"الأرقام المفزعة" لزواج الطفلات في مصر
ثغرات القانون التي حولت مليون طفلة إلى زوجات في 11 سنة
في صالون حلاقة بقرية صغيرة أشبه بالعزبة بمحافظة الشرقية، قابلتُ صديق الطفولة محمد محمود الذي كان زميلي في الصف السادس الابتدائي في معهد السعدية الأزهري الابتدائي قبل 14 عامًا. استطعت تمييزه بالكاد في المرآة وهو ينتظر دوره بينما يشذب الأسطى شعري بالمقص. استرجعت ملامح الطفل الذي عرفته باسم "سفروتة" كما كنا نطلق عليه أيامها لضعف بنيته، وتداعت في ذاكرتي صور شوارع السعدية الترابية، وكيف كنا نضطر للذهاب إلى مركز أبو حماد لقضاء أي احتياجات عدا المواد الغذائية.
بادرني بابتسامة مرتبكة "يوسف! شكلك اتغير خالص وتخنت!". بعد السلام جلسنا نستدعي من الذاكرة أسماء زملائنا في الفصل واحدًا تلو الآخر إلى أن نطقتُ باسم "ميادة السيد"، سألته "فاكرها؟".
لمعت عيناه ببريق غريب. ارتبك وهو يجيب "ميادة! طبعًا فاكرها"، استرسلتُ في الذكريات "البت دي اتجوزت بعد الابتدائي على طول، أنا فاكر يوم حنّتها". صمت محمد لحظة، ثم ألقى بقنبلته في هدوء قاتل "ميادة دلوقتي مرات أبويا".
تبدلت ملامح وجهي وأنا أسأله "إزاي...؟"، أجاب ببساطة "اتطلقت بعد جوازها الأولاني وأبويا اتجوزها". حاولت استرجاع ما في ذاكرتي عن والده، عسكري متطوع في الجيش، بنيته أقرب للشاويش عطية في أفلام إسماعيل ياسين.
تزوج والد محمد من ميادة بعد عام من طلاقها وهي بعد طفلة في سن الخامسة عشرة وأنجب منها طفلين، وهو الآن متقاعد.
قبل 14 عامًا كنا نلعب الكرة في الشارع. انتشر الخبر؛ "الليلة حنة ميادة". لم نعِ وقتها ما يعنيه الزواج، ولم تكن ميادة بدورها تعي.
هرولنا يومها إلى منزلها بملابس متسخة وأقدام تغطيها التراب. استقبلتنا الأغاني والأنوار. تسللنا بين الجموع. سمعتُ أحد زملائنا في الفصل يهمس ساخرًا "أمي جوه مع الجيران، وبيقولوا إنهم بيلفوا القماش والمناديل حوالين صدر ميادة، عشان تملا الفستان". لم أستوعب ما يعني ذلك، لكن صور الطفلة التي تُحشر في ثوب امرأة، والصدر وهو يُدعَّم بالقماش ليبدو ناضجًا، ظلت محفورة في مخيلتي.
ذكريات زواج ميادة والمآل الذي انتهت إليه دفعاني للبحث في بيانات نشرات الزواج والطلاق التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. حصرتُ البحث في عقود التصادق التي تعد بمثابة اعتراف متأخر بزواج عرفي سابق لفتيات وثقن عقودهن فور إتمامهن الثامنة عشرة؛ باعتبارها لحظة الاعتراف الرسمية. وحصرت التحليل في الفترة من 2014 حتى 2024. وإن كانت الأرقام التي وصلت لها هي في الواقع أقل من العدد الحقيقي، لأن هناك طفلات تزوجن ولم يوثق زواجهن فور إتمامهن الـ18 عامًا. وبهذا وجدت أن الأرقام في أقل تقديراتها تصل إلى 911 ألف فتاة بمعدل 227 ميادة كل يوم.
