تفاصيل من ورقة فئة الخمسة دولارات. الصورة مفتوحة المصدر: لازلو إيليس- فليكر

الدولار في النازل.. فعلًا؟

منشور الثلاثاء 26 مارس 2019

إشادات يومية بآداء الاقتصاد المصري استنادًا إلى ارتفاع سعر صرف الجنيه في مقابل الدولار لمستويات غير مسبوقة منذ تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016.

مجموعات من المحللين الماليين والمسؤولين الحكوميين تُرجع ذلك الارتفاع لقيمة الجنيه المصري إلى عدة أسباب؛ أهمها زيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر واستعادة السياحة لعافيتها نسبيًا، وارتفاع تحويلات المصريين في الخارج من خلال القنوات المصرفية الرسمية.

وأنا في الحقيقة أود تصديق تلك الرواية لأنها، إن صحت، فهي دلالة على وجود مؤشرات إيجابية للاقتصاد المصري وهو ما ننشده جميعًا بكل تأكيد، ولكنني في الوقت نفسه أجد أمامي العديد من الدلالات التي تذهب إلى الإتجاه المقابل الذي لا يدعو إلى كل هذا الكم من التفاؤل المُفرط، وهو ما تحقق بالفعل عندما عاود الجنيه الانخفاض مجددًا عدة قروش أمام الدولار خلال الـ 48 ساعة الماضية.

هذه النظرة المتوازنة مهمة حتى لا ننجرف إلى أفعال لا تحمد عقباها من قرارات استثمارية خاطئة، خاصة التي يُقدم عليها عادة صغار المستثمرين مثل التصرف السريع في المدخرات بالعملة الأجنبية. وهذه مجموعة من الحقائق المعلنة التي تدعم وجهة النظر القائلة بأهمية كبح التفاؤل المفرط:

  • انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر الزعم بأن هناك زيادة ملحوظة في الاستثمار الأجنبي المباشر، في حين أنه لا يوجد من واقع الأرقام والحقائق ما يدعمه. هذا الإدعاء مبني على أرقام مغلوطة توحي بوجود تحسن، بينما العكس هو ما يحدث فعليًا. صحيح أن مبلغ 7.7 مليار دولار كصافي للاستثمار الأجنبي المباشر في العام المالي 2017/2018 (1)، الذي لا تكُف الحكومة عن التباهي به ليل نهار، هو ليس رقمًا سيئًا في المُطلق ولكنه يقل عن مثيله في العام المالي 2016/2017 حيث كان قد بلغ 7.9 مليار دولار (2). كما تبدو الصورة أيضًا أكثر قتامة عندما نعلم أن صافي الاستثمار الأجنبي تراجع مجددًا بنهاية الربع الأول من العام المالي 2018/2019 (من بداية يوليو 2018 إلى نهاية سبتمبر من العام ذاته) بمقدار حوالى 700 مليون دولار، انخفاضًا من 1.8 مليار دولار في الفترة المماثلة للسنة المالية 2017/2018 إلى 1.1 مليار دولار في الحالية (3).  
  • نقص الشفافية بسبب نقص الشفافية في توفير بيانات القطاع المصرفي المصري؛ لا توجد لدينا حتى هذه اللحظة أرقام الربع الثاني لهذا العام المالي رغم اقتراب انتهاء ربعه الثالث. إلا إنه ومن واقع خبرة السنوات العشر الماضية ليس من المُرجح أن تكون هناك تغيرات جذرية في نسب تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في الربع الثاني إلا بالنقص، حيث يتضمن فترة أعياد الميلاد ورأس السنة التي يخمل فيها نشاط المستثمرين الأجانب غير العرب.

لا أقول بالضرورة أن هناك كارثة وقعت للاقتصاد المصري في الفترة الأخيرة لأن جزء كبيرًا من هذا التراجع يأتي على خلفية أزمة الأسواق الناشئة عالميًا، وما تبع ذلك من تخارج كبار المستثمرين من أسواق أدوات الدين الحكومى بكثافة وهو ما حدث في مصر أيضًا (4)، ولكن من جانب آخر يُقلل هذا الوضع كثيرًا من مصداقية القول بأن زيادة حدثت في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر أدت إلى انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الجنيه.

