الكاتب والروائي أحمد الفخراني. الصورة بإذن خاص للمنصة

أحمد الفخراني.. تعالَ أيها الخيال لتشرب الشاي في رأسي

منشور الثلاثاء 29 أكتوبر 2019

عندما قرأت المجموعة القصصية مملكة من عصير التفاح للروائي أحمد الفخراني أحببتها لدرجة أنني تمنيت أن أكون أنا التي كتبتها. أعجبني ذلك الخيال الطفولي وذكرني بلوحات مجد كردية التي تحاكي خطوطها رسومات الأطفال وخيالهم ولكنها في الوقت نفسه تحمل معانٍ كبيرة. قررت أن هذا الكتاب هو كتابي المفضل.

بعدها قررت أن اقرأ روايات الفخراني تباعًا، فبدأت برواية سيرة سيد الباشا، التي أراها أكثر رواياته انضباطًا. تميزت سيرة سيد الباشا عن مملكة من عصير التفاح بخيال أكثر جموحًا، يجتاز بسلاسة حواجز الثالوث المقدس؛ الدين والجنس والسياسة.

عندما قرأت الفخراني، انبهرت بلا محدودية خيال أعماله. عجبت من قدرته على الكتابة عن الصبي الذي يسرق الكحل من العين حرفيًا وعن عسكري الشطرنج الذي يرغب في أن يغازل الفرسة السمراء. أفكار تشعر كأنها بسيطة للغاية وتدفعك للتساؤل؛ لماذا لم تخطر هذه الأفكار ببالي لأكتبها؟

نتعامل مع الأفكار الموغلة في الجنون باعتبارها محض هراء نترفّع عن تتبعه، فتتمنع الفكرة وتنصح أفكارًا أخرى تشبهها بألا تراودنا مجددًا، فنخسر الجنون وشطحات الخيال الجميلة. قد لا نرفضها ظاهريًا، ولكننا نرفض أن نتبعها حيث ذهبت.

أحيانًا تأتيني فكرة فأرفضها، ولكنني أتخيل الفخراني يسجد احترامًا لكل الخيال الذي يخطر بباله ويدعوه بكل كرم وإلحاح أن يحتسي بعض الشاي في رأسه. أظنني لو اتبعت خيالي كما يفعل الفخراني، ربما كتبت بنفس الجمال والخيال.

يقول الفخراني في حوار عبر الهاتف أن ما يلهمه أحداث واقعية أثّرت فيه للغاية، فعلى سبيل المثال، رواية عائلة جادو بدأت من مشهد جنازة حماه، وكانت المرة الأولى في حياته التي يشهد فيها إجراءات ما بعد الوفاة من بدايتها. واستلهم ماندورلا من شخص قابله كان يرى أن الأحداث الكبرى في العالم تحدث من أجله، وأن الحرب الأمريكية على العراق حدثت ليسترد أحد حقوقه المهدورة، وهكذا.

أما رواية بياصة الشوام، فبدأ عالمها من قصة حكاها له صف ضابط كان معه في الجيش عن علاقته بجارته وأنه عندما ذهب إلى شيخ الجامع ليتوب، قال له الشيخ "خلاص إنت دقت حلاوته ومش هتسلاه"، وبقت تلك الإجابة في ذاكرتي، لأنها إجابة غريبة وتدرك النفس البشرية، ومنها بدأت أبني عالم الرواية.  

الإخلاص للكتابة

تفرّغ الفخراني للكتابة منذ أوائل 2015. قال لـ المنصة "بعد أن تفرغت للكتابة، كنت أستيقظ كل يوم لأكتب، ولا أستطيع، لذا قررت أن أجلس نفس عدد الساعات التي أقضيها في الكتابة، سواء كتبت أو لم أكتب، لأفكر. صرت أكتب ما أستطيع كتابته وأتحرك بحرية شديدة. خلال شهرين، كتبت رواية قصيرة، ثم مزّقتها، ولكن بعد ذلك، استطعت أن أكتب بسلاسة".

يتابع أنه "منذ 2017 حتى ثلاثة شهور مضت، لم أعمل على مشروع، فكنت أكتب نصوصًا ثم أمزّقها. حاليًا أعمل على رواية، والأمور تسير على ما يرام. كتبت قصصًا قصيرة ولكني لم أقصد أن أكتبها، فكنت أحيانًا أتخيل أني أعمل على رواية، ثم أعثر على مشهد في الرواية يمكن تحويله لقصة".