الأرقام مفزعة
في ديسمبر/كانون الأول 2023، جلس المستشار محمود فوزي، رئيس الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي آنذاك، ووزير الشؤون النيابية الحالي، أمام المذيعة قصواء الخلالي التي سألته في لقاء تليفزيوني عن سر تأثره الشديد عند ذكر منجزات الرئيس بالأرقام. اغرورقت عينا فوزي بالدموع وهو يبتلع ريقه ليطلق جملته الشهيرة "الأرقام مفزعة"، مستدركًا "لا يستطيع أحد إن هو.. مش هيلاقي كلام"، قاصدًا لا يستطيع أحد أن ينكرها.
الأرقام مفزعة أيضًا إذا ما نظرنا لثغرات التشريعات التي سمحت بانتهاك حقوق 911 ألف طفلة على الأقل خلال 11 سنة.
بمقارنة البيانات بإجمالي عقود الزواج الجديد، نجد أن واحدة من كل عشر زيجات في مصر كانت لطفلة، وشهد عام 2014 زواج 62.3 ألف، وكانت الذروة في عام 2017 بـ101 ألف، وانخفضت تدريجيًا حتى وصلت إلى 70 ألفًا عام 2024.
https://public.flourish.studio/visualisation/25740586/رغم ما تشي به الأرقام من تراجع بسيط لظاهرة زواج الطفلات أعقب سنوات الذروة (2017 - 2019)، فإن هذا التراجع الكلي ينخفض في بعض المحافظات، ويزيد في أخرى بنسب كبيرة، ليصبح التقلص جغرافيًا لا عدديًا.
"السويس دي السويد بتاعتنا. مش هتلاقي فيها زواج أطفال"، يقول أكرم الألفي، الباحث في الدراسات السكانية، الذي "يحرث في هذا الملف منذ 25 سنة"، كما يصف نفسه، ويربط ما بين ارتفاع معدلات التعليم في القاهرة والوجه البحري وتراجع الظاهرة فيهما.
يستدرك أكرم في حديثه لـ المنصة؛ "الخريطة الديموغرافية لمصر اتغيرت، الصعيد بقى بيمثل 38% من السكان، الصعيد كمان فيه 45% من كتلة المراهقين في البلد. الظاهرة وهي بتتراجع، الجزء الضعيف في المجتمع اللي هو ريف الصعيد نسبته من السكان بتزيد، فبيفضل العدد النهائي نسبيًا كبير".
لم تفلح التشريعات الحالية والاستراتيجيات الحكومية في القضاء على جرائم زواج الطفلات التي ترتكب بشكل يومي، إذ وصل مشروع قانون من الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى البرلمان، إلى جانب 3 مشاريع قوانين أخرى تقدم بها نواب، لكن عرقلها جميعها نواب أحزاب الموالاة، لإصرارهم على إرجاء المناقشة انتظارًا لرد الأزهر، بدعوى أنه سيكون وسيلتهم لإقناع أهالي دوائرهم بتجريم زواج الأطفال. ولكن الأزهر نفى وقتها وصول مشروع القانون له، وبعد ثلاث سنوات بقي مشروع القانون الحكومي حبيس أدراج البرلمان.
يحظر قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008 تزويج الأطفال، لكنه لا يُرتِّب على تلك الجريمة إلا جزاءً إداريًا فقط يقع على مَن وثقوا هذا الزواج. فيما يجرّم المشروع الحكومي تزويج الأطفال دون 18 سنة ويقترح عقابًا لمن يشاركون في تزويج أي طفل أو طفلة، بما يشمل الوالدين، بالحبس مدة لا تقل عن سنة، وغرامة تتراوح بين 50 ألفًا إلى 200 ألف جنيه.
