ميدان التحرير في 8 فبراير 2011

أسطورة عَبَدَة الشيطان: من "أوضة سامي" إلى ميدان التحرير

منشور الخميس 21 يناير 2016

فى التسعينات وقف صفوت الشريف وزير الإعلام، وقتها، متباهيًا بالريادة الإعلامية بينما أطباق الاستقبال "الدش" تنتشر فوق الأسطح كالأهداب، تحاول التقاط أية مواد إعلامية غير ملوثة بهطل إعلام الدولة.

بعد حرب الخليج، نزح إلى مصر عدد كبير من المصريين المغتربين فى منطقة الصراع، ومعهم بعض أبناء تلك الدول. هؤلاء كانت لديهم القدرة على السفر لأوروبا وأمريكا، وتسللت معهم داخل حقائبهم ألبومات غنائية وشرائط فيد عيو مسجلة من قناة الإم تى فى لموسيقى الروك والهيفى ميتال، التى كانت تجتاح العالم فى تلك السنوات، بينما كنا نحن ننتظر برنامج العالم يغنى ليعرض علينا أغنية live is life وسوزانا.

اكتشفنا نحن مراهقى وشباب التسعينات أن هناك فى الدنيا أغانى لا تناقش الحرمان والهجر أو تلطم من شدة حب مصر. أغانى الميتال مواضيعها مختلفة، وجوها مستوحى من العصور الوسطى الأوروبية. تلك الأغانى تغير من شخصية "السميع"، فلا يعود بعدها للاكتفاء بالتصفيق على إيقاعات ألبوم حميد الجديد، بينما يكروز بسيارته مع أصدقائه ومعلِّى "التريبلات" فى الـ equalizer  الجديد لزوم السكسكة.


اقرأ أيضًا: أسطورة عَبَدَة الشيطان: 19 عاما على مطاردة "المَتّيلة"


تغير حلم بعض الشباب الهاوى للموسيقى، لم يعد منشغلاً بمحاولات سوزان عطية للعيش في عباءة أم كلثوم، أو متخوفًا من أن يكون هاني شاكر هو عبد الحليم حافظ الجديد. لم يبك هؤلاء الشباب حين عرضت أوبريتات حرب أكتوبر، ولم يشاركوا أحمد بدير دموعه وهو يقول على الهواء مباشرة لمبارك: "تسمح لى أبوسك يا ريس؟".

قبل الإنترنت، كنا نتقابل معشر "سميعة" الميتال فى عدد محدود من المنازل لتبادل الثقافة الموسيقية، ونحلم بتكوين فرقنا الخاصة. أحد أشهر هذه المستقرات hubs  كانت غرفة سامي.

ففي الوقت الذى كان فيه المجتمع خارج الغرفة يتحدث عن مدى حرمانية نتف الحواجب؛ كنا نناقش داخلها القصة التوراتية عن الفرعون الذى أصدر أمرًا بقتل الطفل الذكر المولود لكل أسرة يهودية، التي يغني عنها فريق التراش ميتال الأمريكي ميتالكا في أغنية  creeping death.


اقرا أيضًا: أسطورة عَبَدَة الشيطان: إكويليبريوم 1997


فى أوضة سامي، تقابل أعضاء فرق موسيقية وتدربوا على أغانى لا يوجد بها كلمات من ذات قاموس: دموع وشموع وحنين وأنين، أغنيات لفرق أمريكية وأوربية وأغنيات من تأليفهم لن يهدوها للسيد الرئيس، ولن يغنوها فى إحدى حفلات ليالى التليفزيون.

هنا استشعر أمن الدولة الخطر، فهناك شباب لهم "فكر موحد مختلف".

هذه ثلاث كلمات يخشى منها النظام؛ مبدأيا هناك "فكر" خارج الإجابة النموذجية للمجتمع، وثانيا: هذا الفكر "موحد"، أى أنهم يمكنهم التنظيم، وثالثا: هو فكر موحد "مختلف" وهذا شئ مكروه للغاية.

