فليكر برخصة المشاع الإبداعي
من لقاء سابق في 2013 ببكين بين رئيس الوزراء الصيني وجو بايدن نائب الرئيس أوباما في ذلك الوقت

ما تحتاجه أمريكا لمنافسة الصين

منشور الأربعاء 14 ديسمبر 2022 - آخر تحديث الثلاثاء 20 ديسمبر 2022

المنافسة لا تتوقف على بلد واحد، أو حدث بعينه سواء كان القمة الأمريكية - الإفريقية التي بدأت في واشنطن هذا الأسبوع، أو الصينية - الخليجية العربية التي انعقدت في الرياض الأسبوع الماضي.

وهي منافسة على الزعامة والسيطرة العالمية باتساع رقعة الشطرنج الممتدة من حدود الصين وسط آسيا مرورًا بالخليج العربي والشرق الأوسط وحتى القارة الإفريقية وحدودها البحرية مع أوروبا. وهو ما أصبحنا نعرفه بخط طريق الحرير الجديد، الذي بدأه الرئيس الصيني شي جينبنج منذ عام 2013 باسم مبادرة الحزام والطريق.

يُفضِل الديمقراطيون في أمريكا تسميتها "منافسة" يقدم كل بائع فيها ما لديه من إغراءات ويترك للزبائن الاختيار دون تهديد أو وعيد، بينما يريدها الجمهوريون "صراعًا" وحربًا باردة، لا خيارات فيها ولا إمساك بالعصا من النصف. أي، إما أن تكون معنا أو علينا لو اخترت الصين.

في العام التالي لإعلان الرئيس الصيني مبادرة الحزام والطريق، دعا الرئيس الديمقراطي باراك أوباما كل زعماء الدول الإفريقية الأعضاء في الاتحاد الإفريقي لقمة في واشنطن، خلال الأسبوع الأول من أغسطس/آب 2014. وهو ما لم يكرره أحد لثماني سنوات، حتى دعا الديمقراطي جو بايدن في يوليو/ أيلول الماضي لهذه القمة الثانية المنعقدة بواشنطن. وأشرك بايدن معه نائبته كامالا هاريس مثلما أشركه أوباما في القمة السابقة حين كان بايدن نائبه.

لم يتغير معيار الدعوة للقمة الإفريقية في الحالتين: العضوية العاملة في الاتحاد الإفريقي، مع وجود تمثيل دبلوماسي على مستوى السفراء في واشنطن للدول الأعضاء.

وكانت عضوية مصر موقوفة من الاتحاد الإفريقي الذي جمّدها منذ يوليو 2013 عقب الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، باعتبار ذلك انقلابًا عسكريًا، لكنها استعادتها بمجرد تنفيذ اثنين من الشروط الثلاثة لاستعادة العضوية، وهي الالتزام بدستور حتى ولو كان جديدًا، وعقد انتخابات رئاسية حرة، وتحديد موعد لانتخابات برلمانية، فوجهت إليها واشنطن دعوة متأخرة في يوليو لحضور القمة في أول أغسطس 2014، وشارك فيها رئيس الوزراء آنذاك إبراهيم محلب.

وللسبب نفسه لم تدع واشنطن خمسة دول إفريقية للقمة الحالية، فبالإضافة إلى إريتيريا التي قطعت العلاقات الدبلوماسية معها، فإنها لم تدع السودان، وبوركينا فاسو، ومالي، وغينيا، لتجميد الاتحاد الإفريقي عضويتها بسبب انقلاباتها الحديثة التي لم ترتب أوضاعها بعد بانتخابات لمعاودة النشاط، وهي دول تحتفظ الولايات المتحدة، التي اكتفت بإدانة الإنقلابات فيها، بعلاقات دبلوماسية معها.

بين الديمقراطية والديكتاتورية

لم يجد الرئيس الجمهوري ترامب، الذي صعد من وتيرة الصراع مع الصين (الصفراء حسب وصفه)، واستخدم ضدها لغة عنصرية وحملها مسؤولية تفشي وباء كورونا، في كل إفريقيا أي مصلحة تدعوه لعقد قمة مع زعمائها أو دعوتهم لواشنطن.