كيف يُنتهكن؟
حلمت ميادة الطفلة النحيلة السمراء التي كانت تجلس في الفصل في "التختة" قبل الأخيرة بأن تصبح ذات يوم ممرضة، لكن أباها لم يمهلها اجتياز المرحلة الابتدائية ليبلغها أنها ستتزوج رجلًا في منتصف الثلاثينيات؛ "ده عريسك يا ميادة، وهنقرا الفاتحة الأسبوع الجاي"، تتذكر المرأة التي أصبح عمرها الآن 28 سنةً في حديثها لـ المنصة.
عُقد الزواج الأول وعمرها 13 سنة بورقةٍ مكتوبةٍ بخط اليد، وقّع عليها أهلها وشاهدان من الجيران، وأُشهِر في المسجد القريب من بيتها، بلا مأذون ولا تسجيل رسمي.
فبينما تحظر القوانين تسجيل زواج من هن دون الـ18، فإنها تترك الباب مفتوحًا للتحايل بتجاهل حماية الأطفال من براثن الزواج العرفي، ما يدفع الأهالي لتزويج طفلاتهم عرفيًا، ثم توثيق الزيجات رسميًا مع بلوغهن الثامنة عشرة، تحت مسمّى عقد التصادق.
في ليلة الزفاف الأول، جلست الأم إلى جانب طفلتها وهمست في أذنها "سيبيه يعمل اللي هو عايزه، ومتتكلميش"، تقول ميادة قبل أن تضيف "مكنتش فاهمة حاجة، غير إنه بيعمل حاجات عيب بس أمي فهمتني إن ده اللي بيحصل".
بعد عامين من ذلك الزواج، طلّقها زوجها شفهيًا بدعوى أنها لا تُنجب. عادت إلى بيت أبيها "مطلقةً" في سن الخامسة عشرة، ولكن هذه المرة بصدر لا يحتاج أقمشةً ليملأ فستانها الجديد.
لم تمضِ سنةٌ على طلاقها حتى ظهر في حياتها "راجل طيب" و"مستور"، وهو ما اعتبره أهلها كافيًا دون أي اعتبار لأن عمره 55 سنة، ولا أن ابنته تصغر عروسته الجديدة بعام واحد، وأن ابنه في نفس عمرها "كنت بلعب مع ابنه في نفس الفصل وفجأة بقى أبوه جوزي. قالولي نصيبك كده وربنا عايزلك الستر" تقول ميادة.
أنجبت ميادة طفلين، وقطعت المراحل من طفلةٍ إلى زوجة إلى مطلقة ثم إلى أمّ لم تكمل عامها السادس عشر، ولا تتذكر من زفافها الثاني سوى وجهٍ غريب مرعب، ويدٍ خشنة أمسكت بيدها الصغيرة، وصوتها المرتبك وهي تناديه "عمي"، ما جعل أولادهما ينادونه "جدي"، مثلما يفعل أولاد ابنه.
حالَ ميادة من حال 60 ألف طفلة مصرية خضن تجربة الزواج مرتين قبل أن يبلغن سن الثامنة عشرة خلال 5 سنوات فقط من 2020 حتى 2024، و116 طفلة فقدن أزواجهن مبكرًا وأُدرجن ضمن فئة "الأرامل" وقت تسجيل الزواج الثاني، بملامح لم تغادرها الطفولة بعد.
https://public.flourish.studio/visualisation/25741884/كما أن ميادة واحدةٌ في طابور طويل من الطفلات اللاتي زُففن إلى رجالٍ يكبرهن بسنواتٍ وأحيانًا بعقود.
يكشف تحليل الأرقام بين عامي 2014 و2024، فجوات عمرية ضخمة؛ إذ رصدنا 92 حالة زواج موثقة لطفلات بمسنين تخطوا الخامسة والسبعين، ونحو 1250 طفلة من رجال أكبر من الخمسين عامًا، و17 ألف طفلة كان فيها الزوج نفسه طفلًا لم يبلغ الثامنة عشرة، ليواجه الزوجان معًا مسؤوليات تفوق قدرتهما النفسية والمادية.
