تصميم: أحمد بلال - المنصة

حتى يهوي الجبلُ الأخير

منشور الجمعة 11 نوفمبر 2022

"مقتل رجل واحد هو مأساة. بينما مقتل الملايين، إحصائية." جوزيف ستالين

***

سرت رعشة بطول عمودي الفقري، وشددت قبضتيّ حتى ابيضتا، لكني أبقيت عيني محدقتين في الفراغ لا تتزعزعان.

امتدت يد المخبر بين ساقيَّ تلمس وتضغط، بينما أشعر بطعم القيء يهدد بالاندفاع. سحبت نفسًا، فتوغل المخبر أكثر، منتهكًا، منتشيًا.

يعلم كلانا أن التفتيش يكترث قليلًا للممنوعات وكثيرًا لإيصال رسالة إخضاع: نحن نمتلكك.

أُرسَلت هذه الرسالة منذ اليوم الأول لتستمر في رحلتي لست سنوات في السجون المصرية: خصلات الشعر المتساقطة على الأرض مع كل حلاقة رأس قسرية، تجريدنا من الثياب كل حفلة استقبال للسياط والأحذية التي تكسر أضلعنا وجماجمنا، اصطدام باب الزنزانة بالحائط في السادسة صباحًا لتفتيش وحشي مع طوفان من اللعنات والدمار لتنهار الزنزانة على رؤوسنا.

في كتابه Between the World and Me، يناقش تا-ناهيسي كوتس قضايا العرق والفصل العنصري والسلطة في الولايات المتحدة على أنها -الآن ومنذ الأبد- تتمحور حول حق الاستيلاء على الجسد الأسمر وتحطيمه:

"وهذا الحق دومًا ما أعطى وجودهم معنى، دومًا ما تطلب أن يكون هناك شخص ما في الوادي، لأن الجبل لا يكون جبلًا بلا شيء أسفل منه".

أكمل المخبر تفتيشه واستمرت نظراتي تحفر في الحائط ثقوبًا. سجين سياسي يبلغ من العمر 17 سنة، كان أكبر فعل مقاومة أملكه وقتها هي ألا أعطيهم لذة الانفعال. مع مرور السنين وتضاؤل ما يوجد لأخسره، اتخذ النضال أشكالًا أكثر تصادمية؛ وكان جسدي ساحة المعركة.

***

"أنت تحت جزمتي".

سبَّة مصرية عريقة تجمع الاحتقار والغرور والإخضاع؛ تنطلق دومًا من أفواه المرضى بجنون عظمةٍ عصيٍّ على الشفاء.

هي أيضًا ما زعقه ضابط الشرطة في وجه أحمد دومة وهو يبرح جسده المقيد ركلًا.

وقف أحمد دومة، السجين السياسي، مدافعًا عن زميله الباحث أحمد سمير سنطاوي بعدما رفضت إدارة السجن نقل اﻷخير إلى العيادة جراء أزمة تنفس حادة.

كان ممكنًا أن يمر الموقف. كان ممكنًا أن يسمحوا له بالعودة إلى زنزانته. لم يكونوا مضطرين إلى تقييد يديه وقدميه ونقله إلى مكتب رئيس المباحث ليلطخ جسده بدرجات البنفسجي والأحمر في لوحة ذابت كدماتها سويًا.

لكن إن كنت تعرف ضباط الشرطة، إن كنت تعرفهم عن قرب، فأنت لا بد تدرك حتمية تلك النتيجة إن قررت المقاومة. الحق في كسر الأجساد يشكل قيمتهم ومعنى وجودهم. وفي مصر، لا تُكسر الأجساد السمراء فحسب، بل بمختلف ألوانها على قدم سواء.

لقد هددتَ ملكيتهم لجسدك، والآن يجب عليهم استعادته بأكثر الطرق وحشية.

***

انهالت طرقاتي ترج الباب الفولاذي؛ دوَّت لعناتي من خلال قضبان فتحة الباب الصغيرة، تسب الحراس والضباط والكون. فاض الغضب إلى قبضتيَّ المكدومتين وأحبالي الصوتية المهترئة. عندما وصل الحارس أخيرًا لفتح الباب، أسرعت للخارج وهويت إلى الأرض مربعًا ساقي أمام الزنزانة.

"مش داخل لحد ما الملازم تخشلي".