السبب المعلن لذلك هو عدم استعداده تقديم أي مساعدات بلا مقابل ملموس. بينما السبب العنصري غير المعلن تمثل في وصفه إفريقيا بأكملها ببلاعة أو حفرة قاذورات "Shit hole"، في الوقت الذي لم ير ترامب، صديق المستبدين، في روسيا بوتين (البيضاء) أي عدو أو خطر استراتيجي.

يتباين ذلك مع موقف إدارة بايدن التي وجدت في روسيا الخطر المباشر الأول عسكريًا للتفرغ للخطر الثاني، وهو القوى العظمى الصاعدة للصين اقتصاديا أولًا، ثم عسكريًا لاحقًا.

قوة الإغراء الصيني تسيطر على حكومات منطقة الحزام والطريق من وسط آسيا والخليج حتى إفريقيا، فأغلبية حكومات تلك الدول غير ديمقراطية شأنها شأن الصين، وبالتالي لا توجد مزايدات حزبية أو برلمانية لدى صانع القرار الصيني لعقد صفقات وتقديم قروض ميسرة، وليس مساعدات، وبالتالي أيضًا لا يتدخل أي طرف في كيفية تعامل الآخر مع محكوميه. كما أن بقاء الرئيس الصيني لفترة ثالثة يعزز الاستقرار إلى جانب الالتزام بفلسفة وخطط الحزب الواحد.

بينما على الجانب الأمريكي الأمر أصعب كثيرًا، خصوصًا للرئيسين الديمقراطيين بايدن ومن قبله أوباما لاعتمادهما على جناح تقدمي داخل الحزب منزعج من غياب الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان فيمن تتعامل معهم واشنطن. بالتالي يتطلب الأمر أحيانًا اللعب على الحبال بين المصالح الاستراتيجية والاعتبارات الحزبية لناخبين يمكن كل عامين أن يُفسدوا أي صفقة بتغيير أغلبية الحزب في الكونجرس إلى جانب فرصة تغيير الرئيس كل أربع سنوات.

لم يحتج الرئيس الجمهوري السابق ترامب لإفريقيا ولا حتى لأوروبا، بل انسحب من كل اتفاق أو تجمع دخله أوباما، وكاد ينسحب من حلف الأطلسي لو رفض الأوروبيون دفع تكاليف الحلف مع أمريكا.

تصرف ترامب كرجل أعمال يملك شركة تسعى للربح فقط، وفضل التعامل مع مديري الشركات الأثرياء الذين لا يحتاجون العودة إلى برلمان أو حزب لمشاورته، وبالتالي عقد الكثير من الصفقات مع السعودية والخليج، ولم يأبه بوساطة الاتحاد الإفريقي في نزاع مصر مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، فكان أقرب للموقف المصري، بل وأعرب عن استغرابه مرة: لم لا تهدم مصر هذا السد.

كان ترامب يتفاخر بحبه للمستبدين لقدرتهم على عقد صفقات، ولو من أجل إسرائيل، كما فعل مع السودان والمغرب بتقديم أي ثمن يريدونه.

درس المصلحة

عاملان جعلا إدارة الديمقراطي بايدن تعود إلى تغليب البراجماتية والمصلحة المباشرة على شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي يرفعها الجناح التقدمي بين الناخبين.

الأول، سياسي داخلي يتعلق بالقوة المؤثرة لجماعتي ضغط: هي اللوبي الإسرائيلي الذي نشأ بايدن وجيله المخضرم على مراعاته وخطب وده. وكذلك، لوبي السلاح وشركاته المتصلة بوزارة الدفاع.

