
تيك توك بين الخطيئة والجريمة.. الأخلاق أداةً لضبط المجتمع
في السنوات الأخيرة، برزتْ في مصر ممارساتٌ قانونيةٌ جديدةٌ، لا تدور رحاها في ساحات القضاء التقليدية أو في أروقة التشريع، بل في الفضاء الرقمي، تحديدًا على شاشات الموبايلات وتطبيق تيك توك. "المتهمات" في هذا المشهد الرقمي هنّ في الغالب شابات ينتمين إلى طبقات اجتماعية متوسطة أو مهمّشة، يستخدمن المنصة لنشر مقاطع رقص، أو محاكاة أغانٍ رائجة، أو غيرها.
غير أن الدولة لا ترى في هذه الفيديوهات مجرد تعبير عن الذات، بل تُكيّفها قانونيًا تحت تُهم فضفاضة مثل "انتهاك القيم الأسرية" و"التحريض على الفسق" و"خدش الحياء العام".
رغم أن هذه الاتهامات تُصاغ بلغة قانونية، فإنها ترتكز على أسس أخلاقية بحتة، ما يجعل هذه المحاكمات انعكاسًا لظاهرة أعمق؛ تآكل الحد الفاصل بين القانون أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية، والأخلاق منظومةً قيميةً شخصيةً أو جماعيةً.
بمعنى آخر، تُظهر قضايا تيك توك في مصر كيف يتحول النظام القضائي، تدريجيًا، إلى ذراع لضبط السلوكيات الخاصة، إذ يُعاد تعريف "الجريمة" ليس باعتبارها فعلًا ضارًا بالمجتمع، بل بوصفها انحرافًا عن تصور الدولة لما هو "لائق" أو "مقبول".
نظام هجين
في الأنظمة القانونية الحديثة، يُفترض وجود فصل واضح بين الخطيئة، باعتبارها حكمًا أخلاقيًا نابعًا من معتقد ديني أو ثقافة مجتمعية، وبين الجريمة باعتبارها فعلًا يسبّب ضررًا ملموسًا للغير أو يهدد النظام العام.
هذا التمييز هو أحد أعمدة الحداثة القانونية في الدول الديمقراطية، وهو ما يسمح بوجود هامش من التعددية والاختلاف ضمن الإطار القانوني. فالقانون في جوهره ومهما كان الحفاظ عليه ناقصًا لا يهدف إلى فرض رؤية أخلاقية واحدة على الجميع، بل إلى إدارة الاختلافات وتنظيمها من خلال مبادئ العدالة، والتعددية وحقوق الإنسان.
في الأنظمة الثيوقراطية مثل إيران أو المملكة العربية السعودية، يُطابق القانون معايير الأخلاق الدينية بشكل مباشر، إذ تُجرّم أفعال تُعدّ "خطايا" في المنظومة الإسلامية المحافظة، مثل عدم ارتداء الحجاب أو قيادة المرأة للسيارة (حتى وقت قريب).
في هذه السياقات، لا يوجد فصلٌ يُذكر بين القانون والفضيلة، لأن شرعية الدولة نفسها مستمدة من تفسير ديني للشرع. في بلدان أخرى، عادة ما يكون هذا الفصل رماديًا. فالدولة تُدير منظومة قانونية علمانية ظاهريًا، لكنها غالبًا ما تُسخّر هذه المنظومة لإعادة إنتاج الأعراف الاجتماعية المحافظة تحت مسمى "القيم".
يتشكل في هذه الحالات ما يمكن تسميته بـ"النظام القانوني الهجين"؛ أي منظومة تجمع بين القوانين الوضعية الحديثة والتفسيرات الدينية أو المجتمعية المحافظة. مصر، من بين دول أخرى، تُقدّم نموذجًا صارخًا لهذا التداخل، إذ تستخدم الدولة القانون أداةً لفرض الانضباط الأخلاقي، وليس لضبط الضرر، وحين تتداخل الخطيئة مع الجريمة، كما يحدث في حالات محاكمات تيك توك، تُصبح الدولة حَكمًا أخلاقيًا لا قانونيًا، وتُستخدم أدوات العدالة لمعاقبة الانحراف عن الأعراف، لا الضرر العام.
هذا الانحراف، إذا كان يمكن تسميته بذلك، يُحول المؤسسات القضائية إلى أجهزة رقابة أخلاقية، تُمارس الوصاية على الجسد والذوق والخيال.
