بازوليني

من اللذة إلى الجحيم: حيوية بازوليني اليائسة

منشور الأحد 17 يوليو 2022 - آخر تحديث الأحد 17 يوليو 2022

نوفمبر/ تشرين الثاني 1975، أوستيا، إيطاليا. يُعثر على جثة الشاعر والمخرج المثير للجدل بيير باولو بازوليني في أحد الحقول. جسد متروك في حالة مزرية، بعدما دهسته سيارته الألفا روميو جيئة وذهابًا، إلى جواره ألواح خشبية مدماة تبرز منها مسامير. مات أحد أهم الشخصيات الثقافية في إيطاليا في حادثة لم يُكشف إلى الآن عن تفاصيلها الكاملة.

كان بازوليني فنانًا ومثقفًا شاملًا أرانا عذوبة وبؤس ناس الشوارع ومنبوذي المجتمع الإيطالي. عارض الهيمنة السائدة من خلال التشكيك في الرأسمالية الحديثة. درسَ كيف تدمر هذه الرأسمالية الممنهجة الطبيعة وتُفسد الإنسان. فيلمه الأخير والأشهر، سالو، أو 120 يومًا من سدوم، صدر بعد أسابيع قليلة من مقتله وعزّز سمعته خارج أوروبا كمفكّرٍ استفزازيٍّ ومثيرٍ للجدل. لكن مَن كان بازوليني بالضبط؟

بيير باولو لا يمكنه إنشاء أو الانتماء إلى مدرسة أو اتجاه. أسلوبه خصوصي جدًا. كان وحيدًا. مع فيلمه أكاتوني، عاينت ولادة سينماه. – برناردو بيرتولوتشي

مثل كثيرين غيري، تعرّفت على بازوليني من خلال فيلمه القاسي والاستفزازي والغاضب سالو (1975)، الذي أسكنه ثورة غضبه، راسمًا قواسمَ مشتركةً بين النظم الفاشية والقمعية من جهة، وعمل ماركيز دو ساد الأدبي أصل السادية المازوخية من جهة ثانية. تدور أحداث الفيلم في جمهورية سالو الاستبدادية، حيث يتعرض مجموعة من الشباب لتعذيبٍ واغتصابٍ جسيمين من قبل السلطات الفاشية.

لا وجود هنا لبهجة العيش والفكاهة والمرح التي ظهرت في أفلام بازوليني السابقة. سالو نتاج فنان محموم ويائس، رسالة تحذير وإنذار، نبوءة. يبدو الأمر كما لو أن بازوليني يصرخ في مُشاهده "أنت مستعمَر أيديولوجيًا، وجسديًا، ولا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك. كل ما يمكنك فعله هو أن تكون متفرجًا عاجزًا".

حُظر الفيلم في العديد من البلدان، واعتبر أحد أقسى الإنتاجات السينمائية، وبالتالي يسهل تفهُّم الانشقاق والاستقطاب بسبب الفيلم بين المشاهدين؛ فهناك من يعتبره تحفة سوداوية، ومَن يعتقد أنه فيلم لا يُطاق.

مشهد من فيلم سالو.

ولكني حين استكشفت باقي مسار بازوليني السينمائي، وجدت شيئًا مختلفًا تمامًا عمّا رأيته في سالو.

بالنسبة لي، فضيلة أفلام بازوليني الكبرى تكمن في كيفية تمكّنها من التقاط إنسانية صميمة وجوهر أصيل بأقصر الطرق تأثيرًا وبساطة. قدّم المهمّشين، "مَن لا صوت لهم"، أولئك الذين لا يحبّ الناس رؤيتهم، أو في أفضل الأحوال، يشفقون عليهم. تقديره للجنس البشري في ثلاثية الحياة (1971-74) فاتن وفريد ​​من نوعه.

