رسم: هشام عبد الحميد - المنصة
لأني فاضي داخل السجن، قررت أن أعين نفسي مرجعًا لكل زملاء العنبر بشأن أعداد الإصابات والوفيات.

يوميات 19 شهرًا من الحبس الاحتياطي| كورونا؟ خليها على الله (13)

منشور الخميس 23 سبتمبر 2021

 

تركزت النقاشات مع الضباط بعد إغلاق السجن في مارس/ آذار 2020 على كيفية التواصل مع أسرنا والاطمئنان عليهم بعد أخبار انتشار الفيروس القاتل في مصر، خاصة كبار السن كما هو الحال مع والدي الذي تجاوز الثمانين. 

أصر أحد الضباط الذي ألححت على طلب لقاءه عن طريق "المسير" أنه من المستحيل السماح لنا بكتابة وتلقي خطابات من أسرنا، وأن هذا الأمر ليس محل نقاش طالما لم تأت أوامر بذلك. وعندما سألته إذا ما كانت هناك فرصة للإفراج عن عدد كبير من المساجين كإجراء احترازي خشية تفشي كورونا في السجون كما قامت العديد من الدول، منها إيران الشهيرة بالتوسع في الاعتقالات والقمع والتي أفرجت عن نحو 70 ألف سجين دفعة واحدة، أشار الضابط بإصبعه إلى السماء، وهو ما يعني أن الأمر في علم ويد الله. وكان ردي "بس يا (فلان) بيه، مش ربنا اللي حابسنا، انتم اللي حابسينا". ابتسم ولم يرد كالعادة، وأصبحت إشارة يده إلى السماء مصطلحا نستخدمه بيننا كلما أردنا الحديث عن ذلك الضابط، دون ذكر اسمه، وقد سعى لأن يقنعني بأن عدد المساجين في مصر لا يماثل مطلقا ما هو قائم في إيران، وأنه لا وجه للمقارنة بين البلدين. "مصر مش إيران"، قال سيادته.

كان الضابط يقاربني في العمر، وكنت أقدر تعامله معي باحترام وإنسانية، خاصة عندما وعد بأن يرتب قيام كافيتريا السجن بطهي بعض الأطعمة لنا كبديل عن التي كانت تأتينا جاهزة من أسرنا عندما كانت الزيارات متاحة، وكذلك السماح لهم بإيداع الأموال في أمانات السجن كي نتمكن من شراء ما يلزمنا من الكافيتريا التي تضيف 25 في المائة إلى سعر أي سلعة، بما في ذلك السجائر.

في المساء، بعد أن خلت الزنزانة من الدكتور حسن نافعة وبقيت بمفردي مع دكتور حازم حسني، وقفت لساعات على نضارة باب الزنزانة استمع لبرنامج التاسعة مساء الذي تذيعه القناة الأولى في محاولة لفهم ما يجري في الخارج وكيفية تطبيق حظر التجول الليلي. حاولت تصور الحياة في القاهرة دون مقاهي وكافيتريات ومطاعم، ودون صلوات في المساجد أو كتب كتاب وسرادقات عزاء. 

وعندما سمعنا نشرة أخبار الثامنة مساء في بي بي سي، عرفنا أن دولًا أخرى قامت بالإفراج عن سجناء كإجراء احترازي. كنت أسارع بالتوجه للنضارة وأقول لهشام فؤاد "يا هشام، السودان طلعت ألفين سجين" فيرد قائلا "عاشت السودان. عقبالنا يا رب". وهكذا دواليك، "عاش الأردن"، "عاشت فلسطين" وعاشت أي دولة تفرج عن سجناء بما في ذلك الفلبين. ولكننا في مصر اتبعنا سياستنا الشهيرة "ودن من طين وودن من عجين".

