "الفلامنجو" أكثر ثم الموسيقى العربية، التقينا عند الاعجاب ببعض موسيقى الروك ذات الميلوديهات المميزة أو سهلة العزف، وبدا اهتمامهما يزيد.

اشتريت جيتار فولك مستعمل من أحد المحلات بالزمالك بمبلغ ادخرته بصعوبة، كان به بعض العيوب ومكتوم قليلا لكنه يعمل، لم أحب الجيتار الكلاسيك لأن أوتاره بلاستيكية ومسطرته عريضة، اما الجيتار الفولك فبداية جيدة لتعلم الجيتار الكهربائي، فالأوتار معدنية والمسطرة والمفاتيح واحدة تقريبا ويوجد قضيب حديدي قابل للتعديل داخل الرقبة، ويمكن تركيب بيك أب Pickup كهربائي له، لكن كنت أتعرض للسخافة حين أمشي به في الشارع، ويطلب مني بعض الناس ان أعزف لهم شيئا، أو يقول أحدهم: "حبيبي يا رقة فاكر ولا لأ"، وهي الأغنية التي ظهر فيها فؤاد المهندس يعزف جيتارا ببشكير الحمام.

لم تكن لديَ إرادة وصبر على التعليم كهشام وتامر، كنت أرى أن أصابعي سمينة وباتلخبط وبالمس اكتر من وتر فبيطلع نشاز، وكنت أتعجب كيف يلعب بي بي كينج السمين الجيتار بتلك المهارة، كنت أشاهد شرائط حفلاته في المركز الثقافي الأمريكي الذي كنت عضوا به وقتها لأتعلم تكنيكه.

أما تامر فقد واظب على التدريب حتى أن أصابعه كانت تنزف دما بدون مبالغة، كان الهدف إماتة أطراف الأصابع، وهو أمر تعلمناه أيضا اثناء لعب الكونج فو بالمدرسة، لم أستسغ فكرة إماتة أطراف أصابعي في الحالتين، لا من أجل الموسيقى ولا من أجل الرياضة.

لكن استمرينا في التعلم على ميلوديهات بسيطة مثل: "أنا لك على طول" لعبد الحليم، و"رجعوني عينيك" لأم كلثوم، وكنت أكتشف لهم أنا الميلوديهات الغربية السهلة مثل ريديمشان سونج لبوب مارلي وهوتيل كاليفورنيا، واعتقد أن لديّ تسجيل لأغنية هوتيل كاليفورنيا بصوتنا وعزفنا هي واغاني اخرى لفريق نيرفانا Nirvana، حيث كنت اسعى لان نكون فريقا يغطي أغاني نيرفانا، وهو يختلف عن فرق الميتال الموجودة بالساحة المصرية ويقدم موسيقى الجرانج grunge والألترناتيف alternative، وكانت حفلات الروك مقبولة حتى أنها كانت تُعقَد داخل الكليات، وحضرت بعض الحفلات بكلية الهندسة جامعة عين شمس كنشاط طلابي، وكان لي زملاء في الكلية يعزفون في فرق مثل فايرس Vyrus وديمينيشد Diminished.

الأحراز: ألبومات ميتاليكا

صبيحة أحد الأيام استيقظنا على نفاذ أعداد مجلة روز اليوسف، وارتفاع سعرها في السوق السوداء، والناس يتبادلون نُسَخا مصورة منها على ماكينة التصوير، فيه ايه يا جدعان؟ قالك البلد فيها عبدة شيطان! واحد باعت شكوى لروز اليوسف بيوصف فيها ممارسات شاذة وشرب دماء وذبح قطط، هارسود إيه الكلام ده يا عم والله ما حصل، يللا ياعم نخبي شرايط ميتاليكا Metallica اللي واخدة ترخيص رقابة، بيقفشوا اللي بيسمع ميتاليكا، طب ده أنا عندي شرايط ميجاديث Megadeth متهربة بقى، ده أنا وقعتي سودا.

بدأنا نهرب الشرايط عند قرايبنا، ونبيع الجيتارات، ونشتري ملابس ملونة بدل الملابس السوداء التي لم يكن عندي غيرها، بنطلونات خضرا وحمرا وألوان ما يعلم بيها إلا ربنا علشان نتنكر، بقيت أسبوعين في المنزل أتلقى أخبار القبض على فلان والتحقيق مع فلانة، والتلفزيون يعرض شريط فيديو من إحدى الحفلات أظهر أنا فيه، وعندما أنزل الشارع بملابسي السوداء أتعرض لتعليقات سخيفة فهذا يقول لي يا "عوبد" وهذه تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يا وقعة سودا.