الثاني، حرب روسيا على أوكرانيا التي أيقظت الإدارة الأمريكية على نمط تصويت العديد من الدول الإفريقية والعربية (في البداية) لصالح روسيا أو الامتناع عن التصويت، سواء لإهمال واشنطن حتى في عهد ترامب لإفريقيا وتركها للسلاح الروسي والاقتصاد الصيني، أو لضيق البعض كالسعودية ومصر والإمارات ببرود البيت الأبيض في عهد بايدن تجاههم بل ومحاولة محاسبة حكامهم.

استوعبت إدارة بايدن الدرس في النصف الثاني من فترته الرئاسية الأولى، التي ربما تكون الأخيرة، مثلما استوعبها أوباما في فترته الرئاسية الثانية بإنزال رايات الحريات والتغيير السياسي والتركيز على المصلحة، خصوصًا إذا كانت هناك حرب لا يعلو صوت فوقها، سواء الحرب ضد الإرهاب وقت أوباما أو ضد روسيا في أوكرانيا حاليًا.

من هنا أدركت إدارة أوباما حكمة وضرورة إرضاء المستبدين طالما اقتصر على شعوبهم، وما أكثرهم في الخليج والقارة الإفريقية. وبالتالي، سارع بايدن إلى القمة الخليجية والعربية في جدة الصيف الماضي، مبتلعًا مقاطعته السعودية، كما حضر قمة المناخ في شرم الشيخ. ولحقه الرئيس الصيني إلى الرياض ليؤمن احتياجات الصين من النفط عبر خطوط لا يمكن للأمريكيين اعتراضها حال وقوع صدام.

وعود الحرب الباردة

في حين تَعد إدارة بايدن القارة الإفريقية بدولها الخمسين بمعونات ومنح بخمسة وخمسين مليار دولار موزعة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وبافتراض أن الجمهوريين الذين سيتحكمون في الإنفاق بمجلس النواب بعد أسبوعين سيسمحون بذلك، فإن الميزانية التي رصدتها الصين حتى عام 2027 من مشروعات لطرق ومواني لطريق الحرير الجديد لتوصيل بضائعها إلى أوروبا، واستثمار المواد الخام لتكنولوجيا المواصلات والاتصالات مثل الكوبالت والليثيوم في إفريقيا؛ تصل تلك إلى نحو تريليون وربع التريليون مليون دولار، أي ألف مليار وأكثر من مائتي مليار دولار.

لكن الفارق، أن امريكا ستقدم في الغالب مساعدات ومنح اقتصادية في مجالات الصحة والأمن وتشجيع التجارة. ويشمل ذلك تجديد اتفاق التجارة الحرة بين أفريقيا وأمريكا، الموقع منذ السنة الأخيرة للديمقراطي بيل كلينتون وينتهي عام 2025، ثم مساندة طلب الاتحاد الإفريقي للعضوية الدائمة بمجموعة الدول العشرين، أسوة بالاتحاد الأوروبي، وهي تضم بالفعل دولة جنوب إفريقيا، مثلما تضم السعودية.

مشكلة ديون بعض الدول التي أقامت بها الصين العديد من مشروعات الطرق والكباري والمواني، وبها نظم ديمقراطية، مثل ماليزيا وإندونيسيا، أنه بمراجعة تلك المشروعات التي أغرت بها الصين الحكومات لتخفيض سعر الفائدة وجعلها قروضا ميسرة، أن تكلفتها مبالغ فيها حين تحتكر الشركات الصينية إقامتها. بالتالي تتراكم الديون على بعض تلك الحكومات وتصبح أكثر تبعية اقتصاديا للصين وعملتها اليوان.

رغم ذلك، لا تملك واشنطن في القمة الإفريقية سوى الوعود بمساندة بعض الدول المَدينة لدى صندوق النقد الدولي، وتقديم مساعدات لا تشبع ولا تغني من جوع، بافتراض أن الجمهوريين سيوافقون عليها دون اشتراط التبعية في لعبة الحرب الباردة مع الصين. وهي الحرب التي لا يجعلها باردة في الوصف، سوى المقارنة بحرب الأمريكيين غير المباشرة ضد الروس على أراضي أوكرانيا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.