ومن النضارة كذلك استمعت للمكالمة الشهيرة بين الزميل وائل الإبراشي ووزير النقل كامل الوزير عندما بث فيديو يبين مدى ازدحام عربات المترو وأنه لا يوجد أي التزام لا بكمامات ولا بإجراءات تباعد اجتماعي، وكيف تحدث بعصبية شديدة شعرنا بعدها جميعًا أن هذه آخر حلقات الإبراشي في التلفزيون. ولكن وقبل الاستماع لمكالمة الوزير، كنت أتساءل عن جدوى حظر التجوال في المساء، بينما الناس "راكبة فوق بعضها" في الصباح في وسائل المواصلات وأماكن العمل.

ولأني فاضي داخل السجن، قررت أن أعين نفسي مرجعًا لكل زملاء العنبر بشأن أعداد الإصابات والوفيات، وبدأت منذ مطلع أبريل/ نيسان في استخدام ورق كرتون علب البسكويت التي نشتريها لكي اكتب الحصيلة في ثلاث خانات قمت بتسطيرها بالطول والعرض: التاريخ في خانة، إصابات يومية ووفيات يومية في خانة، وإجمالي إصابات وإجمالي وفيات في الخانة الثالثة. 

 

بدأت في استخدام ورق كرتون علب البسكويت التي نشتريها لكي أكتب حصيلة المصابين اليومية في ثلاث خانات: التاريخ في خانة، إصابات يومية ووفيات يومية في خانة، وإجمالي إصابات وإجمالي وفيات في الخانة الثالثة

واصلت هذه العادة اليومية بانتظام، بل وصرامة، حتى أستطيع تشكيل صورة عن الوضع في الخارج، ومعدل زيادة الأرقام. وكان معتادًا جدًا أن يخرج زياد العليمي أو هشام فؤاد إلى النضارة ويسألوني من الزنزانة المجاورة إن فاتتهم نشرة الأخبار: فيه كام إصابة النهاردة، وكام وفاة؟ كده الإجمالي كام؟ 

كان ردي حاضرًا على الدوام. لم أتوقف عن هذه العادة يومًا منذ أن بدأت وزارة الصحة في إعلان بيانها اليومي بشأن الإصابات والوفيات ولمدة سنة كاملة، حتى قبل شهرين من خروجي من السجن تقريبًا، ببساطة زهقت، كما تراجعت بشكل كبير حالة الفزع التي صاحبت بدء انتشار الفيروس.

الدعاية الرسمية التي كنت أسمعها في محطات الإذاعة ردًا على مطالب المنظمات الحقوقية بإطلاق سراح السجناء السياسيين خشية إصابتهم كانت أنه يتم اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية للتيقن من عدم انتشار الفيروس في السجون. 

وبالفعل، بداية من شهر أبريل 2020 كان يأتي إلى العنبر كل صباح شخص يرتدي الزي الوقائي الكامل لونه أصفر (تبين لاحقا أنه مسجون من المجندين المتهربين) وعلى ظهره "جركن" به مطهر يقوم برشه على مقابض الزنازين وبعض أركان الممر الفاصل بين الزنازين، أو ما نسميه بـ"الأنبوبة".

كان هذا هو الإجراء الاحترازي الوحيد الذي رأيته كسجين.

 

وعندما كنت أواجه الشاويشية السجانين بضرورة ارتداء الكمامة، وكذلك السجناء من المجندين المتهربين الذين يقومون بتوزيع التعيين والجراية، كان الرد غالبا "يا أستاذ خالد خليها على الله. اللي ربنا عايزه هيحصل"، وأحيانًا "مش قادر ألبس الكمامة.. بتخنقني"، وفي أفضل الأحوال عندما يكون هناك ضابط يمر في العنبر، يقوم الشاويش بتغطية فمه فقط بالكمامة، وربما زحلقتها حتى ذقنه. 

غالبية الشاويشية السجانين والمعاونين والمخبرين يأتون من المحافظات القريبة في الدلتا والصعيد، ويضطرون لركوب عدة مواصلات ليصلوا إلى القاهرة، وبالتالي هناك فرصة كبيرة لإصابتهم بالفيروس. وعندما شكوت للضابط من عدم ارتداء الشاويشية أو المخبرين للكمامة، وأنهم قد يكونون السبب الرئيسي لنقل العدوى للمساجين بما أنهم الطرف الوحيد الذي نحتك به من خارج السجن، أدهشني رده "كلنا خايفين من العدوى، ومن التعامل مع بعض".