 

غلاف ألبوم Countdown to Extinction لميجاديث

أفلتّ من القبض عليّ وقتها، لكنهم قبضوا على الشخص الأحمق الذي أرسل أول رسالة لروز اليوسف وضموه للقضية، رغم إن هو يعتبر اللي مبلّغ، هو الوحيد اللي فرحت فيه، وقبضوا على منظمين حفلات وأعضاء فرق وبعض من جمهور الحفلات، شباب وفتيات ايضا، الذين دُوِّنَت أسماؤهم في سجلات بيع التذاكر، الحمد لله لم يكن إسمي مدونا في أي من الأوراق، وهنا أترك لمن حُبِسوا المساحة ليحكوا ما حدث معهم في السجن. 

بعد هدوء العاصفة والإفراج عن جميع المتهمين وظهور أن القضية "فشنك" حاولنا إحياء حفلات الروك مرة أخرى، نظمنا حفل على ما أذكر في باركينج نادي المقاولون العرب، لكن السماء أمطرت يومها وتَكهرَب بعض العازفين، ثم جاءت الشرطة وأغلقت علينا البوابات تمهيدا لاعتقالنا، لكن أحد المنظمين، لا أذكر من هو، يبدو إنه كان من عائلة واصلة، قام بالاتصال بأقاربه بالتليفون المحمول، وكان المحمول وقتها صرعة لا يمتلكها الجميع، فتم فك حصار الشرطة عنا وتركنا نذهب وأُلغي الحفل.

إلى جانب من ذكرت أسماءهم من الصحفيين شارك في الحملة التلفزيون أيضا مُمَثلا في مفيد فوزي وجمال الشاعر صاحب إنترفيو "سامع صوت القطة" الذي سيحكيه باسم حافظ، واستضاف عددا من الفنانين البعيدين كل البعد عن موسيقى الروك ليقيّموا تلك الظاهرة، ومنهم المرحوم طلعت زين الذي قال كلاما مضحكا وفي منتهى الضحالة والجهل عن "الهافي ميتال" كما نطقها هو.

أصبح الأمر كأنك تستضيف مغني مهرجانات ليقيّم الطقاطيق أو الموشحات الاندلسية، ووردت أسماء المذيعين هالة حشيش وأسامة كمال، وموسيقي الجاز يحيى خليل، وتبرأوا جميعا من الشباب وخرجوا من القضية كالشعرة من العجين، رغم أنهم كانوا المنظمين الرئيسيين لحفلات مثل مونسترز اوف روك ومارلبورو وكاميل.

انفجرت بالونة وزير الداخلية حسن الالفي فجأة بعد القضية ببضعة أشهر عندما حدثت مذبحة الدير البحري، حيث قُتِل 58 سائحا أجنبيا وأصيب 26 في أقل من ساعة إلا ربع، وانهارت هالة الادعاء التي بناها الألفي حوله، وسخط عليه النظام أيما سخط حتى أنه يُحكى أن مبارك سبّه بأبشع النعوت وضربه بالشلّوت أو بالقلم قبل أن يقيله من منصبه بسبب فشله، ثم عيّن مكانه حبيب العادلي الذي ظل في منصبه حتى قيام ثورة يناير المجيدة، وظل على نفس العداء للموسيقى حتى أنه لفّق قضية كوين ناريمان بوت.

تركت تلك الحملة شبابا مثلي، في مقتبل العمر وقتها، في حيرة من أمرهم، ماذا نفعل لنُرضِي النظام؟ إذا ارتدنا المساجد وقرأنا القرآن وأطلنا اللُحى إعتقلونا بتهمة الإرهاب، وإذا إخترنا الموسيقى والفن والرقص اعتقلونا بتهمة عبادة الشيطان، الناس دي عاوزة مننا ايه يا كابتن مدحت.

اكتشفت وقتها أن الحرية في مصر غير حقيقية، وأصبحت أتابع أخبارا لم أكن ألتفت إليها من قبل، فهذا كاتب رُفعَت عليه قضية حسبة وفرق عن زوجته، وهذا كتاب تمت مصادرته، وهذه مسرحية أوقفتها الرقابة، لم نكن أحرارا كشباب لننطلق في وجهة نختارها ككل شباب العالم حولنا، بل يجب أن ننطلق في مضمار حدده النظام لنا مسبقا مليء بالعوائق والحوائط الموضوعة عشوائيا يمينا ويسارا، وبعضها قد ينهي حياتك، فتحار فيما يريدون؛ هل هم يتبعون كودا أخلاقيا معينا يريدون فرضه؟ أم يحاولون تحقيق أحلام كافكا والتسلية علينا والتلذذ بسادية بمشاهدتنا نتخبط ليس إلا؟ والحل إما أن تنسحق وإما أن تثور وتتمرد، ومن هنا كانت الثورة.