يستخلص الفخراني من كل هذا أن "المهم هو أن تكون مشغولًا بالكتابة كل يوم، بغض النظر عما ستكتبه، كما أن الكتابة في حد ذاتها تعد تدريبًا على اللغة، وقد يعرقلك تشنجك رغبةً في كتابة شيءٍ ما. بعد التفرغ، كنت أشعر بالذنب لأني لا أفعل شيئًا، لكن الآن أحاول أن أكتب، وإذا لم أستطع، أقرأ. لم تمر تلك المشاعر ببساطة، ولكن صار لدي خبرة بها وتعلمت ألا أحزن إذا لم أجد ما أكتبه".

في حوار لموقع البوابة نيوز، قال أحمد الفخراني إن أهم نصيحة قرأها كانت لنجيب محفوظ "دخلت الأدب وفي نيتي أن أعمل لآخر نفس، فإذا نجحت سأستمر وإذا فشلت سأستمر".  

ماندورلا 1 وماندورلا 2

عوالم الفخراني متداخلة بشكل ما، تبدأ من رواية ماندورلا التي تحمل اسم قصة من قصص مجموعته، ولكن القصة لم تحتوِ سوى بعض التفاصيل الموجودة في الرواية مثل نافورة الفاصوليا البيضاء. يمكن أن تجد الشبه بين هذه القصة وقصص الأطفال عندما تحولت ثلاث حبات فاصوليا من النافورة إلى فتيات جميلات تزوجن في النهاية من رجال أهدتهن لهن سحابة تحوّلت إلى مدينة لتختبئ من آكل السحاب.

الروايات بدورها تعتمد على المخططات العالمية. ماندورلا تدور حول المريخيين الذين يعرضون على عبد الجبار امتلاك العالم مقابل أن يسمح لهم بتصنيع السوبر سوبر مان منه وهو الإنسان النموذج متوسط الذكاء والقوة، وسيرة سيد الباشا تحكي عن المجلس الأعلى للعالم الذي يعمل على تنقية العالم من غرباء الأطوار للحفاظ على نظامه، وعائلة جادو التي خاض فيه البطل رحلة لقتل ماركس من خلال مسار كبير يتحكم فيه كبار .

مما رسم الابتسامة على وجهي أثناء قراءة سيرة سيد الباشا هو هذا الهامش في آخر صفحة "المقاطع المنجمة* لنظريات المؤامرة المنقولة بتصرف عن مدونات يؤمن أصحابها أنها النظريات التي تحرك العالم".

تيمة المؤامرة

قال الفخراني إنه اهتم في الروايات الأربعة بتيمة المؤامرة والقوى التي تتحكم بالعالم، وإن نظريات المؤامرة كالأساطير، محاولة لتفسير العالم، وإن بدت ساذجة.

فمثلًا في رواية سيرة سيد الباشا، يوجد جزء يحكي أن جمال عبد الناصر باع أفكار المصريين للسوفيت، بالفعل يعرف الفخراني إحداهن تصدق هذه الفكرة، لكنه لا يراها بتلك السذاجة، بل يتعامل معها مثل الأسطورة، تمامًا مثلما لا يستطيع الإنسان أن يفسّر لماذا تشرق الشمس من الشرق.

يحكي أن "ما حدث مع الدولة الناصرية هو أنها ضخّمت أماني المصريين وأشاعت أسطورة المصري الذي لا يُقهر، وفي النهاية، انهزم، لذا كان أمامه حلين، إما أن يُجن وإما أن يحكي قصة لتجاهل حالة الفصام. في عائلة جادو استخدمت غابة كبيرة من أشجار السيكويا يجتمع فيها قادة العالم. تلك الأسطورة من تأليف المواطن الأمريكي، وهي أن قادة العالم يجتمعون في كاليفورنيا ويعبدون إلهًا ما ويحرقون طفلًا، ومن هناك، يصدرون القرارات الكبرى".

يضيف أنه "إذا فكرنا في الأمر، سنجد أنه (أي الإنسان) يهرب من عدم فهمه، باختراع أسطورة تفسر له ما يحدث. أنا اتبنّى تلك الأساطير واعتبرها ميثولوجيا الإنسان العادي المتوسط، والتي تحمل خيالًا لا أستطيع الوصول إليه للتعبير عن فكرة واقعية".

أضاف الفخراني أنه يكرر تيمة معينة لإنه أحيانًا يشك في قدرته على التعبير عنها بالشكل المطلوب، لذا يجربها في عدة أعمال، وشعر بأنه وصل إلى ما يريد في هذه التيمة في رواية عائلة جادو، ولكنه أراد أن يناقشها في رواية بياصة الشوام بشكل أكثر إحكامًا وتكثيفًا.    

يعبّر الفخراني عن واقعه بالغرائبية لأنه يجدها الأسلوب الأمثل بالنسبة له في الكتابة، وقال إن بإمكانه الاستغناء عنها إذا لم تعد تعبر عنه "أظن أن الرواية القادمة لن تشبه الروايات السابقة ولن تعتمد على الخيال تمامًا. إن الشيء عندما نراه كثيرًا، لا نراه مع الوقت. دور الغرائبية أنها تكسر ألفة العين، فتُحرّف الواقع أو تجعلك تراه بشكل مختلف مما يكسر ألفته ويساعدك على التفكير فيه بشكل مختلف".

