تصميم: أحمد بلال - المنصة

التطبيع.. وانفصام موجهي الإعلام

منشور الأربعاء 31 أغسطس 2022 - آخر تحديث الثلاثاء 20 ديسمبر 2022

كما توقعت.. نابني قدرٌ من البذاءات والردح منذ بضعة أيام على لسان أحد مقدمي البرامج التليفزيونية الموجهين، نتيجة لمقالي السابق في المنصة، الذي لمت فيه القائمين على توجيه الإعلام في مصر حين تركوا بعض تابعيهم ينتقدون الصحفي عماد الدين أديب على مقاله بشأن أسباب سقوط الحكام والأنظمة.

ورغم أنَّ مقال أديب لم يذكر اسم مصر، أصر إعلاميو التعليمات أنه يقصد مصر ورئيسها. وبهذا الغباء، أدانوا نظامهم بأنفسهم بينما تنصل صاحب المقال لاحقًا من قصد الرئيس السيسي، موضحًا أنه يقصد فريقه، ومنهم القائمون على تسويق "إنجازاته" لفشلهم في ذلك، وكأن الصحفي يعرض خدماته لتولي التسويق والترويج.

السباب الذي طالني جاء من مقدم برنامج، ترك قناة تركية تبث بالعربية ليعمل في أخرى مصرية تمولها الإمارات "المتحدة" في القاهرة. وطبيعي أن تتوقع من قناة يديرها بتعليماته جهاز "سيادي" مصري ويمولها طويل عمر إماراتي، أن يكون التطبيع مع إسرائيل مسألة عادية فيها، تماشيًا مع سياسة الدولتين.

لكن على العكس، بدت القناة وكأنها تليفزيون الميادين من شدة المزايدة، وكأنها ممولة من حزب الله، وليس من أكثر المطبعين العرب فخرًا.

حاول المذيع المزايدة على تاريخي المهني بنشر صورة لي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل شيمون بيريز، باعتبار ذلك "خيانة للقضية"، فكيف سمحت لنفسي بإجراء مقابلة مع ذلك "الصهيوني"؟

تلى ذلك سيل من السباب والشتائم التي يؤكد تكرار المذيع لها في برامجه ضد كل صاحب رأي معارض، مدى ثقته والقناة في سيادة القانون واستقلال القضاء لو فكر أحدهم في رفع قضية سب وقذف.

وقبل أن أوضح مدى انفصام شخصية المسؤول عن توجيه الإعلام بشأن علاقة مصر بإسرائيل، دعوني أوضح ملابسات الصورة وموقفي من التطبيع.

أولًا، لم أحظَ بإجراء مقابلة مع السياسي الإسرائيلي المخضرم شمعون بيريز. التقطت الصورة عام 2000 على باب مكتبي بمقر قناة الجزيرة في واشنطن، بعد انتهاء بيريز من مقابلة على الهواء مع مقدم نشرة إخبارية كان يسأله من مقر القناة في الدوحة، وكان وزيرًا للخارجية آنذاك.

كان مكتبنا وقتها صغيرًا؛ غرفة وصالة بمبنى الصحافة القومي بواشنطن، فوقفت مع زميلين من المراسلين حتى انتهى اللقاء، ثم طلب أحدهما أن يأخذ صورة لنا معه وأنا فيها كمدير للمكتب، ولم أمانع في طلب زميلي الفوري أمام الرجل.

بالتالي، لم أحظَ بإجراء مقابلة، ولا أتنصل من اللقاء العابر، لكنني أجريت بعد ذلك بثلاث سنوات في برنامجي من واشنطن على قناة الجزيرة وبدعوة مني مقابلة مع السفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة.

في تلك المقابلة وجدني السفير هادئًا أسأله كل الأسئلة الصعبة لكن بأدب، وأستمع الى إجابته دون مقاطعة قبل نهايتها، ظن الرجل خطأً أنني صديق، فأرسَلَت مديرة مكتبه دعوة لي من السفير لحضور حفل "العيد القومي" لإسرائيل، فاعتذرت عبر مساعِدتي، ولم يكررها.

ما قصدته من هذه القصة، هو ما كنت أقوله لطلابي، إن الصحفي أشبه بطبيب إسعاف، لايمكنه التمييز بين المرضى بناء على انتماءاتهم أو جنسياتهم أو حتى سجلهم الإجرامي. لا يمكن لأحد أن ينتقدك على إجراء مقابلة مع زعيم لتنظيم القاعدة أو رئيس دولة مسالمة أو معتدية، أو جانٍ أو مجنيٍّ عليه.