النمط الأخلاقي المقبول
الحملة التي تشنها السلطات على التيكتوكرز لا تتعلق بجرائم يُمكن إثبات ضررها، بل بانتهاك تصورات غامضة عن "القيم الأسرية" أو "الحياء العام"، وهي مفاهيم ليست فقط فضفاضة، بحيث يمكن الاستنتاج أن ما يُعاقب عليه في الواقع هو الانفلات من الرقابة الجمعية، وممارسة حرية التعبير الجسدي أو الاجتماعي خارج أُطر الأعراف المتوقعة، هذه الانحرافات المتصورة عن المعايير الثقافية تعكس ميلًا استبداديًا إلى تشريع الفضيلة بدلًا من حماية الحقوق.
ينتج عن الغموض القانوني ممارسات قضائية تتجاوز المعاقبة على الضرر الحقيقي لتصل إلى معاقبة الانحراف عن النمط الأخلاقي المقبول
الأداة التشريعية التي تُتيح هذا النوع من الملاحقات هي قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة 2018، تحديدًا المادة 25 منه، التي تجرّم نشر محتوى "يعادي المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري".
هذا النص القصير لا يُعرّف ماهية "القيم" أو "المبادئ"، مما يمنح الأجهزة الأمنية والقضائية صلاحية تقديرية واسعة لتأويل السلوك وتكييفه جنائيًا، واستهداف التصرفات أو التعبيرات "المرفوضة أخلاقيًا" كجريمة (سلوكيات قد تكون غير مرغوبة اجتماعيًا، لكنها ليست مخالفة للقانون). بعبارة أخرى، يتحول الذوق الأخلاقي إلى قانون مُلزم، وتصبح النيابة العامة ضامنًا للفضيلة بدلًا من العدالة.
نتيجة هذا الغموض القانوني هو ممارسات قضائية تتجاوز المعاقبة على الضرر الحقيقي، لتصل إلى معاقبة الانحراف عن "النمط الأخلاقي المقبول". في قضية حنين حسام مثلًا أُلقي القبض عليها في 2020 بتهمة "الاتجار بالبشر" لأنها دعت نساءً إلى استخدام تطبيق بث مباشر لكسب المال (في حين أن مضمون الدعوة لم يتضمن أي استغلال جنسي أو قسري بالمعنى القانوني للكلمة)، أما مودة الأدهم، فحُكم عليها بالسجن بسبب مقاطع فيديو رقص وهزل، وُصفت بأنها "خادشة للحياء".
هذه القضايا، وغيرها، لا تكشف عن ضرر فعلي أو خطر حقيقي، بل عن "جريمة رمزية"، تنتهك أعرافًا أخلاقية لا يُفترض بالقانون أن يحرسها، كما يشير تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إذ خلت قضية حنين من أي أدلة مادية ملموسة على ممارسة المخالفات التي يعاقب عليها قانون مكافحة الاتجار بالبشر، وأن المحاكمات في الواقع "لا تعدو كونها محاكم تفتيش أخلاقية لهؤلاء النساء".
لم تتوقف الحملة عند هذه الحالات، بل توسعت واستمرت مستهدفة مؤثرات أخريات من خلفيات متشابهة، في نمط استهداف يبدو ممنهجًا. من بين أبرز الحالات مؤخرًا سوزي الأردنية؛ لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها. بدأت ملاحقتها بعد بلاغ يتهمها بـ"مخالفة القيم المجتمعية"، قبل أن تتسع القضية لتشمل تهمة غسل أموال تُقدَّر بـ15 مليون جنيه، قيل إنها تحصلت عليها من إدارة صفحتها على تيك توك.
حسب بيان الداخلية المصرية، فإن الجهات الأمنية تحرّكت بناءً على بلاغات من مواطنين عبروا عن "انزعاجهم" من محتوى مقاطع فيديوهات التيكتوكرز، من بينهم أم سجدة وأم مكة، وأنّ التحرّيات توصّلت إلى أنّ المتهمات أنتجن هذه المقاطع بهدف جذب أكبر عدد من المشاهدات وتحقيق أرباح مالية، كأن ذلك ليس هو الهدف الأصلي والمعلن من النشاط على هذه المنصات؟
توسيع مظلة الرقابة
الرسالة التي تؤكدها هذه الحملات واضحة؛ أن الأخلاق ليست شأنًا شخصيًا، ولا تخضع لنقاش مجتمعي حر، بل هي جزء من منظومة المراقبة العقابية للدولة. فالدولة الآن تقنن الأخلاق، وتُحول المنصات الرقمية من مساحات تعبير فردي إلى ميادين مطاردة قانونية، تُرسم فيها حدود ما يجوز وما لا يجوز وفق ميزان أخلاقي متقلب، وفي معظم الحالات غير معرف قانونًيا.
