جانب من حفل عمرو دياب في مهرجان ميدل بيست ضمن فعاليات موسم الرياض 2022. الصورة من صفحة الهيئة العامة للترفيه السعودية - فيسبوك

قوتنا الناعمة المعطلة: موسم الرياض ومواسم القاهرة

منشور الثلاثاء 8 فبراير 2022

 

بقدر ما يتيح المناخ العام من مساحات تسمح بالحرية والتفكير والخيال، تكون النتيجة المؤكدة إبداعًا يصل الآفاق وينشر التنوير ويصل خارج حدود الوطن، والعكس صحيح بكل تأكيد، كلما فرضت السلطة القيود على الحرية والأفكار والخيال باتت القوى الناعمة في أزمة حقيقية، وخسرت البلد جزءًا من أسباب قوتها وتفردها وتأثيرها. هذه قاعدة لا يمكن تغييرها أو التشكيك في صحتها.

تطبيق هذه القاعدة البسيطة يكشف بوضوح عن أزمة "موسم الرياض" الأخيرة وهيمنة السعودية على المشهد الفني والثقافي في مصر، وهرولة عشرات، وربما مئات، الفنانين المصريين إلى الرياض للمشاركة في الحفلات والعروض والمهرجانات. 

ليست الأزمة في تصريحات منفلتة صادرة عن فنان أو أكثر عن تحوّل السعودية إلى عاصمة للفن في الوطن العربي أو الرغبة في العيش في المملكة، ولا هي بالتأكيد التلاسن بين محمد صبحي وتركي آل الشيخ أو بيان نقابة المهن التمثيلية الباهت، فالموضوع أكبر وأكثر تعقيدًا.

لم تخطئ المملكة السعودية في حساباتها السياسية عندما قررت استغلال "قوة ناعمة معطلة" لتخدم بها أهدافها، وتدعم مشروعها الذي يقوده ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وهو يقدّم نفسه للغرب وللعالم كملك منتظر وشاب منفتح على التقدم والفن والثقافة استطاع تحويل بلده لملتقى للإبداع والموهبة.

أزمتنا لا أزمة الآخرين

على مدار أكثر من ست سنوات عانت القوى الناعمة المصرية من حصار قاس لم تتعرض له طوال تاريخنا الحديث؛ قيود رهيبة تفرض نفسها على السينما والموسيقى والغناء والمسرح والكتابة بكل صورها، خوف غير مبرر رفعته السلطة الحالية فوق كل صور الفنون، حاصرت به كل أصحاب هذه المهن، فانزوى الإبداع وتوارى حتى أضحت هذه القوى الناعمة بكل تأثيرها مجرد "قوة معطلة" تنتظر من يطلبها، سواء في "عمل تعبوي" بلا قيمة فنية حقيقية، أو في خارج مصر حيث الفرصة مواتية للعمل والكسب المادي.

ليست الأزمة بكل تأكيد في "موسم الرياض" بل في "مواسم القاهرة" المحاصرة بكل صور القيود، فبنظرة بسيطة على المشهد الفني طوال السنوات الماضية ستصل للنتيجة المؤسفة: فقد البلد جزءًا مهمًا من دوره وتأثيره بحصار محكم وقيود خانقة بدأت تطل بعد عام 2013؛ نفي كامل وشامل لكل الأفكار والفنون والكتابة بصورة عمياء كاشفة لكره غير طبيعي للثقافة والإبداع بشكل عام.

كل الذين سافروا السعودية فعلوا ذلك للهروب من أزمة خانقة تضرب الفن المصري، وهؤلاء ليسوا ملائكة؛ صحيح أنهم يحملون رسالة فنية، ولكنهم أيضًا يتكسبون من العمل الفني ويعيشون على ما يدره عليهم من أرباح، فجأة وبلا مقدمات ضرب الحصار الفن، وتحول الوسط الفني في مصر إلى "شلل" تعمل وتظهر على الشاشة في مقابل غالبية ساحقة لا تجد عملاً فنيًا أو إنتاجًا يمكن أن يساعدها على الظهور والنجاح والحصول على مقابل مادي يضمن لهم الحياة. 

شركات الإنتاج تسيطر عليها أجهزة في الدولة وتوجهها كيفما تشاء، وحديث لا ينقطع عن تطوير وإنتاج فني للقطاع الخاص يبقى في خانة الوعود التي لا تتحقق، يحدث هذا بينما آلاف العاملين في هذا المجال لا يفعلون أكثر من الجلوس في المنزل في انتظار "اتصال تليفوني" لا يأتي في غالب الأحوال.