  • ارتفاع دخل السياحة لا يصنع هذا الارتفاع  أما المبرر الثاني الذي يسوقه بعض المحللين والمسؤولين الحكوميين وهو ارتفاع تدفق العملة الأجنبية من خلال العودة النسبية للنشاط السياحي، فهو أيضًا يفتقد إلى الكثير من المنطق الاقتصادى رغم ارتفاع إيرادات مصر من السياحة بالفعل في الربع الأول للعام المالي 2018/2019 بنسبة جيدة للغاية وصلت إلى 45.7% (5) مقارنة بالفترة المماثلة للعام المالي 2017/2018. ولكن القيمة الفعلية لهذه الزيادة لا تتعدى 1.23 مليار دولار (من 2.7 مليار دولار إلى 3.930 مليار دولار) وهو مبلغ أقل بكثير من أن يؤثر بفاعلية في سوق الصرف، حتى لو افترضنا استمرار هذه الوتيرة أو حتى زيادتها بنسبة طفيفة في الربع الثاني وهو أمر مُحتمل بالطبع بالنظر إلى موسم أجازات أعياد الميلاد ورأس السنة، ولكن انعكاسها على سعر الصرف سيظل محدودًا في جميع الأحوال ومن الصعب أن يُفسر فقدان الدولار حوالي 60 قرشًا أمام الجنيه حتى لحظة كتابة هذه السطور.  
  • .. وكذلك الحال بالنسبة لتحويلات المصريين كما أن ارتفاع صافي تحويلات المصريين بالخارج في نفس الفترة من 5.8 مليار دولار إلى 5.9 مليار دولار، أى 1.41% أو 82 مليون دولار (6)، لم ينعكس على تقلص عجز ميزان المدفوعات في الإجمالي سوى بمبلغ صغير للغاية وهو 156.2 مليون دولار، ليظل العجز قائمًا عند 1.752 مليار دولار (7).

بعبارة أخرى: انخفض دخل مصر من النقد الأجنبي في الربع الأول من العام المالي 2018/2019 بمبلغ 521.1 مليون دولار ولم يرتفع كما تقول الحكومة.

من أين جاء الـ 15 مليار دولار؟ يبقى إذن السؤال المحوري: من أين جاء حوالي خمسة عشر إلى عشرين مليار دولار التى يُمكنها إحداث تغييرات حقيقية في سوق الصرف كالتي رأيناها مؤخرًا؟ الإجابة بسيطة وبديهية جدًا. في الحقيقة ضخّت الحكومة منذ بداية السنة المالية 2018/2019 وحتى الآن ما لايقل عن ما يوازي 300 مليار جنيه بالعملات الأجنبية المختلفة في الأسواق. هذه الأرقام تحصلت عليها الحكومة من تمويلات خارجية على صورة قروض من صندوق النقد النقد الدولي ودولتي ألمانيا وفرنسا تحديدًا، بالإضافة إلى إصدارات ضخمة من السندات الدولية (150 مليار جنيه تقريبًا من إجمالي التمويلات الخارجية البالغة 203 مليار جنيه في كامل السنة المالية)، وهو ما يوضحه البيان المالي التمهيدي لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2018/2019 الصادر عن البنك المركزي (8). بجانب هذه المبالغ، تأتي قُرابة 150 مليار جنيه أخرى في صورة سندات محلية (تُشترى معظمها من مستثمرين أجانب يقومون في سبيل ذلك بضخ ما بحوزتهم من عملات أجنبية) أصدرتها في شهر مارس 2019 فقط بخلاف ما صدر في الخمسة أشهر الأولى من السنة المالية الحالية (9).

  • ​انخفاض الاحتياطي ما يؤكد هذا التفسير، هو أنه وبالرغم من دخول كل هذه الأموال الدولارية إلى مصر؛ فقد انخفض الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزى بقيمة 453 مليون دولار، نزولًا من 44.513 مليار دولار فى نوفمبر 2018 (10) إلى 44.06 مليار دولار في فبراير 2019 (11).

ليس من المفترض، بالطبع، أن تدخل كافة المبالغ سابقة الذكر في الاحتياطي النقدي، حيث أن لتلك الأموال بنود صرف في الموازنة العامة، وليس من المفترض أيضًا أن تضخها الحكومة في السوق لدعم سعر الصرف بمثل هذه الطريقة.