يبدو كماركس لكنه ليس ماركس

اشتركت سيرة سيد الباشا مع عائلة جادو في استخدام شخصيات عامة داخل أحداث الرواية، بتصرّف في صفاتها الشكلية والنفسية كاملةً، كأن يجعل والت ديزني هو رئيس المجلس الأعلى للعالم في سيرة سيد الباشا، أو يكون بطل عائلة جادو مكلّفًا بقتل كارل ماركس الذي هو نسخة عن نسخة عن نسخة من ماركس، لا يشبهه ولكنه يمتلك نفس تاريخه الذي يستمر معنا في الرواية، على طريقة الرواية.

ربما تشابه ذلك مع تبدّل الوجوه في الحلم، كأن تحلم بشخصية عامة على أنها أنت، وكما قال الفخراني في حواره على البودكاست مع مينا وإسلام، في موقع ختم السلطان إنه مهتم بفهم تقنيات الحكي في الحلم أي كيف يحكي الحلم الذي نراه أثناء النوم، وأنه يكون محمّلًا بالشعور أكثر من رغبته في الحكي عن حدث.

على أي حال يستخدم الفخراني أسماء معروفة بمعناها لدى الناس في رواياته، مثلما أطلق اسم شمس المعارف، وهو عنوان كتاب شهير، على لعبة، معتبرًا أن هذا الكتاب المعروف بهذا الاسم ما هو إلا نسخة زائفة، كتمويه من المجلس الأعلى للعالم عن نسخة حقيقية من الكتاب تحوي أسرار العالم كله.

الماما أو الخصم الشرير في رواية ماندورلا هي كاي باركر، نجمة الأفلام الجنسية، وهي إحدى الشخصيات العامة التي استخدمها في رواياته استخدامًا مختلفًا أيضًا، إذ تمثل في الرواية نقيض ريهام، إحدى بطلات الرواية، التي لا تشعر بأي نشوة إلا عندما تضاجع أكورديونها!

جنس غرائبي

جاء استخدام الفخراني للجنس في رواياته ملفتًا وغير مقيد بحدود الواقع. في سيرة سيد الباشا، أفرد الفخراني فصلًا من أربع صفحات ونصف عن لذته مع عشيقته لوليا، آكلة القضبان والأثداء، وهي تمارس معه الجنس الفموي. سيستعير سيد الباشا قضيب مجدي وهبة (شخصية عامة أخرى)، بينما ينتصب قضيبه الحقيقي عند العبور بجوار أحد غريبي الأطوار وتلك هي موهبته.  

في ماندورلا، يضاجع ابن عبد الجبار ممثلات الأفلام الإباحية المثلية دون استخدام قضيبه فيصير أكثر الذكور رجولة في حين ينمو ثدياه، وبكرة الغزل التي أخذت تغري القبطان حتى قطعت قضيبه بالخطاف الذي يضعه بدلًا من يده. وفي عائلة جادو، يمارس رجلان الجنس مع امرأة جميلة أمام زوجها الذي يثيره المشهد.

الجنس في روايات الفخراني يزيد حكاياته غرائبية، فهو صادم وإن لم يكن هذا هو الهدف منه. يبقى غريبًا، مثل كل شيء هنا، متسقًا مع غرابة الأحلام. 

شخصنة جوجل وياهو

المصطلحات التكنولوجية أيضًا يحوّلها الفخراني إلى شخصيات، كما فعل مع ياهو وجوجل في ماندورلا. ومكان سيد الباشا كان الإنترنت كافيه أو "السايبر"، أما في عائلة جادو، كانت شجرة معرفة الخير والشر حاسوبًا معقدًا، والذي عرّف البطل عليها هو مارك زوكربيرج، مؤسس فيسبوك.

أبطال الفخراني كلهم شديدو العادية وأحيانًا معدومو الموهبة، فسيد الباشا شاب يمضى كل وقته في اللعب على الكمبيوتر. وعائلة جادو، تبدأ بشعار "يا ميديوكرز العالم اتحدوا"، فالبطل ميديوكر ووالده الذي يبدو وحتى اقتراب نهاية الرواية مسيطرًا على العالم ميديوكر أيضًا. أما عبد الجبار بطل ماندورلا فهو نموذج آخر للشخص المتوسط.