هذا التصعيد لا يقتصر طبعًا على المؤسسات الرسمية، بل ينتشر صداه في أوساط ثقافية وفنية يُفترض بها الدفاع عن حرية التعبير، وهو ما يزيد من تعقيد هذا المشهد. فقد شملت قائمة المحتفين بالحملة الأمنية على صنّاع المحتوى نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي الذي أشاد بتحرك أجهزة الدولة ضد ما وصفه بـ"صُناع المحتوى المسيئين للذوق العام"، وهو ما يظهر مدى تغلغل منطق الرقابة الأخلاقية حتى في الفضاءات التي من المفترض أنها منابر للإبداع والحرية والتنوع.
بموازاة كل ذلك، تتوسع مظلة الرقابة لتشمل ليس فقط ما هو قائمًا، بل أيضًا ما هو قادم، فلم يتردد المسؤولون في توسيع أفق الرقابة لتشمل التقنيات المستقبلية والذكاء الاصطناعي، الذي يجري التعامل معه بوصفه "تهديدًا ثقافيًا وأخلاقيًا محتملًا"، ورغم أن الذكاء الاصطناعي يطرح بالفعل تحديات حقيقية، فإن ربطه بمنظومة الأخلاق قد لا يكون التوجه الأفضل.
هكذا، يتكرس مشهد رقابي جديد، لا تقتصر فيه الدولة على العقوبة، بل تستدعي دعمًا من مؤسسات فنية وتشريعية لتوسيع مظلة الأخلاق الرسمية، تحت ذريعة "حماية الذوق أو الحياء العام" أو "ضبط الفوضى الرقمية" في اتجاه نحو تأميم الأخلاق رقميًا، وإعادة تعريف الجريمة كخطيئة حديثة (تعتمد على كيفية تصوير الانحطاط الأخلاقي أو الإهانة الثقافية) لا فعلًا ضارًا أو مؤذيًا.
تمييز جندري وطبقي
تستهدف الحملة، كالتي سبقتها، النساء الفقيرات اللاتي بلا سلطة أو حماية قانونية. هذا ليس عرضيًا، بل يعكس تهميشًا مزدوجًا؛ نساء ينتهكن التوقعات الجندرية من ناحية، ونساء يتجاوزن الحدود الطبقية من خلال أشكال جديدة من العمل الرقمي من ناحية أخرى.
"القيم الأسرية"، كما تروج لها الدولة ضمن هذه الحالات هي أدوات تأديبية تستخدم لتعزيز العلاقات الهرمية بين الجنسين والطبقات، وهو ما يكشف الطبيعة الانتقائية لتطبيق الأخلاق، وكيف ومتى يُصبح التعبير عن الذات تهديدًا.
الذعر الأخلاقي المُحيط بتيك توك يخدم كذلك وظيفة شعبوية. في بلدٍ يعاني من عدم الاستقرار الاقتصادي والقمع السياسي، يُحوّل انتباه الرأي العام نحو "الفساد الأخلاقي" باعتباره عدوًا مناسبًا، ويُصبح التيكتوكرز تجسيدًا للانحلال الأخلاقي والانحدار الجيلي، وتُتيح محاكماتهم للنظام ممارسة الفضيلة دون معالجة المشاكل الأساسية والهيكلية.
هذا الشكل من الشعبوية الأخلاقية ethical populism ليس حكرًا على مصر، تستخدم أنظمة مختلفة مفاهيم "القيم التقليدية" أداة تعبئة سياسية لربح شرعية مفقودة أو تغطية إخفاقات اقتصادية واجتماعية، حيث يعاد توجيه الغضب الشعبي من المؤسسات الفاسدة نحو أفراد "منحرفين" عن المعايير السائدة.
هذا الخلط بين الخطيئة والجريمة يقوض كلاً من النزاهة القانونية والعدالة الاجتماعية، فحين تتحوّل الدولة من مرجعية عقلانية وضامنة للحقوق إلى حَكَم على الضمير الشخصي وأداة رقابية تستهدف الناس لا بسبب ما يفعلونه، بل بسبب ما يُمثلونه، فإنها تنقلب على أحد أهم أسس شرعيتها القانونية والاجتماعية: الحياد.
محاكمات تيك توك ليست مجرد قضية نسوية، طبقية، ولا مجرد معركة على محتوى رقمي. إنها قضية مجتمعية شاملة تتعلق بشكل العلاقة بين الفرد والدولة. ما هو على المحك ليس حرية مؤثري تيك توك بل الحق الجماعي في الاختلاف، وفي إنتاج قيم جديدة أو بديلة، وفي تخيل الذات خارج الحدود المرسومة مسبقًا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.