تظهر لنا أفلامه المبكرة، أكاتوني وماما روما تحديدًا، سكّان شوارع روما وواقعهم، من خلال نظرة بازوليني الإنسانية العميقة، بلا أحكام ولا وعظ، فقط يترك المشاهد والأحداث تتدفق مثلما تسير حياتهم بمباهجها الصغيرة ومصاعبها المتتالية. في تحفته "الدينية"، إنجيل القديس متّى (1964)، يصوّر المسيح/يسوع كإنسان وشخصية ثورية تتعاطف مع منبوذي المجتمع.

بشكل عام، وأيًا كان موقعك من سينما بازوليني، فأفلامه دائمًا جذّابة ولافتة ومليئة بالتحديات، مع مزيج يجمع المُدنَّس بالمُقدَّس والشاعري بالواقعي والمباشر بالتحليلي.

حيوية يائسة

وُلد بازوليني في بولونيا في 5 مارس/ آذار 1922. نفس عام استيلاء الفاشيين على الحكم، وهو الحدث الذي حدّده، وشكّل انحيازاته ككاتب في الشعر والرواية والصحافة، أو كسينمائي في الإخراج والتمثيل والتأليف، أو كسياسي عضو في الحزب الشيوعي حتى آخر حياته.

وجد بازوليني في الفاشية أكثر ما يؤرّق البشرية: التعصُّب والاستبداد والامتثال. تعاطفًا مع المهمّشين والمضطهدين، اكتشف دافعه الفني. يجب أن يكون معارضًا، ليس للفاشية فحسب، وإنما للبرجوازية. يمكن فهم أسباب وحدود هذه المعارضة في المجتمع من الشعار الذي صاغه بازوليني في قصيدة بعنوان "حيوية يائسة". وجد مركزه الإبداعي في هذا السعي اليائس الملحوظ ضمن ديناميات أفلامه. ونتيجة لهذا النهج، لا تنفصل أفلامه أبدًا عن السياسة والمجتمع، كامن فيها دائمًا التزام متقد.

في بولونيا، شمالي شرق إيطاليا، تلك "المدينة المليئة بالأروقة"، بدأ دراسة تاريخ الفن قبل الحرب العالمية الثانية. انعكست موهبته الفنية لاحقًا في جماليات أفلامه. علاقته بوالدته، المهتمة بالشعر والحكايات والمنحدرة من ثقافة ريفية، شجّعته على كتابه أشعاره الأولى. كانت علاقةً حميميةً فيها الكثير من الحبِّ والعناية.

"أخبرتني حكايات، خرافات، قرأتها لي. كانت والدتي مثل سقراط بالنسبة لي. لديها نظرة مثالية للعالم. آمنت حقًا بالبطولة والرحمة والعطف والكرم. استوعبت كل ذلك منها بطريقة مَرضية تقريبًا". على العكس، كانت علاقته بوالده، الضابط الفاشي، متوترة منذ البداية "كل مساء كنت أنتظر بفزع لمدة ساعة موعد العشاء، متأكدًا من أنه ستكون هناك مناقشات حامية".

بلغت الدراما العائلية ذروتها عندما أسر الفاشيون بازوليني خلال الحرب العالمية الثانية، وقُتل شقيقه الذي كان يقاتل ضمن صفوف المقاومة الشيوعية. هرب بازوليني بعدها من الأسر وظلَّ ماركسيًا مخلصًا طوال حياته، معارضًا دائمًا لأبيه وللفاشية.

الطرد من الجنّة

في أربعينيات القرن الماضي، نشر بازوليني مجموعةً من القصائد باللهجة الفريولية، لغة أمّه التي سيُعترف بها لاحقًا كلغة قائمة بذاتها، احتجاجًا على اللغة الإيطالية الموحّدة. وفقًا له، فاللغة الإيطالية المكتوبة هي لغة مبنية ومركّبة، "كوينى"، تكوّنت في المدن الصناعية شمالي إيطاليا وعلى يد البرجوازية. رآها لغةً اختزاليةً وآليةً هدّدت بمحو اللهجات الإيطالية الأصلية.