تراجعت نسبة قبول طلباتنا لمراجعة مستشفى السجن. الأطباء والممرضون كانوا يخشون التعامل معنا. وعندما اضطررت للذهاب للمستشفى بعد إصابتي بألم شديد في معدتي، طلب مني الطبيب بعجرفة الوقوف على بعد مترين، والإفصاح عن شكوتي. 

بدا لي أن طاقم المستشفى يعتبر أن مجرد كوننا سجناء يجعلنا مصدرًا محتملًا لنقل العدوى، لا أعرف لماذا. اعترضت على طريقة تعامل الطبيب معي، وقلت له إنني الذي أخشى التعامل معه لأنه قادم من الخارج، بينما أنا معزول داخل زنزانة السجن، ولا ألتقي أحدًا سوى سجناء مثلي. ربما شعر بالحرج حين قال إنه يطالبني بالوقوف بعيدا لأنه يخاف علي ويريد حمايتي.

في منتصف شهر أبريل 2020،  جاءنا "المسير" في ساعة التريض ليخطرنا بأنه سيتم إجراء اختبار البي سي ار (PCR) لعدد من المساجين، مع العلم أن ادارة الإعلام بوزارة الداخلية ستقوم بتصوير أخذ المسحات دون القيام بمقابلات مع السجناء. 

انقسمت الآراء في عنبر 1 سياسي ورفض الجميع تقريبا إجراء الاختبار، ومنهم دكتور حازم حسني والزملاء الثلاثة في الزنزانة المجاورة؛ حسام مؤنس وهشام فؤاد وزياد العليمي. ففي كل المرات التي قامت فيها وفود خارجية بزيارة السجن، سواء صحفيين محليين أو أجانب أو أعضاء في المجلس القومي لحقوق الإنسان أو وفد من النيابة العامة، تقوم إدارة الإعلام في الداخلية بتصوير الأمر وكأن حياة السجناء سعيدة وأن كله تمام التمام وأننا نلعب كرة القدم في ملاعب خضراء ونتناول أفضل الأطعمة ونتلقى رعاية صحية يتمناها من هم في الخارج. في كل تلك المرات كانت إدارة السجن ترتب كل خطوة ، وفي حالتنا كسجناء سياسيين، كانت مسؤولية الترتيب على عاتق الأمن الوطني. 

ترى غالبية السجناء السياسيين أن المشاركة في تلك الزيارات المرتبة أمر مهين لا يمكن قبوله لأن من يقبل المشاركة سيضطر لاصطناع أن كل شيء على ما يرام، ومن جهتهم لن يسمح ضباط الأمن الوطني لسجين بالمشاركة إلا لو كانوا متيقنين أنه سيتقن النص. الضباط لا يعدون السجين السياسي الذي يقبل المشاركة صراحة أنه سيخرج، ولكن المعنى يكون في بطن الشاعر، وسط تلميحات مبطنة من نوع "إحنا عارفين انك سجين ملتزم وساعدنا نساعدك". وما هي المساعدة التي يمكن أن يطلبها السجين سوى الخروج من السجن؟

كنت الوحيد الذي قبل المشاركة في تصوير فيديو اختبار الكورونا، وعندما توجهت لمستشفى السجن حدث ما لم أكن أتوقعه؛ التقيت أحمد دومة لأول مرة منذ حبسه في ديسمبر/كانون الأول 2013. وافق دومة بدوره على المشاركة في الاختبار، وكان هناك آخرون منهم قياديين في جماعة الإخوان المسلمين. عانقت دومة لدقائق طويلة لدرجة أن الضابط تدخل لكي يبتعد كلانا عن الآخر وأمرنا بالجلوس على مقاعدنا. ولكنني لم أتوقف عن الحديث مع دومة والابتسام ردًا على ضحكته العريضة اللامعة.

 

كنت الوحيد الذي قبل المشاركة في تصوير فيديو اختبار الكورونا، وعندما توجهت لمستشفى السجن حدث ما لم أكن أتوقعه؛ التقيت أحمد دومة لأول مرة منذ حبسه.