تبدأ امتحاناتي النهائية في غضون أسبوعين، لكن مكتب أمن الدولة قرر حجز حقيبة المواد الدراسية التي أحضرتها عائلتي في الزيارة الأخيرة ككل مرة. بصق الحارس أقذع الألفاظ النابية والتهديدات، لكنني لم أتزحزح. اكتسبت خلال ست سنوات خبرة بسياسة عالم السجن الداخلية: إذا أبلغ الحارس مخبر العنبر، فسيُلام على السماح لي بمغادرة الزنزانة.

إذا أوصل مخبر العنبر خبر جلوسي في الطرقة إلى الضابط، سيتم توبيخه لفقدانه السيطرة على عنبره. سلسلة سُلطة مسممة تعلَّمْنا التلاعب بها حتى نصل لمرادنا أحيانًا. سيصرخ الحارس قليلًا على أمل إرهابي ثم يهدأ، يغيِّر الاستراتيجية، يحاول التفاوض لعله يتمكن على الأقل من تأمين مقابل للتصعيد.

سيقوم مخبر العنبر بالشيء نفسه قبل إبلاغ الضابط، وسيغفل ذِكر السباب وهز الباب ومعلومة اعتصامي في الممر، حتى يظن الضابط أنه أبلغه من نفسه بمجرد طلبي، لكن المخبر سيتوقع تعويضًا هو الآخر. عليك أن تنتظر تلك اللحظة المناسبة لتكبح التمرد وتبدأ التفاوض.

لهذا تطل علبتا سجائر ماركة LM من جيبي، تميلان بزاوية إغراء مقصودة يعلم من في السجن معناها.

بعد نصف ساعة، مددت الخطى إلى زنزانتي، يتأرجح بجانبي كيسان بلاستيكيان تملؤهما المحاضرات والمَلازم، يرافقني الحارس والمخبر وفي الجيب الأيمن ببنطال كل منهما مستطيلان منتفخان لم يكونا هناك منذ قليل.

أتساءل كما أفعل في كل مرة: لماذا؟

ما الذي يجنونه؟ لماذا علينا أن نحارب بهذه الضراوة لحق بسيط كالتمرين في ساعة التريض؟ لماذا يحظرون الكتب كأن حياتهم تتوقف على ذلك؟ لماذا يمنعون الطعام الصحي والفيتامينات وينحونها جانبًا من حقائب الزيارة، زاعمين أنها "رفاهيات"؟

لم تكن أبدًا المهمة هي الكسر وحسب، بل الامتلاك. إذا حاولت الحفاظ على جسدك، سنحطمه. إن حاولت أن تؤذيه، سنبذل قصارى الجهد لتظل على قيد الحياة

مرارًا وتكرارًا، يأخذني كل فعل قمع عبثي إلى نفس الفكرة؛ قهر الجسد والسيطرة عليه. كل محاولات تقويمه أو تغذيته، ولو حتى مجرد عقليًا، يجب أن تُقمع بكل عنف. كل معركة خلف الجدران فحواها صراعٌ بيننا وبينهم من أجل السيطرة على أجسادنا.

وبدون تلك القبضة الفولاذية، بدون أخذ كل ثانية ممكنة لغرس نفس المعنى أعمق وأعمق، فإن معنى وجودهم يتلاشى. فهم لا يتحركون مدفوعين بأي حوافز منطقية، إنما يقف جوهر كينونتهم على المحك.

لأن الجبل لا يكون جبلًا بلا شيء أسفل منه.

***

جاوز إضراب علاء عبد الفتاح عن الطعاميومه المائتين، ولا يبدو مقاربًا على الانتهاء. يُجَوِّع الناشط المصري/ البريطاني علاء عبد الفتاح، نفسه بعد استنفاد الخيارات الأخرى للمطالبة بالزيارات القنصلية والحقوق الأساسية.

يشهد العالم هذا النضال المميت من أجل الحرية، لكن الدولة لا تتزحزح.

لطالما تصورت الإضراب عن الطعام في السجن كضرب من ضروب فقدان الأمل، طريق سريع للموت. يتوقف السجين عن تناول الطعام والشراب لأنه لا يستطيع التحمل أكثر من ذلك؛ يريد أن ينتهي كل شيء. لذلك، يفجر هذا السخط الأخير كمحاولة يائسة أو رسالة وداع.

لم أستوعب الحقيقة إلا عندما اختبرت ديناميكيات القوة داخل السجن بنفسي: يُضرب السجناء عن الطعام ليس لعجزهم عن المقاومة، لكن عندما لا تعود المقاومة صالحة من خلال الحماية والنجاة، يصبح الفعل الوحيد المتبقي لاستعادة جسدك هو تدميره.

