تصميم: يوسف أيمن- المنصة

في ذكرى رحيل العميد: محضر النيابة في تحقيقات "الشعر الجاهلي"

منشور السبت 14 نوفمبر 2020

 

مرّت أخيرًا الذكرى السابعة والأربعين على رحيل طه حسين (1889–1973)، ولن أضيف جديدًا عندما أقول إنه واحد من بناة مصر الحديثة ككاتب ومفكر وأستاذ جامعي وناقد أدبي وروائي ورجل دولة ليبرالي، كما يليق بليبرالي ينتمي إلى أعرق قيم الليبرالية في ذروة ازدهارها.

وقد اخترت، بسبب المساحة، أن تقتصر كتابتي عنه على أولى معاركه التي خاضها دفاعًا عن الحرية والبحث العلمي، والتي كاد يفقد فيها حريته ومنصبه كأستاذ جامعي، وكان قد عاد لتوه إلى مصر مصطحبًا زوجته الفرنسية بعد أن أنهى دراسته في عاصمة النور آنذاك، وعيّن أستاذا في الجامعة المصرية، حيث شرع عام 1925 في إلقاء محاضراته حول الشعر الجاهلي، وجمعها في العام التالي وأصدرها في كتابه الشهير في الشعر الجاهلي.

وفي أحد أيام شهر مايو/ أيار 1926 ، تقدم الشيخ حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ لسعادة النائب العمومي، يتهم فيه "الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة المصرية بتأليف كتاب أسماه في الشعر الجاهلي، ونشره على الجمهور، وفي هذا الكتاب طعن صريح في القرآن، حيث نسب الخرافة لهذا الكتاب السماوي الكريم".

وعلى الفور بدأت واحدة من أخطر المعارك الفكرية بلا أي مبالغة، وكان العام السابق على تلك المعركة قد شهد هزيمة منكرة لحقت بالحرية لصالح الملك فؤاد والحكم المطلق والرجعية، عندما تعرض الشيخ على عبد الرازق للفصل والتشريد وأُخرِج من زمرة علماء الأزهر وشطب اسمه من السجلات بسبب إصداره كتاب الإسلام وأصول الحكم.

والنقطة الأساسية التي أثارت الشيخ حسنين ومن وراءه في الكتاب، هي ما أورده العميد حول أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًا، ليست من الجاهلية في شيء، بل هي منتحلة ومختلقة بعد ظهور الإسلام، أي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وشعر العمالقة مثل عنترة وامرئ القيس وطرفة بن العبد، ليس أكثر من انتحال انتحله الرواة والنحاة والمتكلمين.

وقبل أن يظهر الشيخ حسنين على المسرح ويتقدم ببلاغه، كان طه حسين بنفسه، قد أشار بنفسه في الكتاب إلى أن ما أورده" قد يترك في نفس القارئ أثرًا مؤلمًا، نتيجة لشكه الأدبي الذي طرحه في مواضع عديدة من الكتاب"، وأضاف أنه من الخطأ ان يشعر القارئ أن ماورد كان "بقصد الهدم، مما يدعوهم للخوف على الأدب العربي والقرآن الذي يتصل بهذا الأدب".

وبنص الكتاب يوجه الكلمات التالية للقارئ "فلهؤلاء نقول إن هذا الشك لا ضرر منه ولا بأس، لأن الشك مصدر اليقين ليس غير، بل لأنه قد آن للأدب العربي وعلومه أن تقوم على أساس متين، وخير للأدب العربي أن يزال منه في غير رفق ولا لين، ما لا يستطيع الحياة ولا يصلح لها، من أن يبقى مثقلًا بهذه الأثقال". ويضيف "ولسنا نخشى على القرآن من هذا النوع من الشك والهدم بأسًا، فنحن نخالف أشد الخلاف أولئك الذين يعتقدون أن القرآن في حاجة إلى الشعر الجاهلي لتصح عربيته وتثبت ألفاظه. نخالفهم في ذلك أشد الخلاف لأن أحدًا لم ينكر أن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه تتلى عليهم آياته. وإذا لم ينكر أحد أن النبي عربي، وأن العرب قد فهموا القرآن حين سمعوه، فأي خوف على عربية القرآن من أن يبطل هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين؟ وليس بين أنصار القديم أنفسهم من يستطيع أن ينازع في أن المسلمين قد احتاطوا أشد الاحتياط في رواية القرآن وكتابته ودراسته وتفسيره، حتى أصبح أصدق كتاب عربي يمكن الاعتماد عليه في تدوين اللغة العربية وفهمها".

وكأن طه حسين كان يتوقع ماجرى بشأن كتابه من جانب بعض علماء الأزهر حين أنهى كتابه بالسطور التالية "فأيهما أشد إكبارًا للقرآن وإجلالًا له وتقديسًا لنصوصه وإيمانًا بعربيته: ذلك الذي يراه وحده النص الصادق الصحيح الذي يستدل بعربيته القاطعة على تلك العربية المشكوك فيها، أم ذلك الذي يستند إلى عربية القرآن بشعر، كان يرويه في غير احتياط ولا تحفظ قوم كان منهم الكذاب ومنهم الفاسق ومنهم المأجور ومنهم صاحب اللهو والعبث؟".