مهمتك كصحفي أن تسأل كل الأسئلة التي يريد جمهورك معرفة إجابتها ويحاول الضيف التهرب منها، وأن تسمح للشخص بأن يكمل حديثه وأن تتصرف بمهنية. أما المقابلات التي أرفضها وأحذر منها، إلى جانب المجاملات والدعاية، مقابلات الرهائن والسجناء الغير مضمون رضاهم والذين يخشون نتيجة صراحتهم في الرد. وهنا لا يختلف الأمر بين مقابلة رئيس وزراء لبناني محتجز في فندق بالسعودية أو أسير إسرائيلي، أو معتقل فلسطيني. تلك مقابلات غير مهنية طالما وقعت بينما الضيف رهينة سجّانه.

حتى على المستوى المهني، أعلنت منذ شهور توقفي عن الظهور كمحلل سياسي ومعلق على الأخبار بقناة دويتشه فيله العربية، بعدما فصلت خمسةً من مراسليها دون وجه حق بدعوى أنهم كتبوا آراءهم ضد الاحتلال الإسرائيلي في صفحاتهم على السوشيال ميديا.

ورغم أن القناة كانت من المنافذ القليلة التي تستضيفني وبمكافأة معقولة، وبعد مقاطعة كل الإعلام العربي السعودي والقطري والمصري لي لاستقلاليتي، لم أتردد في اتخاذ القرار، مثلما لم أتردد قبل خمس سنوات في التوقف عن كتابة مقال أسبوعي بموقع قناة الحرة، لأنهم رفضوا نشر مقالي عن انتقاد الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب وشبهته بالمستبدين العرب.

لن أستغرب لو انتقدتني قنوات الميادين أو العالم لمقابلة مسؤول إسرائيلي، لكنَّ انفصام الشخصية يأتي من رؤية القائمين على الإعلام في مصر وهم عسكريون وليسوا مدنيين. أقصد الموجِّه، بكسر الجيم، وليس الببغاء الموجَّه، بفتحها.

هذا الانفصام في المزايدة على أي حوار مع إسرائيلي، لا يقتصر على الإعلام الذي يعرف العالم كله من المسؤول عنه، ويمكن للدول "الصديقة" أن تحاسب مرؤوسي الضابط لو انتقدها مباشرة في برامجه، بل يستغل الضابط بعض المواقع وبرامج يوتيوب التي ينتجها جهازه ولا يضع اسمه عليها، وإن كان يضع توقيعه في نهايتها مثل عبارة "تحيا مصر" في برنامج Summary، فتجده لايذكر اسم إسرائيل أو دولة إسرائيل بل يصفها بـ"الكيان الصهيوني". 

هل يعتقد ضباط إدارة الإعلام المصري، المعلن وغير المعلن، المصري بـ"الرعاة" في التمويل، والإماراتي التمويل، أن الجمهور لا يعرف مَن يسميه الإسرائيليون بـ "الكنز الاستراتيجي" وأقوى حليفين لهم في المنطقة، مصر والإمارات، منذ فشل السادات في دفع المؤسسات المصرية للتطبيع بعد توقيعه معاهدة السلام؟

المفارقة، أنه في هذا الأسبوع المنصرم نفسه، صدر كتاب مذكرات البيت الأبيض لجاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب. ونقل عنه الإعلام الإسرائيلي والأمريكي، موقع CNN بالعربية، فقرة تتعلق بالرئيس المصري وإسرائيل لم ينقلها الإعلام المصري أو المزايدون فيه على "الكيان الصهيوني".

يروي كوشنر كيف أنه قبل شهر من تولي ترامب الرئاسة، وهو ما زال في نيويورك لم يتولَّ بعد منصب مستشار الرئيس للشرق الأوسط، كان يتعشى مع ابنته في مطعم بيتزا، عندما اتصل به السفير الإسرائيلي رون دريمر ليبلغه أن المجموعة العربية في الأمم المتحدة، من خلال مندوب مصر في مجلس الأمن آنذاك، السفير عمرو أبو العطا، قدّمت مشروع قرار دولي لإدانة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية باعتبارها غير شرعية (ردًا على قرار الكنيست لإعطائها شرعية).

وأبلغه السفير الاسرائيلي أن إدارة أوباما التي لم تترك البيت الأبيض بعد، قررت عدم استخدام حق الفيتو في المجلس، انتقامًا من انتقاد نتنياهو في الكونجرس الأمريكي للاتفاق النووي مع إيران.

في كتابه، يحكي كوشنر أنه تواصل مع فريق ترامب للتواصل مع الجالية اليهودية وأنصار إسرائيل، وهما ديفيد فريدمان وجيسون جرينبلات مهندسا الاتفاق الإبراهيمي لاحقًا مع الإمارات، لمحاولة حشد المعارضين والتدخل من الرئيس المنتخب ترامب رغم عدم وجود صلاحيات له بعد في مخالفة للتقاليد المتبعة تجاه احترام الرئيس الموجود ولو في أيامه الأخيرة.