كما رصدنا أن ما يعادل ربع مليون طفلة تقريبًا، بنسبة 28%، تزوجن بشباب بين 18 و20 عامًا، وأن النسبة الأكبر، بما يقارب نصف الطفلات، تزوجن بشباب بين الـ20 والـ25، ونحو 162 ألف طفلة تزوّجن بشباب بين الـ25 والـ30.
وتمتد القائمة لتشمل آلافًا من الأربعينيين والخمسينيين، وهو ما يعد وفق الأمم المتحدة شكلًا من أشكال الاتجار بالبشر.
https://public.flourish.studio/visualisation/25744753/بين الطفلات من يكون حظهن أقسى من ميادة، ويتعرضن لانتهاكات يومية واعتداءات من الأزواج والأهالي، بل يكون جزاؤهن القتل أحيانًا مثل الطفلة فاتن زكي، التي قتلها زوجها وهي في الرابعة عشرة من عمرها من أجل طبق مكرونة.
في قرية كفر يعقوب بمحافظة الغربية، جلست الطفلة فاتن أمام طبق من المكرونة لتأكل بعد يوم طويل من العمل المنزلي، وحين عاد زوجها سائق التوكتوك الشاب، استشاط غضبًا لأنها تناولت طعامها دون انتظاره هو وأهله. انهال عليها بالضرب، وحرقها بالمكواة، قبل أن يضربها بعصا غليظة على رأسها، ويسحبها إلى سطح المنزل ويلقيها.
فارقت فاتن الحياة بعد ساعات قليلة من وصولها المستشفى. أما الزوج القاتل، فبعدما أحالت محكمة جنايات طنطا أوراقه إلى المفتي، في خطوة إجرائية تسبق إصدار أحكام الإعدام، عادت محكمة استئناف طنطا، في 13 من أكتوبر 2025، وخففت الحكم عليه إلى السجن سبع سنوات.
https://public.flourish.studio/visualisation/25783309/تُظهر بيانات الأعوام 2022 حتى 2024 أن 60 ألف طفلة زُففن إلى أزواجهن وهنّ في الثالثة عشرة والرابعة عشرة ولم تُسجَّل زيجاتهن رسميًا إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة قضينها زوجات بلا أوراق، وأمهات بلا اعتراف، حتى يحين موعد التصادق الذي يجعل من الطفلة المنتهكة زوجة بالقانون.
بؤر الانتهاكات
يشكل زواج الطفلات ما بين 70 - 80% من إجمالي عقود زواج التصادق في مصر، وتستحوذ 6 محافظات، هي الجيزة والبحيرة والدقهلية والفيوم والشرقية والمنيا على نصف هذه الجرائم تقريبًا، التي تُرتكب 83% منها في المناطق الريفية وفقًا لتحليلنا للبيانات المتاحة من عام 2016 حتى عام 2024.
وبينما تتراجع الأرقام في أغلب أنحاء الجمهورية، خاصة في محافظة الجيزة التي تراجعت فيها عقود التصادق بأكثر من النصف، من 17.5 ألف عقد في 2019 إلى نحو 7 آلاف في 2024؛ نجد أن 5 محافظات تكسر هذه القاعدة، وهي البحيرة والفيوم والشرقية ودمياط والإسكندرية، إذ عاودت الأرقام الصعود خلال العامين الأخيرين.
https://public.flourish.studio/visualisation/25786546/قد تكون الأرقام المطلقة خادعة بسبب تفاوت الكثافة السكانية، ولكن عند النظر إلى "النسبة" بدلاً من "العدد" خلال السنوات الأربع الأخيرة، تتضح الصورة أكثر. فرغم انخفاض عدد الحالات في محافظات مطروح وشمال وجنوب سينا، فإن نسبتها إلى إجمالي عقود الزواج تكشف عن معدلات مرتفعة.