لم يرغب الفاشيون في استخدام اللهجات الإيطالية. لماذا ا؟ لأنهم لم يرغبوا بوجود الفلاحين الإيطاليين. - بازوليني

في إقليم فريولي وجد بازوليني لغة معبّرة وجمالية، جذبته إليها. كانت لغة حسّيةً وموسيقيةً، وأصيلةً؛ جاءت من الشعب والثقافة اليومية المُعاشة.

في فريولي، وجد بازوليني "عدن"ـه؛ مجتمعه الفلاحي الذي اتخذه مفتاحًا لماضٍ خضع للمحو المستمر من قِبل الحداثة والرأسمالية. ولكن بما أن كل قصة عدنية يجب أن تنتهي، فقد طُرد ووالدته بعد اتهامهما بالاعتداء الجنسي على أولاد صغار، وهي شائعة لم تُثبت قط. بسبب مثليته، كُره ونُبذ وطُرد خارج جنّته المختارة، وهو حدث مؤلم سيشير إليه طوال حياته، كما في أي تروما.

انتقل بازوليني ووالدته إلى روما حيث رأى سكّان "البورجاتا" ، مستوطنات الفقراء في العاصمة، "المقطوعين من شجرة" غير المرغوب بهم، البروليتاريا الرثّة كما في التحليل الماركسي. تحدّث هؤلاء بلهجات الشوارع التي اعترف بها بازوليني كلغات أصيلة، بينما نبذتها البرجوازية. رأى فيهم نفس ما رآه في فريولي؛ شعبًا لديه ثقافة قديمة، ولغة خليطة من لهجات إيطالية مع تأثيرات أفريقية وآسيوية وأوروبية. كانت لغة عامية/ محكية نشأت من تلقاء نفسها، من الشعب، وليست لغة شيّدها البرجوازيون.

هؤلاء الناس سيصبحون أصدقاء ومعارف، استعان بالعديد منهم كممثلين في أفلامه. في الخمسينيات، كتب روايتيه أولاد الحياة (1955) وحياة عنيفة (1959)، وكلتيهما عملين أدبيين مهمين في عصرهما. ذيوع صيته النسبي أوصله إلى فديريكو فلليني الذي استعان به لكتابة حوارات "حقيقية" على لسان "شوارعية" فيلمه ليالي كابيريا (1957). هكذا دخل عالم صناعة السينما. ككاتب مهووس بـ "الواقع".

پيير وفديريكيو في أواخر الخمسينيات.

فيلموجرافيا انتقائية

دشّن فيلم أكاتوني (1961) مسيرة بازوليني الإخراجية، وهو بورتريه حسّاس ومقاربة طازجة لسكّان الضواحي الرومانية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في مركزه مجموعة من المحتالين الصغار وقليلي الحظّ. وُصف أسلوبه السينمائي بـ"ما بعد الواقعية الجديدة".

تتعامل أفلامه المبكرة مع جزء أقل شهرة من الثقافة والحياة الإيطالية، عالم سفلي وثقافة فرعية موصومة لم يقدّمهما الواقعيون الجدد مثل فيتوريو دي سيكا أو روبرتو روسيليني. كان هذا هو عالم بائعات الهوى واللصوص الصغار الذي قدّمه بكثير من الحب والإعجاب والرمزية الدينية، الأمر الذي أثار المتطرفين اليمينيين.

خلال العرض الأول للفيلم، غزت مجموعات فاشية دور السينما وارتكبت أعمال عنف وتخريب. وقعت حوادث مماثلة في العرض الأول لفيلم ماما روما، وتعرّض بازوليني نفسه لهجوم بدني من قبل فاشيين غاضبين ومناصرين يمينيين.

فيلمه الثالث، إنجيل القديس متّى (1964) تحفة سينمائية تقارب يسوع/ المسيح بطريقة جديدة تمامًا وثورية. عبر أسلوب واقعي بتقنيات سينمائية بسيطة للغاية، تمكّن من إخراج الإنساني من الإلهي بطريقة مؤثرة وفعّالة.