يمكنك أن تحرمني من كل شيء: أسرتي، كتبي، تحريك أطرافي، أشعة الشمس، الرعاية الطبية، شعري، الطعام المطهو، الهواء النقي، وكل شيء بينهم. يمكنك تقييد جسدي واحتوائه في صندوق لا يسمح لساقي أن تتمدد ولا ظهري أن يفترش الأرض.

لكن لا يمكنك منعي من كسره.

من العجيب كيف يصيب الإضراب عن الطعام السجانين والقامعين بلوثة جنون، بينما يحسب المرء أن الهدف مشتركٌ أخيرًا: تدمير جسد السجين.

لكن لا، عندما تخرب جسمك فإنك تحقق العكس؛ تأخذ الشيء الوحيد الذي تنبع منه قيمتهم منه وتجعله ملكك.

أثناء مشاهدتي للفيلم الوثائقي الذي يروي قصص الإضرابات عن الطعام في خليج جوانتانامو من قِبل السجناء الذين صدرت أوامر إطلاق سراحهم لسنوات ولم تنفذ، تعجبت من رد فعل إدارة السجن: مشهد مروع دس فيه الحراس بالقوة أنابيب في أنوف المضربين عن الطعام، ومدوها وصولًا إلى بطونهم، ثم ضخوا الطعام السائل.

لم تكن أبدًا المهمة هي الكسر وحسب، بل الامتلاك. إذا حاولت الحفاظ على جسدك، سنحطمه. إن حاولت أن تؤذيه، سنبذل قصارى الجهد لتظل على قيد الحياة.

صراع عبثي لا ينتهي ما دام الطغاة يجوبون الأرض.

***

مددت ساقيَّ وتمطيت في انتشاء. تراقصت على جفني نقاط بيضاء كبراعم زهور، أتنهد مغلقًا عيني مع استرخاء الأوتار والعضلات. امتدت الأشجار أمامي عبر نافذة الطابق الثالث بمكتبة هيلمان، ضربات فرشاة بألوان الزمرد والصنوبر والزيتون، تعانق السحاب السابح في الأفق.

منذ وصولي إلى مدينة بيتسبرج بولاية بنسلفانيا لبدء ماجستير الكتابة الإبداعية، كان كل يوم استكشافًا مذهلًا للساحر وغير المألوف. أسحب نفسًا عميقًا؛ أهز رأسي مع الهواء الطلق الذي يدغدغ فتحتي أنفي، يرمح بطول قصبتي الهوائية، يحتضن رئتيّ ويدور كصوفيّ ممسوس.

أخيرًا، جسدي صار ملكي.

لكن، أصار كذلك بالفعل؟

تنبض وخزة في أحشائي لم تتعافَ بعد. فجوة مكان قطعة الروح التي تطفو مع رفاقي الذين لم تبرح أجسادهم تنتهك وتُكسر كل يوم حتى الآن؛ ساحة معركة جماعية موسومة بشتى الجروح والندوب.

منذ أسابيع، جلست في منظمة City of Asylum أستمع إلى مناقشة الكتاب الرائعة للكاتبة إلين كاستيليو. ألقت مقولة رن صداها في قلبي فتربعت داخله: إن التذكر هو فعل التئام.

لن يتم الالتئام دون فهم المعركة والطرق الملتوية التي تعمل بها عقول القامعين، وتذكر تفاصيلها بلا كلل، دون تخليد القصص وروايتها للعالم أجمع ليشاركنا، لا بهزات الرأس الحزينة والمشاهدة كأننا عرض درامي بائس؛ لكن بالتحالف العمدي الذي يعي جيدًا حقيقة أن تحطيم جسم واحد هو مأساة، وتحطيم مليون جسد هو مليون مأساة؛ ولن يكون يومًا مجرد إحصائية.

تبقى هذه الطريقة الوحيدة لتحرير الجسد الكبير الذي يتقاسم القيم العابرة للحدود. للسماح للمحطمة أجسادُهُم أن يتعافوا ولو بعد حين، لتكريم جميع الأجساد المكبلة خلف القضبان؛ تلك التي فقدناها مثل شادي حبش، وهذه التي ما زالت تكافح مثل علاء ودومة وأقرب أصدقائي، أيمن موسى؛ وتلك التي تحررت ولكن تقف حتى اليوم مشدوهة، لا تدري كيف تلصق الشظايا وتلم شمل الأجزاء الممزقة.

سيستمر النضال حتى لا يبقى أحدٌ تحت حذاءٍ، ولا تمتد يدٌ لتنتهك، ويُفرَجَ عن كل الأجساد، ويهويَ الجبل الأخير.

سيستمر النضال حتى لا يبقى أحدٌ بالأسفل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.