تصميم: يوسف أيمن- المنصة

تأديب الأطفال "المباح شرعًا": قتل يحميه القانون

منشور السبت 21 نوفمبر 2020

قبل سنتين، قتل أب طفلته البالغة من العمر 5 سنوات، بعد أن ضربها بماسورة حديدية، لأنها أبدت رعونة في استذكار دروسها، لكن محكمة جنايات القاهرة، رأت استعمال الرأفة مع القاتل "حفاظًا على طفلته الثانية التي ولدت بعد وفاة شقيقتها، إلى جانب وجود إباحة شرعية فيما فعله"، بحسب تصريحات محاميه آنذاك.

وفي العام نفسه، قتل طبيب وأستاذ بإحدى الجامعات المصرية طفله، بعد أن ضربه وأخويه الآخرين بسير غسالة مثبت في نهايته مفك حديدي، بغرض استنطاقهم للاعتراف بسرقة مبلغ مالي، ادعت أمهم أن أحدهم اختلسه من المنزل، وأمام محكمة جنايات دمياط، تراجعت الأم عن كافة حقوقها القانونية في القضية، خوفًا على ابنتيه وباقي أخوته من أن يتربوا بعيدًا عن والدهم، ودفع محاميه، بحسب ما نشر من تغطية صحافية لأحداث المحاكمة، ببراءته لأنه "يكفيه ألمًا فقده لابنه، الذي كان يستهدف تأديبه"، فقضت المحكمة بسجنه سنة واحدة مع الشغل والنفاذ.

ويتجلى مشهدا المحاكمة السابقين، وغيرهما من حوادث مماثلة، كخلفية تؤطر النقاش المجتمعي الملتبس حول العنف ضد الأطفال، الذي تصاعد خلال الأسابيع الماضية، بعد وقائع فرار أكثر من فتاة من منازل عائلاتهن، بسبب الاعتداء المتكرر عليهن بالضرب، أو تعرضهن للعنف النفسي الشديد، أو كلاهما معًا.

أداةً للسيطرة

يُمارس العنف الجسدي والنفسي كعقاب تربوي ضد الأطفال في مصر على نطاق واسع، فبحسب دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) عام 2014، بعنوان "محجوب عن الأنظار"، جاءت مصر في المرتبة الثانية عربيًا، بعد اليمن، في العنف الموجه ضد الأطفال، حيث كشفت الدراسة عن تعرض 82% من الأطفال المصريين للعنف البدني، و83% للعنف النفسي، خلال الفترة من 2005 إلى 2013، وبنسبة أعلى من دول إفريقية أخرى، مثل إفريقيا الوسطى والكونغو وليبيريا، في معدل العنف البدني ضد الأطفال، وإن شهدت تلك الدول معدلات أعلى من مصر في العنف النفسي.

يرى الكثيرون من الآباء والأمهات الضرب كأداة ناجزة للسيطرة على أبنائهم، أو معاقبتهم على خطأ ما، أو بغرض التهذيب، لكنهم يدعون أنهم يجعلون الضرب حلًا أخيرًا، وتقول إيمان* 40 عامًا، موظفة، وأم لطفلتين، تبلغ إحداهما من العمر 13 سنة، وتبلغ الأخرى ثماني سنوات؛ إنها تضطر في بعض الأحيان لضرب ابنتيها، وبخاصة الصغرى، لأسباب عديدة، مثل رفض الذهاب لـحصص المدرس الخصوصي، أو صوتهما المرتفع، أو بعثرة محتويات المنزل أثناء اللعب، وعلى الرغم من أنها تؤكد لجوئها لذلك الأسلوب فقط عند استنفاد كل البدائل معهما، أجابت على سؤال المنصة عن أخر مرة ضربتهما فيها، بأنها كانت من أسبوع واحد فقط، وبينها والتي سبقتها ثلاثة أسابيع، أما البدائل التي تستخدمها إيمان قبل كل مرة تُقبل فيها على ضرب إحدى ابنتيها، فهي التهديد بالضرب، أو نهرهما عن فعل ما يغضبها، أو الصراخ في وجهيهما، أو حرمانهما من اللعب.

ويلفت الانتباه في كلام إيمان،  أن الضرب لم يكن "أحيانا" بل على فترات متقاربة، ولم يكن آخر حلولها بل أولهم بالنظر إلى استخدامه كتهديد، وما سواه من أدوات كانت شكلًا من أشكال العنف النفسي، وليس بديلًا عن العنف، لكنها على الرغرم من ذلك أبدت في تصريحات تلت إجابتها استعدادًا لتغيير طريقتها في التربية، إذا ما أتيح أمامها معرفة طرق التربية الحديثة.

العنف الشديد

تكشف دراسة يونيسيف رقمًا آخر صادمًا، حيث إن هناك نسبة 40% من بين الأطفال الذين يتعرضون للعنف في مصر، يتعرضون لعنف شديد، وهي النسبة الأعلى بين أكثر من 190 دولة شملتها الدراسة، بالتساوي مع اليمن.