في نظره، كان المسيح ثوريًا: كان رجلاً من الشعب، عاش بين الفقراء، وأحاطه المجذومون والمنبوذون، وعارض دائمًا الأخلاقيين الممتثلين والجائرين. في مشهدٍ جميلٍ ومتقشّفٍ، حين يزور الحكماء الثلاثة السيدة مريم، يبتكر بازوليني سحرًا سينمائيًا عندما سمح لأغنية أوديتا "طفل بلا أم" بمرافقة هذا المشهد.

 

أضحت الأساطير وسيلة خروجه من أسر الحداثة الخانقة. ففيها يمكنه خلق يوتوبياته المهجورة في مجازات وأمثولات، ودائمًا بنبرة سياسية. بعد ميديا (1969)، وهو أفلمة مميزة لمسرحية يوربيديس الشهيرة، أراد أن يصنع أفلامًا سياسية بطريقة أقل مباشرة.

وكانت النتيجة هي ثلاثية الحياة، ثلاثة أفلام تمثل تكريمًا جميلًا للجنس والجسد البشريين والرغبة والمتعة. يلعب بازوليني مع/ وبأعمال أدبية تاريخية مكتوبة في العصور الوسطى: الديكاميرون بوكاتشيو، حكايات كانتربري لتشوسر، وألف ليلة وليلة. حاول إيجاد براءة وإمتاع عتيقين ومتروكين من/ وفي عصر ما قبل النهضة، كأن المناخ الفكري الناشئ بعد العصور الوسطى أخذنا بعيدًا عن شيء أصلي وبِكر. 

من اللافت أيضًا إلقاء نظرة على عملية اقتباس هذه الأعمال من الأدب إلى السينما. عندما تشاهد الأفلام، بعد قراءة الأعمال المأخوذة عنها، وتصبح على دراية بكيفية قيام بازوليني بإعادة هيكلة القصص وإزالة فقرات وإضافة عناصر أخرى، ينشأ حوار مثير بين الأعمال الأصلية ونسخها البازولينية.

في حكايات كانتربري، يلعب بازوليني دور جيفري تشوسر، مؤلف العمل، ونرى، مرة بعد أخرى، سعادته بتأليف متواليات لعوبة تسخر من التقوى المسيحية. ختام الثلاثية، ليالٍ عربية، حكاية خرافية مثالية، تأخذ شكل أمثولة قديمة عن سعي الفتاة/ الخادمة زمردة للحبّ. ثلاثية الحياة إشادة شاعرية بمباهج الحياة البسيطة، بالتناقض مع أفلامه الأكثر جدّية في الستينيات.

اشتهرت الثلاثية داخل إيطاليا وراج سوقها، حدَّ نيلها الشرف المريب بإلهام نسخ لا تُحصى من مواد/ أفلام إباحية انتقلت بحكاياتها إلى العصور القديمة. بعد ذلك، رفض بازوليني الاعتراف بالثلاثية. لم يندم على إنجازها، لكنه اعتبرها خداعًا للذات وأفيونا للشعب.

أثار الوضع السياسي في إيطاليا غضبه لدرجة أفضت إلى صرخة احتجاجه النهائية وهجومه العنيف على المتفرج: فيلم سالو، النقيض الخالص لثلاثية الحياة، وفيلمه الأخير.

قبل أسابيع قليلة من ظهور الفيلم، قُتل بازوليني بوحشية. حُكم على المُدان بقتله، بينو بيلوزي البالغ من العمر 17 عامًا، بالسجن، لكن العديد من الملابسات المحيطة بالجريمة دفعت الكثيرين إلى الشكّ في أن وراءها دوافع سياسية.

لا يمكن بأي حال فهم بازوليني عبر فيلمه الأخير. منجزه الفني أكثر تفاؤلاً وتأكيدًا على الحياة، يتجذّر في إنسانية خالصة وميل واضح للشاعرية.