  • ابحث عن زيادة الدين الخارجي عندما نضع فى الاعتبار أن الدين الخارجى المصرى البالغ الآن 93.131 مليار دولار (12) ذو جدول استحقاق قصير نسبيًا كما ورد بتقرير "فيتش سولوشنز"، الذراع البحثية لوكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني (13) وتحين آجال أقساط معظمها بصفة ربع أو نصف سنوية، سنجد أن مصر يجب أن تدفع 6.129 مليار دولار في النصف الأول من العام الحالى فقط (14)، وستدفع نصف هذا الرقم أي حوالي ثلاثة مليارات دولار قبل نهاية مارس الجاري.  
  • لماذا هذا الانخفاض مؤقت؟ هذا السبب قد يفسر جهود الحكومة خفض سعر الصرف قدر المستطاع من خلال بيع ما لديها من سيولة دولارية بسعر مرتفع، قبل أن تقوم بإعادة الشراء بالسعر المنخفض الجديد، وبذلك تكون أيضًا ربحت بالجنيه المصري من فوارق السعر. بعبارة أخرى: الحكومة في هذه اللحظة تلعب الدور الكلاسيكي لتاجر العملة الذي يخفض السعر مؤقتًا، قبل أن يرفعه مرة أخرى بمجرد إتمام سداد القسط المستحق في نهاية هذا الشهر.

    (1)   تصريحات محسن عادل، الرئيس التنفيذي لهيئة الاستثمار والمناطق الحرة لجريدة "الأهرام الاقتصادى" بتاريخ 14/1/2019 على الرابط: http://ik.ahram.org.eg/News/66008.aspx

(2)   موقع "مصراوى" بتاريخ 16/1/2019 على الرابط: https://www.masrawy.com/news/news_economy/details/2019/1/16/1497725/بعد-هبوط-40-بمصر-تقرير-تراجع-الاستثمار-الأجنبي-المباشر-ظاهرة-عالمية

(3)   نفس المصدر السابق.

(4)   نفس المصدر السابق.

(5)   موقع "مصراوى" بتاريخ 10/1/2019 على الرابط: https://www.masrawy.com/news/news_economy/details/2019/1/10/1494285/46-زيادة-في-إيرادات-مصر-من-السياحة-في-3-شهور

(6)   بيان صحفي بشأن أداء ميزان المدفوعات صادر عن البنك المركزى المصرى على الرابط: http://www.cbe.org.eg/ar/Pages/HighlightsPages/بيان-صحفى-بشأن-أداء-ميزان-المدفوعات-خلال--السنة-المالية-2017--2018.aspx

(7)   نفس المصدر السابق.

(8)   البيان المالى التمهيدى لمشروع الموازنة العامة للدولة الصادر عن البنك المركزى المصرى على الرابط: http://www.mof.gov.eg/MOFGallerySource/Arabic/budget2018-2019/Pre-Budget_2018-2019_12-April-2018.pdf

(9) موقع "مباشر" الاقتصادى المتخصص بتاريخ 3/3/2019 على الرابط: https://www.mubasher.info/news/3425222/مصر-تستهدف-إصدار-أدوات-دين-بـ146-25-مليار-جنيه-في-مارس

(10) موقع جريدة "اليوم السابع" بتاريخ 7 يناير 2019 على الرابط: https://www.youm7.com/story/2019/1/7/رغم-تراجع-الاحتياطى-الأجنبى-فى-ديسمبر-5-5-مليار-دولار/4096340

(11) موقع "دوت مصر" بتاريخ 4/3/2019 على الرابط: http://www.dotmsr.com/news/331/1294163/احتياطي-النقد-الأجنبي-يقفز-إلى-44-06-مليار-دولار-بنهاية

(12) وكالة "رويترز" بتاريخ 5/2/2019 على الرابط: https://ara.reuters.com/article/businessNews/idARAKCN1PU1WQ

(13) موقع جريدة "البورصة" بتاريخ 13/12/2018 على الرابط: https://alborsaanews.com/2018/12/13/1161228

(14) موقع "مصراوى" بتاريخ 23/1/2019 على الرابط: https://www.masrawy.com/news/news_economy/details/2019/1/23/1501466/-المركزي-مصر-تسدد-ديون-ا-خارجية-بقيمة-14-7-مليار-دولار-خلال-العام