ربما كنت مخطئًا في قراري. علمت بعد شهور أن فيديو اختبار كورونا للسجناء أسيء استخدامه في بعض البرامج الحوارية التي زعمت أن وزارة الداخلية جميلة رحيمة ترعى السجناء وتجري لهم اختبارات البي سي آر التي كانت تكلفتها كبيرة في ذلك الوقت لا يتحملها أغلب المواطنين. ولكن كانت لي حسابات أخرى، أولها أنني كنت أريد طمأنة أسرتي عندما يشاهدوني لأول مرة منذ أكثر من شهر على شاشة التلفزيون. 

ومع إدراكي لحالة العزلة الطويلة التي قد تبتلعنا، وأن الجميع في الخارج مشغول بفيروس كورونا، أردت تذكير الجميع أننا ما زلنا نقبع داخل السجون، وأنه من الأفضل إطلاق سراحنا كما تفعل الدول الأخرى، بدلًا من مواجهة خطر اصابتنا بالكورونا وسط غياب أي إجراءات احترازية حقيقية سوى رش الكلور على المقابض. 

وأخيرا كنت قلقًا، ربما كما الغالبية، من احتمال اصابتي بالفيروس وانتقاله لي عن طريق الشاويشية والمخبرين، وأردت إجراء الاختبار. ومن بين أهدافي الثلاثة تحقق هدف واحد فقط وهو أن أسرتي اطمأنت أنني بخير. أخبرني بهذا شقيقي لاحقًا عندما تم فتح باب الزيارة مجددا في مطلع شهر أغسطس/ آب 2020. 

على كل الأحوال، نالني الكثير من التريقة "والقلش" من المساجين الجنائيين في نفس العنبر الذين شاهدوني في فيديو اختبار البي سي ار في نشرة أخبار اليوم التالي، وقالوا إن أشد ما انبهروا به فتحة أنفي التي استوعبت تلك العصا الطويلة التي أدخلتها الممرضة لأخذ المسحة!

وبعد نحو شهرين من الانقطاع التام عن العالم الخارجي، أخبرنا "المسير" أنه سيتم السماح لنا بكتابة وتلقي خطابات من أسرنا، ربما بعد تزايد مطالب السجناء الذين أصابهم إحباط وقلق شديدان. كما بدأنا الاستعداد لقدوم شهر رمضان المعظم، والذي كان أول رمضان أقضيه في السجن. 

اعتقدت انه ستكون هناك إجراءات استثنائية بمناسبة الشهر الكريم، كأن يتم السماح لنا بساعات تريض أطول وربما إفطار جماعي في العنبر. كانت هذه سذاجة بالغة مني، لا شيء استثنائي يحدث في رمضان، سوى زيادة ساعات النوم والاستماع للراديو، وأحيانا تبادل بعض الأطعمة والمشروبات الرمضانية بين الزنازين. 

كل الاحتفالات بالأعياد والمناسبات في السجن تفقد معناها، ولا يبقى سوى تلك الزنزانة الضيقة وساعات الانتظار الطويلة التي لا تنتهي.


الحلقة 1: زي ما انت

الحلقة 2: احكيلنا عن نفسك

الحلقة 3: أجواء ما قبل الحبس

الحلقة 4: سريرك سقف الحمام

الحلقة 5:  أنت في الإيراد  الحلقة 6: عد على صوابعك 150 يوم الحلقة 7: مش هترجعونا السجن بقى؟

الحلقة 8: عندك مطلب غير إخلاء السبيل؟

الحلقة 9: القادمون الجدد الحلقة 10: لو كان الوقت رجلًا الحلقة 11: لعبة الأمل

الحلقة 12: كورونا.. الثقب الأسود

الحلقة 14: وإنا على فراقك لمحزونون

الحلقة 15: مع الله والقرآن

الحلقة 16: خطابات السجن وخناقاته

الحلقة 17: الموت عرقًا

الحلقة 18: الدفس والتدوير وصلاح عبد الصبور

الحلقة 19: إقامة قصيرة

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.