وتروي شروق* 26 سنة، وتعمل مراسلة صحفية لجريدة مستقلة بإحدى محافظات الوجه البحري، ما لاقته على يد والدها بعدما شاهدها تسير في الشارع مع زميل لها، وقت أن كانت طالبة في المرحلة الثانوية "أول ما دخلت من باب الشقة شدني من ذراعي، فوقعت على وشي، ونزل فيا ضرب برجليه في بطني وضهري وعلى دماغي، وبعدين ربطني في السرير بسلسلة حديد وضربني بخرطوم مايه، لحد ما جسمي ورم من الضرب، وسابني مربوطة في السرير 3 أيام، وأمر ماما ما تفتحش القفل غير وقت دخول الحمام".

تستكمل شروق "دي مكانتش أول مرة ولا آخر مرة، بس عمره ما ضربني بالوحشية دي، مش معنى كده إني كنت قابلة الضرب [البسيط]، كل مرة كان يضربني فيها كان بيقطع خيط رابطني بيه، لحد ما انقطعت كل الخيوط".

تشير شروق إلى أنه بالرغم من مرور عشر سنوات على واقعة تقييدها في السرير، وبالرغم من وفاة والدها، لكنه قد يحدث، أحيانا، أن تصحو في منتصف نومها شاعرة بالعطش، فتمد يدها لتناول زجاجة المياه إلى جوارها فتشعر وكأن يديها مقيدتين، وأنها غير قادرة على تحرريهما.

أما إسلام* الطالب بكلية الهندسة، الذي اعتاد والده ضربه بالحزام كلما ارتكب خطأ كبيرًا أو صغيرًا، فإنه ما يزال يتحسس جسده كل يوم قبل النوم، شاعرًا بألم في ذراعيه وظهره، بالرغم من أن جسده لم يعد به أي آثار لاعتداءات أبيه السابقة.

عنف لا يسقط بالتقادم

يؤكد استشاري الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز للمنصة، أن الاعتداءات البدنية والنفسية على الأطفال، خاصة التي يقوم بها الأهل، قد تصاحبهم في مراحلهم العمرية اللاحقة، فأحيانًا ما يشعر الشخص بالقهر والدونية فيدخل في حالة من الانطوائية والاكتئاب والاضطراب الدائم، وتجنب الناس، والتخوف من كل المحيطين، أو أن يمارس العنف ضد من هم أضعف منه كعملية تعويضية، وبخاصة أبنائه.

 لكن ذلك يتوقف، بحسب فرويز، على ما يتم تقديمه للأشخاص الذين تعرضوا للعنف من دعم لتخطي الأزمات والصدمات النفسية الناتجة عن ذلك العنف، فكلما كان هذا الدعم في سن مبكرة وبشكل صحيح، كلما كانت فرص النجاة من الآثار النفسية كبيرة، أما إذا تم إهمال الأطفال الذين تعرضوا للعنف، فإن آثار ذلك سيئة على الشخص والمجتمع المحيط به في المستقبل.


اقرأ أيضًا: ميراث القهر: لماذا يبرر البعض العنف ضد اﻷطفال؟


التأديب الشرعي

يرى فرويز أن جزءًا كبيرًا من العنف في الشارع انعكاس للعنف التربوي، سواءً في المنزل أو المدرسة، وهي دائرة لا يمكن الخروج منها إلا عندما تؤدي مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية والتعليمية والصحية الأدوار المنوط بها، وتتكفل برفع الوعي المجتمعي وتسهيل نفاذ الأهل إلى وسائل وطرق التربية الحديثة، من خلال برامج دعائية وتوعوية يعمل عليها المتخصصون، لكنه في الوقت نفسه لا يعفي الأهل من مسؤولية البحث عن تلك الوسائل والطرق، التي أصبح جزءًا كبيرًا منها متاحًا عبر الإنترنت.

غير أن التثقيف ليس الدور الوحيد المنوط بالدولة القيام به للحد من ممارسة العنف ضد الأطفال، فوجود قانون وتفعيله هو الضمانة الوحيدة لذلك، وفي حالة القانون المصري ثمة تضارب فيما يخص وصاية الأسرة على الطفل ودور الدولة في حمايته من العنف الواقع عليه، ففي حين تُلزم المادة 80 من الدستور الدولة "برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري"، فإن المادة السابعة مكرر (أ) من قانون الطفل تحظر "تعريض الطفل عمدًا لأي إيذاء بدني ضار أو ممارسة ضارة أو غير مشروعة"، ولكن "مع مراعاة واجبات وحقوق متولي رعاية الطفل، وحقه في التأديب المباح شرعًا".

وتمثل جملة "التأديب المباح شرعًا" التباسًا تشريعيا/فقهيا معقدًا، حيث إنها تتيح لمتولي رعاية الأطفال ممارسة العنف ضد من هم تحت ولايته كوسيلة للتقويم، وذلك ما ترتكز عليه ذهنية معظم أولي الأمر الذين يمارسون العنف ضد الأطفال بالأساس.

