بعد خمسة وعشرین عامًا من عرض أولى حلقات المسلسل التليفزیوني الذي یعتبره كثیرون "الأفضل في التاریخ"، لا یزال الجدل محتدمًا بین محبي The Sopranos بشأن نھایته. أما إن كنت لم تشاهده فأنصحك بالتوقف عن القراءة والبدء في ذلك الآن. هناك عدة أسباب، لكن أهمها هو أن هذا المسلسل هو آخر عمل درامي متماسك تم إنتاجه قبل أن تتأثر الدراما بالصوابية السياسية؛ هو فرصة لمشاهدة أمراض المجتمع وصراعاته دون مواربة.
في مشھد النھایة، الذي جاء في الحلقة السادسة والثمانین، لم نَر اللحظة التي تحدد مصیر بطله توني سوبرانو. فجأة تم قطع المشھد حینما نظر توني نحو باب المطعم الذي اجتمع فیه مع زوجته كارمیلا وابنه أنتوني جونیور، بینما كان في انتظار دخول ابنته ميدو.
منذ عرض ھذا المشھد في العاشر من یونیو/حزيران عام 2007، حتى كتابة ھذه السطور، ھناك خلافٌ لا ینتھي بین فریقین؛ الأول یضم قطاعًا عریضًا من الجمھور والنقاد ویعتقد أن توني تم اغتیاله، وأننا لم نرَ موته لأننا نرى العالم من خلاله، كما كنا معه عندما دخل في غیبوبة رأينا معه فیھا أحلامًا وكوابیس لعب فیھا دور بائع متجول عالق في مدینة بعیدة عن نیوجیرسي، حیث موطن رأسه ومنزله وأعماله التي یدیرھا مع عصابته.
أما الفریق الآخر فیعتقد أن توني لم یُقتل، وأن النھایة لا تزال مفتوحة أمام احتمالاتٍ شتى، من بینھا دخوله السجن أو بقاؤه ھاربًا من أشباح ضحایاه الكُثر، الذین شاھدنا جثثھم خلال مواسم المسلسل الستة.
البطل المجرم
هيمنت على عالم توني الصاخب سمات التوتر والقلق والضغط النفسي والبارانویا؛ وكلھا أحاسیس حادة جعلته عنیفًا، دمویًا، قاسیًا، وخائفًا في الوقت ذاته. ورغم ذلك، بدا في أحیانٍ كثیرة مجرد طفل یبحث عن الأمان والسعادة وراحة البال.
ھذه التناقضات الكبیرة ھي التي وضعتنا أمام شخصیة مركبة، ومتعددة الأبعاد، لا یمكننا التنبؤ بتصرفاتھا رغم معرفتنا الجیدة بھواجسھا واضطراباتھا العدیدة. وھي أیضًا التي جعلتنا نتأرجح بین الشعور بالغضب الشدید من توني، وبین التعاطف معه، بل ورغبتنا في أن ینتصر على خصومه ومشاكله معًا!
تطورت علاقتنا كمشاھدین مع توني خلال مواسم المسلسل، وحملت التناقضات نفسها التي حددت طبيعة علاقاته مع أفراد أسرته ورجال عصابته، حتى المشهد الختامي للملحمة الدرامية.
ولكن ربما لم يمت توني، ولم یُسجن، ولكنه صعد! فنھایته المحتومة، التي سوف تكون شبیھة بأصدقائه وأقاربه من رجال عصابته، لیست مھمة بقدر ما كانت حیاته.
نحن أمام رجل عصابات أمریكي من أصول إیطالیة یمارس جرائمه وأعماله الخارجة عن القانون، بينما يمثل مأزق الحلم الأمریكي لدى قطاع واسع من المھاجرین الإيطاليين، الذین یواجھون نظرةَ شكٍ دائمة من المجتمع، فیقررون مجابهتها بالعمل خارج القانون، ولكن ضمن إطار العصبة العائلیة والعرقیة.
مأزق الحلم الأمریكي أيضًا هو الذي یجعل توني یَسعى باجتھاد لنیل اعتراف مؤسسات المجتمع ونخبته، وتجاوز النظرة السلبیة المتجذرة تجاھه وتجاه أسرته، عبر التركیز على حیازة ثروة كبیرة، بصرف النظر عن مصادرھا.
حلم "توني" الأمریكي
خلال حلقات The Sopranos التي عرضت بین عامي 1999 و2007 تناول المسلسل عددًا كبیرًا من المواضیع التي شغلت اھتمام المجتمع الأمریكي خلال تلك السنوات.
في الموسم الأول كان التركیز على النظرة السلبیة تجاه الأمریكیین من أصول إیطالیة، باعتبارھم أصحاب أنشطة إجرامیة، ينتمون لعصابات مكونة من عائلاتھم الممتدة، عرفت باسم المافیا وتناولتھا روایات وأفلام عدة أشھرھا The Godfather لفرانسیس فورد كوبولا وفیلما Goodfellas وCasino لمارتن سكورسیزي.