قال لي الفخراني إن السبب وراء ذلك أننا "نستقي القصص والخيال من ناس غير استثنائيين، فمثلًا العائلة التي نحكي عنها في رواية ماندورلا هي العائلة النموذجية المصرية. كلمة ميديوكرز في جملة يا ميديوكرز العالم اتحدوا ليست مقصودة بمعناها السلبي، فالأديان جاءت لتنصر الإنسان المتوسط، وأفكار ماركس كانت موجهة للعمال الذين يشبهون بعضهم البعض، فكلنا ميديوكرز، وإذ كان أحدهم موهوبًا في شيء، فقد يكون ميديوكر في بقية الأشياء".  

شهوة الخلق

في آخر أعماله المنشورة بياصة الشوام،  يرسم الفخراني شخصية البطل سعيد كأغلب شخصياته؛ رجلًا عاديًا بلا موهبة يتمنى أن يخلق شيئًا مبدعًا ولكنه لا يستطيع، أمه مجنونة ويعيش بذنب التسبب في موتها، ويقيم علاقة مع امرأة تكبره بعشرين عامًا، ولكن تدفعه شهوة الخلق إلى صنع تماثيل لا تشبه ما تمثله ولكنه للغرابة يصنع تمثالًا يشبه محبوبة البامبو، أهم رجل في بياصة الشوام، والذي يطلب منه أن ينفخ فيها الروح، فيذهب سعيد في رحلة جنونية دليلاه فيها زوج عشيقته ومعلمه، والذي لم يُظهِر يومًا إيمانًا به.

كسر الفخراني في تلك المرة أيضًا حواجز المعقول، فتحدّث عن شهوة الإنسان للخلق ومزج الصوفية والبحث عن المعنى الأسمى، لنصل إلى الجنون وهو النهاية التي وصلت إليها أمه قبله، ليفهم سعيد ما كانت تراه.  كان حديث سعيد مع الله يجمع بين العتاب والشعور بالذنب والرغبة في التوبة والوصول. كان خياله تلك المرة جامحًا بخصوص الدين، من حيث لغة الحديث مع الله وما يدور حول إحياء تمثال وزبائن ملك السمان الذين يعبدون ابن آكلة الأكباد.

البطل واعٍ لوجود الكاتب الذي يضع على لسانه كلامًا لا يمكنه أن يقوله ولكني تمنيت أن تُستغل تلك النقطة في بناء الأحداث، لا أن يكتفي بها كدعابة في وسط الحديث.  

قال الفخراني لـ المنصة إن الرواية في البداية كانت حياة البطل وحياة أخرى للراوي وكيف تتشكل الشخصية في عقله، وكان يريد أن يوحّد بين الشخصيتين حتى تكون مشاكلهما واحدة ثم يصبحان شخصية واحدة، ولكنه حذف هذا الجزء لأنه أفسد الرواية، واكتفى بالإشارة إلى أن أزمة البطل قد تكون هي أزمة الراوي أيضًا.

تُدخلني قراءة ما كتبه الفخراني في متاهات أحبها، قد تكون ألغازًا تقودنا لمعانٍ كبيرة أو مجرد خيال ولكنه يعطي معنى آخر للخيال مثلما تصنعه الأحلام من معانٍ.

قال الفخراني:"أنا أكتب عن شخصيات تدور في متاهة وعالم يشبه عالم الأحلام، وأظن أن المتاهة تضبط الحبكة والإيقاع وتجيب عن أسئلة كثيرة. أظن أن الوصول إلى المعرفة أو إلى الوحش الكبير يستوجب معاناة وذلك ما توفره المتاهة.  في آخر فصل في رواية بياصة الشوام، استطاع البطل أن يتغلب على الشيطان أو البامبو، فاستطاع أن يحقق اللغة العرفانية التي كان يطمح لها لأنه كان يصارع لغته. عندما قتل البامبو وارتكب أول ذنب هو واعٍ به، وصل إلى الله وتحولت اللغة هنا إلى لغة الكشف".

 اختيارات الفخراني مقصودة وليست عبثية أيضًا. قال لي الفخراني إن "المشهد الافتتاحي في رواية سيرة سيد الباشا مقصود، فالهدف منه أن أقول للقارئ من أول صفحة إن البطل مجنون. الحفلة في الرواية تكشف أن هناك معرفة تنفي كل المعارف الأخرى.

ظهور ديزني لم يكن عبثيًا، فهو الذي قدّم لنا القصص الخرافية مروّضة ومخصية مما عمانا عن حقيقتها كتعبير عن النوازع والشهوات والرغبات العميقة، وكذلك ظهور محمد علي باشا، فهو مصدر الدولة الحديثة الجامدة المتكلسة. وكذلك يوليا (في نفس الرواية) لا تمثل الشر، ولكنها تمثّل الرغبة الحقيقية في المعرفة، وهي رغبة خطيرة ولكنها جذابة في نفس الوقت، ولنصل إلى المعرفة، يجب أن نتقبل هذا الخطر، لأنها تهدم الثوابت".