لم يفهم الضباط من كل ما سبق سوى أن هؤلاء الشباب لا يمشون بجوار الحائط، وقد يشكلون يومًا ما، شيئًا ما، به خطرٌ ما على النظام. ولأن القائمين على حماية النظام لن يخاطروا بفقدان السيطرة؛ قرروا أن ينهوا فورًا هذه "المسخرة".

وقتها صدمت صدمة عمرى.

اقرأ أيضًا: أسطورة عَبَدَة الشيطان: باسم يوسف يشارك شهادته عن دور إعلام الدولة في القضية

 لم أفهم كيف تكتب صحيفة عريقة مثل الأهرام هذه الروايات المضحكة عن جماعة عبدة الشيطان، وينشرون صورة لقبعة عليها شعار فريق رياضى أمريكي على أنه شعار الجماعة.

وكيف يمكن لحامل سيف المعارضة مفيد فوزي أن يقول مثل هذا الكلام الساذج عندما سأل أحد المقبوض عليهم "بماذا تشعر عندما تسمع صوت قطة..هل تريد ذبحها وأكلها؟".

الصدمة الأكبر هى أن الناس صدقت هذا الهراء، ولم أفهم كيف يمكن أن يحدث هذا إلا عندما رأيت بعدها بسنوات بهاليل حازم صلاح أبو اسماعيل، المقتنع بأن بيبسى مؤامرة، ودراويش أحمد موسى الذين صدقوا ان فيديو جيم بالانجليزى ما هو إلا غارة روسية على داعش.

 شباب تم إرهابهم بيد الدولة، والقبض عليهم كما يُقْبَض على عتاة المجرمين حتى تزداد مبيعات مجلة روزاليوسف، ويظهر أمن الدولة كما لو كان حامى حمى الفضيلة من الكفار.

المدهش وحسب رواية أحد المعتقلين "الموسيقيين" أن صراخ  الإرهابيين والمعتقلين السياسيين كان يصل لمسامعهم، وفجأة تحولت هذه الصرخات لأصوات غضب هادرة فيما بدا شبه تمرد منهم، ثم سكتت تلك الأصوات، وتم نقل المعتقلين لسجن أخر.

وعرف صديقى فيما بعد، أن الإسلاميين كانوا مستسلمين للتعذيب، ولكنهم ما إن سمعوا عن وجود عبدة شيطان؛ حتى ثاروا وهاجوا وماجوا وهددوا بتدمير المعتقل، فهدأهم الضباط وهم يؤكدون لهم أنهم سيتم نقلهم لسجن آخر، حينها هدأوا وعادوا لغرف تعذيبهم بهدوء.

حتى بعض الأباء صدقوا هذا الهراء عن أبنائهم، وأثنوا على ضباط الشرطة الذين يربون أولادهم حتى وإن كانت التربية تتم بطريقة عنيفة.

أفضت القضية إلى لا شئ كما هو متوقع، وعاد نفس الشباب مرة أخرى إلى ميدان التحرير فى 2011 ، وتحوَّل الميدان إلى "أوضة سامي" كبيرة، تستوعب عدد أكبر من المختلفين والشباب الناقم على هذا المجتمع.

وكادوا أن ينتصروا ولكن أمن الدولة قهرهم من جديد، وعاد الناس لتصديق الهراء الإعلامى مرة أخرى، وعاد الاسلاميون إلى غرف تعذيبهم بهدوء، بعد أن وعدهم الضباط بتخليصهم من العلمانيين والكفار، وصدق الأهالى أن النظام يربى أولادهم البايظين. وعاد أحمد بدير يبكى على الهواء مباشرة.

تحية لأبناء جيلي، ويكفينا أن الثورة الثقافية قد حدثت، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء، وأنه لا يوجد أى شخص أعرفه من الذين كانوا معى فى أوضة سامي، أو في ميدان التحرير ممن يصدقون العَلَف الإعلامي. وأننا سنغرز فى أولادنا حلم أن تكون مصر كلها كأوضة سامي.

وتحية الى سامي أينما كان.