جمال عبد الناصر يشرف على بناء السد العالي

حكايات الناس والسد العالي

منشور الجمعة 11 مارس 2016

 

في كتاب "التاريخ الإنساني للسد العالي"، الصادر هذا العام عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يقوم يوسف فاخوري برواية التاريخ الشفاهي للسد العالي حيث يعرض الكتاب لشهادات و حكايات العمال والفنيين والمهندسين الذين قاموا بالعمل في هذا المشروع.

بعد مقدمته يترك فاخوري الشهادات بالعامية المصرية، حتى لو تضمنت أخطاء في اللغة أو معلومات بها غير دقيقة أو تحتوي على مبالغات، لأن الغرض من وجهة نظره كان عرض حكاية "الناس" للتاريخ بكل ما فيها.

 

غلاف كتاب التاريخ الإنساني للسد العالي

 

الكرابيج

قبل السد العالي ارتبطت تجربة المشاريع القومية في الوجدان الشعبي بالمشاريع الكبرى لمحمد علي وبمشروع "قناة السويس"، وفي الوعي الشعبي كانت تلك تجارب مريرة ارتبطت بأعمل سُخرة وعدم وجود مقابل مادي أعلى مما كان يتقاضاه العمال في العادة، وبدون توفير مساكن أو رعاية طبية أو وجبات غذائية أو أنشطة ترفيهية أو حتى معاملة آدمية. 

وبحسب رواية أحد العاملين بمشروع السد العالي كانت هناك رغبة من السلطة أن تمارس الطريقة نفسها، ولكن مع وجود جمال عبد الناصر على رأسها صار الأمر مختلفًا:

"لما ابتدوا السد العالي حبوا يبتدوه بالكرابيج، كانت بالصناديق جايبنها، تشتغل الناس بالضرب يعني ­مين اللي جايبنها؟ كانت جايباها الحكومة، هنا السيد الرئيس جمال عبد الناصر االله يفتح عليه و يرحمه ويسامحه قال لا متضربوش الناس كتروا الفلوس و كتروا الورادي للناس، و الناس هتشتغل".

من شهادة عربي أبو عبد الله - عامل

يتم نفي هذه الرواية في شهادة أخرى، وهي تبدو غير منطقية في العموم، ولكنها تعبر عن عقلية العامل الذي توقع أن تتم إعادة مأساة حفر قناة السويس، قبل أن يوجد البطل الذي يحمي العمال ويعطيهم حقوقهم، وهو ما يتماشى مع المزاج الشعبي. 

فلاحون وصعايدة

لا تبدو الصورة في أعين العمال وردية تمامًا عن العمل في الموقع فعلى الرغم من وجود عائد مادي مجزي للعمال ووجود وجبات غذائية ورعاية صحية إلا أن طبيعة التجمع البشري لم تخل من سلبيات وأفكار قديمة مثل وجود تنافس و قِبلية بين "الفلاحين و الصعايدة" و انتهاز البعض لفكرة وجود تجمع كبير للعثور على بعض المطلوبين للثأر، ووجود بعض السرقات من صغار العاملين أو المقاولين.

"­كان في خناقات بتحصل؟ ما كان من كل الجمهورية.. كانت الخناقات أغلبها مع ناس بحري. كانوا واخدين الفتونة.. يمسكولهم عيل صعيدي غلبان يدوله بالخماسيات (بالبوكس) يطيروا وراه الصعايدة يسمعوا يطيروا بشومهم.

من شهادة عربي أبو عبد الله - عامل

ضربوا فريد الأطرش بالطوب

بالإضافة للرعاية المادية و الطبية والوجبات، كانت الدولة حريصة على وجود نشاط فني ترفيهي للعاملين، ولكن في بعض الأحيان كانت ردود الأفعال غير متوقعة خصوصًا مع تواجد عدد كبير من العاملين وعدم وجود خبرات سابقة في التعامل مع أحداث مثل الحفلات الفنية ومشاهدة مطربين أو راقصات بشكل مباشر و حي مما يؤدي إلى ردود أفعال تلقائية أو بدائية في بعض الأحيان.

­

الخبراء الروس

جاءت كل الشهادات الموجودة في الكتاب من عمال وفنيين ومهندسين ومديرين إيجابية عن الخبراء الروس، إذ أشادوا بخبراتهم العملية والعلمية وتواضعهم و بساطتهم في التعامل مع الجميع، ووجود علاقات صداقة واحترام بين الروس وبعض العمال و الفنيين، و من أسباب ذلك عدم وجود فارق اجتماعي كبير بين الفني الروسي و الفني المصري حيث كان كلاهما يعيش في نظام يحاول التقريب بين الطبقات و يرفض الطبقية

 

المهندس اليوناني والتمويل الروسي

تأتي شهادات المهندسين أكثر شمولًا و اتساعًا للمشروع بداية من فكرة السد العالي وصاحبها هو مهندس زراعي يوناني اسمه دانينوس، كان مقتنعَا بالفكرة و قام بعرضها على حكومات ما قبل يوليو 1952، ولم تكن هناك استجابة لفكرته، وكان أعضاء مجلس قيادة ثورة 1952 يتهربون منه في البداية حتى التقى به عبد الحكيم عامر و بدأ الاقتناع بالفكرة، ثم البحث عن تمويل البنك الدولي بمبلغ 110 مليون دولار، ثم كانت الحادثة الشهيرة عندما سحب البنك الدولي تمويله بعد صفقة الأسلحة التشيكية لمصر في عام 1956، و قامت روسيا بتمويل المشروع علي مرحلتين مرحلة 70 مليون دولار و مرحلة 35 مليون دولار،­ كان الدولار وقتها يساوي 37 قرشًا­ كما يروي المهندس وليم كامل شنودة.

كتاب "التاريخ الانساني للسد العالي" يقدم تجربة جميلة يمكننا أن نشاهد فيها الفارق بين ما عرفناه عن حدث معين عن طريق كتب التاريخ و أجهزة الاعلام، وبين ما يحكيه الناس بلسانهم من ذكريات وحكايات لن نجدها في التاريخ الرسمي، ولكنها تعطينا صورة أكثر قربا لبشر صنعوا التجربة بأيديهم ولم نسمع أصواتهم.