في حسابات السياسة كانت "القوى الناعمة" المصرية دائمًا وعلى مدار تاريخنا الحديث جزءًا من الأمن القومي للبلد، قوة حقيقية ومقبولة ومؤثرة تصل بمصر ولهجتها وثقافتها وحضارتها إلى آفاق بعيدة، تتسرب رسالتها بهدوء إلى الجميع، تكشف الحقيقة وترسخ الاستنارة والجمال وتدافع عن البلد وتلفت الأنظار إلى حضارته وقضاياه.

كانت حفلة واحدة لأم كلثوم أو أغنية لعبد الوهاب أو فيلم لفاتن حمامة أو عمر الشريف أو عادل إمام أو أحمد زكي، بمثابة خطاب سياسي لمائة زعيم يمل الناس من سماعه، كانت أغنية لمحمد منير أو عمرو دياب تحظى بملايين المشاهدات، كانت القاهرة محط أنظار كل المهتمين بالفن في الوطن العربي وملتقى كل الموهوبين والراغبين في السير على درب الفن والإبداع، تمد أياديها للجميع وتفتح لهم أبواب الشهرة والنجاح والتألق، كان اسم أي مهرجان يتم تنظيمه في القاهرة كفيلًا بنجاحه وبالاهتمام العربي، والعالمي، به.

سد باب الفن

كان مبدعو مصر هم من يكتبون ليقرأ العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، إذ تصدرت مصر فنون الرواية والشعر والقصة وغيرها، وصدّرت الأفكار والإبداع بشكل مكثف إلى المواطنين العرب في كل مكان، هذا الزخم المدهش والتأثير الكبير سحقته عقول ضيقة محدودة منغلقة لا ترى في الفن والثقافة والإبداع أكثر من "ترف" ليس له داع، ناهيك عن خوف يسكن السلطة الحالية من قدرة الفن والكتابة على "تثقيف" الناس وتنويرهم، هذا الخوف الذي دفعها للحل الذي أوصلنا إلى "موسم الرياض" بديلًا عن "مواسم القاهرة" التي لم تنقطع على مدار تاريخنا الحديث، وظهر هذا بوضوح بعد أن طبقت السلطة المثل الشعبي الشهير "الباب اللي يبجي منه الريح سده واستريح"، والريح هنا هو هذا الألق المدهش لفن وإبداع المصريين على مدار تاريخنا الزاخر بالأفكار والكتابة والسينما والمسرح والموسيقى.

لم تخطئ المملكة بحسابات مصلحتها، وهي التي تملك مشروعًا تبنيه وتحاول تصديره للمنطقة كلها، نحن الذين أخطأنا حينما بتنا بلا مشروع ثقافي نصل به للجميع، ولم يخطئ الفنانون الذين هرولوا إلى المملكة كرد فعل على الحصار والجلوس في المنزل، حتى لو فاحت من تصريحاتهم رائحة الرخص والتدني، فلو وجدوا في وطنهم زخمًا فنيًا كما كان دائمًا لما فكروا ولا شغلوا أنفسهم بموسم الرياض، فالمقارنة كانت ستصبح لصالح مواسم القاهرة بكل تأكيد، والأكيد أن ما حدث سيستمر ما دمنا نسير في نفس الطريق، ونسلم قوة البلد الناعمة لمن لا يفهمون في الفن ولا في الفكر، بل إن بعضهم يعادي أصلًا الثقافة والفكر والفن بشكل عام، وأخشى أن تزيد السيطرة على القوة الناعمة المعطلة خلال الفترة المقبلة ما دامت السلطة الحالية تخشى الثقافة وتدفع في اتجاه حصار الإبداع والكتابة.. 

ليس الحل أن نهاجم من هرولوا إلى المملكة السعودية، بل الحل في فتح الأبواب المغلقة ليجدد هواء الإبداع خنقه الاستبداد الذي تحكّم في كل شيء، الحل أن نؤمن أن هذه القوة الناعمة والإبداعية المعطلة هي جزء من صميم أمننا، وأننا "كبارها" بتاريخنا وعقولنا التي لا ولن تتوقف عن الإبداع، الحل في أن تؤمن السلطة بقيمة وقدر هذا البلد ومكانته، وتهيّئ المناخ المناسب لتعيد له دوره الضائع وسط هذا الحصار الذي يتسلط على كل صغيرة وكبيرة، ويخنق تاريخنا ومستقبلنا.