أحد الآباء الذين تحدثنا معهم في هذا التقرير، ويعمل معلمًا بمدرسة حكومية، يؤكد أن من حقه الشرعي تأديب أبنائه أو معاقبتهم، بأي وسيلة يراها ذات مردود جيد حتى لو كانت الضرب، فهو بهذه الطريقة يراعي مصلحتهم، وسوف يشكرونه حتمًا عندما يكبرون، مدعيًا أنه لن يقسوا على أبنائه وسوف يستطيع السيطرة على نفسه دون إيذائهم، وبالنظر إلى ما تضمنته شهادتي شروق وإسلام، يصعب الجزم بأن نتيجة العنف ستكون الشكر والعرفان.

يقول المحامي محمد سيد الطنطاوي، إن المادة السابعة مكرر (أ) "مادة إباحة"، جاءت بلغة مطاطة ومبهمة، فلا القانون ولا لائحته التنفيذية شرحا ما حدود التأديب الشرعي المباح، وما هو المدى الذي يجعله غير مباحًا، لأن لفظ "الإيذاء البدني الضار" كحد للإباحة، هو لفظ مطلقة وغير محدد، حيث إن الإيذاء والضرر نسبي، ويختلف أثره من شخص لآخر، فضلًا عن إهمالها للأثر النفسي للاعتداء البدني.

 ويرى الطنطاوي، أن المادة السابعة مكرر (أ) تتعارض مع الدستور المصري والذي ألزم الدولة في المادة 80 برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري، كما تتعارض مع الميثاق العالمي لحقوق الطفل، والموقعة عليه مصر والذي يُلزم الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف، أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أو إساءة المعاملة أو الاستغلال بما في ذلك الاستغلال الجنسي.

لكن ما هي المرجعية الفقهية التي ينطلق منها الحق الشرعي في التأديب؟

يقول الباحث في الفكر الديني، عصام الزهيري، إنه بينما تتجه نصائح وتنبيهات علماء النفس في المجال التربوي إلى الخطورة الشديدة المترتبة على استخدام الضرب كعقاب للأطفال، فقد وجد العقل الفقهي الإسلامي نفسه مشدودًا إلى إقرار الضرب والإيذاء البدني للأطفال، وعده بعضهم من التعذيب المشروع "لقد نظروا المشرعون إليه، لا كوسيلة تربوية يمكن تركها إذا أثبتت تجارب العلم وأكد المتخصصون فشلها، وإنما كحكم شرعي يتصورون أن له قداسة تعبدية، بسبب ارتباطه بنص حديث آحاد منسوب للنبي".

يضيف الزهيري أنه على الرغم من أن الكثير من علماء الدين رأوا أن تفشي ظاهرة ضرب الأطفال في المدارس والبيوت وحتى الطرقات كفيل بمنع الضرب كلية من باب سد الذرائع، معتمدين على قول عائشة بنت أبي بكر "ما ضرب رسول الله شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمة"، إلا أن المتشددين منهم ظلوا متمسكين بتلقين الناس نصوص تحضهم على ضرب الأطفال، ومنها حديث الرسول"مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر"، والمفارقة أن الرسول نفسه كما أتى على لسان عائشة لم يضرب أحدًا، خصوصًا بناته أو حفيديه المقربين الحسن والحسين، اللذين تفيض الأخبار في ذكر رحمته بهما.

الإصلاح التشريعي

كانت العقوبات البدنية عمومًا شائعة وراسخة في المجتمعات القديمة، قبل نزول الإسلام وبعده، ولم يكن في الوسع منع الضرب لعدم وجود وسائل تربوية وعقابية بديلة وآمنة، كالتي توصلت لها معارفنا اليوم، ما يستوجب مراجعة ذلك الشكل من أشكال التقويم الذي أثبت العلم خطره على الفرد والمجتمع، لكن الفقهاء السلفيون في رأي الزهيري، اتخذوا عكس ذلك المسلك وتوسعوا في إقرار و"تقعيد" عقوبة ضرب الأطفال.

ويتفق الطنطاوي وفرويز مع الزهيري حول ضرورة إلغاء مادة "التأديب الشرعي" وبعض مواد قانون العقوبات، وتغليظ عقوبات الاعتداء على الأطفال من قبل متولي الرعاية، حتى ولو لم يكن ما أفضى إليه الاعتداء متعمدًا.

لكنهم يروون، في الوقت نفسه، أن خطوة الإصلاح التشريعي يجب أن تتبعها خطوات أخرى، في سبيل توعية وتثقيف الأهالي بوسائل وطرق التربية الحديثة، وتمكينهم من النفاذ المعرفي لتلك الطرق بشكل مؤسسي، وكذلك توعية الأطفال بحقوقهم، وتفعيل اللجان والمؤسسات المعنية بحقوق الطفل، ونشر ثقافة المسؤولية الجماعية، بحيث تصبح حماية الأطفال مهمة تشاركية.

*الأسماء الواردة في التقرير هي أسماء مستعارة