في المواسم التالیة تنوعت الموضوعات لتشمل نظرة الشك والریبة تجاه العرب والمسلمین في المدن الأمریكیة بعد ھجمات الحادي عشر من سبتمبر، وكذلك المصاعب الاقتصادیة للأسر الأمریكیة، والنظرة السلبیة المنتشرة بين العائلات الأمریكیة من أصول إیطالیة تجاه الأمریكیین الأفارقة. كما تناولت عدائية المجتمع الأمريكي، خاصة ذوي الأصول الإيطالية، للمثلیین.
لكن حلم المھاجر الإیطالي في الصعود الاجتماعي والثراء والحفاظ على قیم العائلة، كما عرفھا في موطنه الأصلي، استمر بأشكال متعددة طوال مواسم المسلسل. وتجلّى ذلك خلال الحوار الذي دار بین توني ومعالجته النفسیة، الدكتورة میلفي، في الموسم الثاني، حين قال لھا "عندما فتحت أمريكا أبوابھا على مصراعیھا، وسمحت لنا جمیعًا نحن الإیطالیین بالدخول، لماذا كانوا یفعلون ذلك من وجھة نظرك؟"، ویكمل بانفعال واستنكار "لأنھم كانوا یحاولون إنقاذنا من الفقر؟ لا. لقد فعلوا ذلك لأنھم بحاجة إلینا. لقد احتاجوا إلینا لبناء مدنھم، وحفر أنفاق المترو، ولنجعلھم أكثر ثراءً".
في ھذا المشھد عبَّر توني عن مرارته وغضبه من أمريكا ممثلة في مؤسستھا الحاكمة، تحدیدًا ذراعھا الأمنية، جھاز المباحث الفیدرالي/FBI، الذي یستھدف توني وعصابته، بینما یعتقد توني أن ھدفه ھو النیل من مجتمع الأمریكیین ذوي الأصول الإیطالیة.
كان توني غاضبًا من أمريكا، فخورًا بجذوره ونجاح أجداده في صنع حیاة جدیدة في المھجر. كان یمثل صراع الجیل الثالث من مجتمع المھجر الإیطالي، فأجداده ھاجروا إلى الولایات المتحدة عام 1911 من بلدة أریانو في الجنوب الإیطالي، كان حریصًا على أن ینقل لأبنائه اعتزازه بكفاح أجدادھم.
نرى هذا الصراع في الموسم الرابع حين یأخذ ابنه أنتوني جونیور إلى كنیسة في حي یقطنه الأمریكیون من أصول أفریقیة في نیو جیرسي، كي یخبره أن جدّه ساھم في بناء ھذه الكنیسة عندما أتى مھاجرًا من إیطالیا. "كان ھذا الحي جمیلًا. يسكنه مائة بالمائة إیطالیون. في العشرینیات من القرن الماضي، جاء معظمھم من على متن السفینة مباشرة. لم یتمكن معظم الإیطالیین من العثور على كنیسة تقبلهم. فماذا فعلوا؟ ھل بكوا؟ ھل اشتكوا إلى الحكومة مستسلمین؟ لا. لقد تعاملوا مع مشاكلھم. قالوا: أنتم لا تریدوننا في كنیستكم؟ حسنًا. سوف نبني واحدة أفضل".
بمثل ما كان بطل روایة الأب الروحي/The Godfather، دون فیتو كورلیوني، متصالحًا مع نشاطه الإجرامي باعتباره نشاطًا تجاریًا لا تسمح به القوانین الأمریكیة، تصالح توني أیضًا مع نشاطه الإجرامي واعتبر نفسه رجل أعمال یسعى لتحقیق الحلم الأمریكي، لكنه في احتیاج دائم إلى وسائل عنیفة ودمویة للحفاظ على مصالحه، خاصةً ضمن سیاق مجتمع یتعامل معه بریبة وشك، ولا یمنحه الاحترام الذي یعتقد أنه یستحقه.
كلاھما، فیتو كورلیوني وتوني سوبرانو، اشتبك مع الحلم الأمریكي من زاویة محاولة تحقیق جوھره في امتلاك الثراء والنفوذ، ولكن مع الحفاظ على قیم العائلة التي حملھا الدون "فیتو" معه من صقلیة، أو تلك التي ورثھا "توني" من آبائه وأجداده. وھو ما جعل الرجلین یؤمنان بمحوریة فكرة العائلة في حیاتھما، ویؤكدان على الھویة الخاصة لمجتمعھم الصغیر المكون من الأسرة ورجال العصابة والأصدقاء والمعارف من أصحاب الأصول الإیطالیة. بل إن كلاھما حرص على الفصل بین مجتمعھم الصغیر وبقیة مكونات المجتمع الأمریكي الكبیر.
في المشھد الافتتاحي من فیلم The Godfather تقول الجملة الأولى: I believe in America/أنا أؤمن بأمريكا، لتتحول ھذه الجملة إلى مفتاح لفھم علاقة دون فیتو كورلیوني ومجتمعه بالمؤسسة الحاكمة في الولایات المتحدة. وفي الحلقة الأخیرة من The Sopranos نعرف أن عنوان رحلتنا الأخیرة مع توني ھو: Made in America/صنع في أمريكا، كي ندرك محوریة فكرة الحلم الأمریكي في رحلة "توني" مع الحیاة قبل أن یصعد إلى السماء!