وغرد ترامب على تويتر عن المشروع العربي الذي قدمته مصر لصالح الفلسطينيين "لن يتحقق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا من خلال المفاوضات المباشرة بين الطرفين وليس من خلال فرض شروط من قبل الأمم المتحدة. هذا يضع إسرائيل في موقف تفاوض سيئ للغاية وهو غير عادل لجميع الإسرائيليين".

ويهلل كوشنر لتأثير مافعله ترامب، إذ يقول في كتابه، ووفق ترجمة موقع CNN بالعربية "في اليوم التالي، اتصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإبلاغنا أن فريقه لم يكن يعمل تحت إشرافه وأن مصر ستلغي القرار".

ويختتم الموقع الأمريكي، الموجود في دبي، الخبر بـ "وتواصلت CNN بالعربية مع السلطات المصرية للتعليق على ما ذكره كوشنر دون رد حتى كتابة هذا التقرير".

لو عدنا للكتاب سنجد أن كوشنر يعرب عن غضبه من إدارة أوباما التي نجحت في تمرير القرار ضد إسرائيل رغم تغير الموقف المصري ورغم 48 ساعة اتصالات من ترامب وفريقه بالعالم كله لمنع تمرير القرار، لكن نتيجة التصويت كان بموافقة 14 وبدون معارضة واحدة، وامتناع دولة واحدة من الـ 15 الأعضاء عن التصويت، وهي الولايات المتحدة.

ما حدث وقتها أن مصر بالفعل سحبت المشروع بعد ساعات من تقديمه يوم الأربعاء 16 ديسمبر/كانون الأول 2016 نتيجة اتصال ترامب بالرئيس المصري، ووقتها كانت مصر هي ممثل المجموعة العربية في مجلس الأمن.

لكن أربع دول غير عربية، وهي نيوزيلاندا وفنزويلا وماليزيا والسنغال أنقذت الموقف، فأعطت مصر مهلة حتى منتصف الخميس، إن لم تتقدم بمشروع القرار الذي وزعته ثم تراجعت وطلبت تأجيل التصويت عليه فسوف تقدمه تلك الدول معًا للتصويت.

ومر الوقت دون أن تقدمه مصر فتبنته الدول الأربع غير العربية، ولعدم اعتراض أمريكا عليه أو أي من دول حق الفيتو اضطر الجميع لتأييده بما فيهم مصر.

تكرر تغير الموقف المصري تجاه إسرائيل بشكل مختلف في المؤتمر السنوي للوكالة الدولية للطاقة الذرية في سبتمبر/ أيلول 2017 إذ يروي الصحفي الإسرائيلي المخضرم يوسي ميلمن أنه خلافًا للعقود السابقة توقفت مصر عن حشد التصويت السنوي ضد رفض انضمام إسرائيل لاتفاق نزع السلاح النووي من الشرق الأوسط ورفض التفتيش الدولي على مفاعلاتها. ولم تعد إسرائيل تحتاج حتى للفيتو الأمريكي لحمايتها في التجمعات الإقليمية.

الأمثلة كثيرة، ومن حق صانع القرار المصري أن يفعل ما يراه من مصلحة بلده منفردًا، بغض النظر عن حديث الشرعية الدولية أو المسؤولية التاريخية على الجيوش العربية التي كانت الأراضي الفلسطينية تحت وصايتها وانتدابها من الأمم المتحدة حين جرى احتلالها.

لكن المشكلة في أن ضابط الجهاز المعني بالعلاقات مع إسرائيل والقائم على الإعلام المصري يسمح بتوجيه أذرعه للمزايدة وتخوين أي صحفي يجري مقابلة مع مسؤول إسرائيلي. 

تظهر مشكلة "الانفصام" بشكل أوضح، في اللغة المستخدمة بقنوات موجهة غير رسمية مثل المثال سالف الذكر لبرنامج Summary الذي أتابعه على يوتيوب، ويقدمه شاب مصري، وهو يقدم معلومات ومادة جيدة، مطلوب ألا تُنسب لجهة رسمية، وهو أمر مفهوم. لكن حين يأتي في البرنامج ذكر إسرائيل، يصفها المذيع، في البرنامج الموجه أو المُكلّف، بتعبير "الكيان الصهيوني" وكأنه ضابط ملتح من قيادات حزب الله أو "الجهاد الإسلامي".

يا سادة، تصالحوا مع أنفسكم وشعوبكم، ولا داعي للمزايدة والتخوين في إعلامكم. فبيوتكم من زجاج، يراكم من خلالها العالم كله وتحجبونها أنتم عن شعبكم. ورغم ذلك الانفصام، تحرضون صبيتكم على إلقاء الحجارة على وطنيين مهنيين ليس لديهم ما يخفونه.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.