الوقائع التالية تشير إلى أنه كان هناك ما يشبه الحملة المنظمة، حيث بادر شيخ الأزهر بنفسه، وبعد بلاغ الشيخ حسنين، بإرسال خطاب للنائب العام، يتضمن تقريرًا رفعه علماء الأزهر بشأن "كتاب ألّفه طه حسين المدرس بالجامعة المصرية، أسماه في الشعر الجاهلي، كذّب فيه القرآن وطعن على النبي وأهاج بذلك ثائرة المتدينين"، وطالب التقرير باتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن.

تولى التحقيق في البلاغ واحد من أكثر القضاة تفتحًا وفهمًا وتنورًا، هو محمد نور بك رئيس نيابة مصر، الذي عكف على الكتاب والبلاغ والتقرير، وقام بدراسة كل ذلك كعالم ولغوي ومشتغل بالنقد وليس مجرد قاض أو رجل قانون. كتب الرجل في بداية المحضر "وحيث أنه نظرا لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري قد أرجأنا التحقيق إلى ما بعد عودته، فلما عاد بدأنا التحقيق بتاريخ 19 أكتوبر سنة 1926 فأخذنا أقوال المبلغين جملة بالكيفية المذكورة بمحضر التحقيق ثم استجوبنا المؤلف وبعد ذلك أخذنا في دراسة الموضوع بقدر ماسمحت الحالة".

وهكذا فإن محمد نور بك لم يسارع بإدراج اسم طه حسين على قوائم الوصول للقبض عليه مثلا فور عودته، بل ناقش أولا، طبقا للمحضر، المواضع التي نسب فيها المبلّغون  للمؤلف أنه أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن ابراهيم واسماعيل، حيث يذكر في كتابه ص 36 "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن هذه القصة التي تحدثت بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة منها، ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب".

ومن هذه المواضع أيضا مانسبه المبلّغون للمؤلف، ما تعرض له الأخير في شأن القراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين، وأنه في كلامه عنها يزعم عدم إنزالها من عند الله، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسبما استطاعت لا كما أوحى بها الله إلى نبيه. ومن هذه المواضع أيضا مانسبه المبلّغون إلى المؤلف من أنه طعن على النبي طعنًا فاحشًا من حيث نسبه، حيث قال في كتابه ص72 "ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش. فلأمر ما اقتنع الناس أن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها".

نحن أمام مثقف كبير يعكف على نص أكاديمي ويناقش في التفاصيل الدقيقة وليس مجرد قاض، ويعطينا درسًا في استقلال السلطة القضائية، ومن ثم قدرتها على تحقيق العدل، كما يقوم بالرد العلمي الموضوعي، مشيرًا إلى أن تلك العبارات التي يقول فيها المبلّغون إن فيها طعنًا على الدين الإسلامي فيرد "إنها جاءت في سياق كلام على موضوعات كلها متعلقة بالغرض الذي ألّف من أجله"، ويضيف "لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلًا إلى تقديرها تقديرًا صحيحًا وبحثها حيث هي في موضعها من الكتاب ومناقشتها في السياق الذي وردت فيه". وسوف أورد مثلًا واحدًا على ذلك كتبه في تقريره المرفق بالمحضر، على الرغم من أنه ناقش وفنّد كل اتهام على حدة دون أن يحابي أو يجامل طه حسين.

كُتِبَ مثلا في المحضر السالف الإشارة إليه "ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين العلم والدين، وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والإنكار، وأننا حين نفصل بين العلم والدين، نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها من إنكار المنكرين وطعن الطاعنين. ولا ندري لما يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع. لقد سئل في التحقيق عن هذا فقال (أي طه حسين) إني أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين، وكلهم يقررون أن العرب المستعربة قد أخذوا لغتهم عبر العرب العاربة بواسطة أبيهم اسماعيل بعد أن هاجر، وهم جميعا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن والحديث، فليس لي بد من أن أقول لهم إن هذه النصوص لا تلزمني من الوجهة العلمية".

على هذا النحو تمضي المناقشة بينهما، وحوّل محمد نور بك التحقيق إلى مناقشة علمية رصينة، ولحُسن الحظ أن نص التحقيق عثر عليه الروائي الراحل خيري شلبي ونشره كاملًا في كتاب صدر عن دار الدراسات العربية في ثمانينيات القرن الماضي، ولم تصدر عنه أي طبعات أخرى للأسف.

وأخيرًا فإن نور بك ينتهي إلى عبارات من نوع "ونحن نرى أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تَعارض بينه وبين الدين لا اعتراض لنا عليه"، أو عندما يسأل طه حسين "هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا أو تقدموا لنا المراجع فيما يتعلق بتعريف اللغة الجاهلية الفصحى ولغة حِمْيَر؟"، فيجيبه طه حسين "أنا لا أقدم شيئا". ولم يعتبر نور بك هذا الرد إساءة لرمز القضاء في شخصه، بل أقر بحق طه حسين أن يمتنع عن تقديم المراجع ويواصل المناقشة معه.

وينتهي التقرير المرفق بالمحضر إلى ذكر المواد الدستورية التي تبيح لكل مواطن التعبير عن رأيه، وأن حرية الاعتقاد مطلقة، ثم يختتم تقريره بالقول "وحيث أنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين والتي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما أوردها على سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث أنه مع ذلك يكون القصد الجنائي غير متوافر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريًا.

محمد نور

رئيس نيابة مصر/ القاهرة في 30 مارس 1927".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.