في محافظة مطروح مثلًا، تتزوج ثلاث من بين كل خمس طفلات دون سن الـ18. لكن الكارثة تبلغ ذروتها في مدينة سيدي براني حيث 9 من كل 10 زيجات لطفلات، وواحدة من كل اثنتين في جنوب سيناء، وطفلة من كل ثلاثٍ في شمال سيناء، وترتفع النسبة في مدينتي رفح ونخل حيث تتزوج 7 طفلات من بين كل عشر، وفي مدينتي حلايب وشلاتين التابعتين لمحافظة البحر الأحمر تتزوج 8 طفلات من بين كل 10. بينما يسجل مركز طابا حالة فريدة تكاد تكون فيها جميع الزيجات لطفلات بلا استثناء.
يضع الباحث أكرم الألفي هذه المناطق خارج نطاق التحليل التقليدي معتبرًا أنها "محافظات بدوية تحكمها العادات"، لكن محافظة الوادي الجديد ذات الطابع البدوي أيضًا تكسر هذه القاعدة وتثبت أن زواج الأطفال ليس قدرًا محتومًا، حيث تتراجع النسبة بها إلى 5% من إجمالي الزيجات.
وبالعودة إلى وادي النيل، تظهر الفيوم بمعدل طفلة من كل أربعٍ، تليها البحيرة وبني سويف وكفر الشيخ وقنا بمعدل طفلة من كل خمسٍ فتيات.
https://public.flourish.studio/visualisation/25979958/ولرصد البؤر التي تتراكم فيها زيجات الأطفال، يظهر التحليل العددي لمراكز الجمهورية خلال الفترة من 2021 حتى 2024، تصدّر أطسا بمحافظة الفيوم بـ9303 حالة تصادق، يليها مركز كفر الدوار بالبحيرة بـ8096 حالة، ثم مركز الحسينية بالشرقية بـ7824 حالة، ثم مركز طامية بالفيوم بـ6950 حالة. كما يحتل مركز سمالوط غرب بالمنيا المرتبة الخامسة بـ6497 حالة، ومركز الواسطى ببني سويف بـ6276 حالة.
https://public.flourish.studio/visualisation/25982614/قصة أثقل من غيرها
تتشابه الحكايات، لكن قصة ميار عبد الفتّاح(*) وقعها أثقل من غيرها، فهي تزوّجت في عمر الثالثة عشرة في إحدى قرى مركز الحسينية بمحافظة الشرقية. وبعد عامٍ واحد فقط، توفي زوجها وهي ما زالت حُبلى.
حين وضعت طفلها، لم تستطع تسجيله باسم والده لأن عقد الزواج لم يوثّق. عُقدت جلسة ودية بين عائلتها وعائلة الزوج، انتهت إلى حكم عرفي يقضي بأن يُسجَّل الطفل باسم جدّه والد أبيه. لكن أعمامه رفضوا خوفًا من أن يُشاركهم المولود في الميراث، ليسُجّل الطفل باسم والد أمه بعد أسابيع من الشدّ والجذب، ليصبح أمام القانون أخًا لأمه.
رفضت ميار الحديث مع المنصة، لكن والدتها آمال وافقت، وحاولت تبرير تزويج ابنتها وهي طفلة بأن "سن الجواز الصغير في البلد مش غريب، ومحدش بيقول عليه حاجه، وبنتي كانت فايرة وجسمها يستحمل"، قبل أن تستدرك "لو كنت عارفة اللي هيحصل مكنتش جوزتها".
قادني أرشيف البحث إلى حالات مشابهة لا تقل مرارة، من بينها طفلة في أبو كبير بالشرقية تزوجت في عمر الخامسة عشرة، وسرعان ما أنجبت طفلًا. ولأن زواجها غير موثق، لم يكن بالإمكان تسجيل المولود باسم والديه الحقيقيين، فلجأت الأسرة إلى حيلة اعتقدوا أنها مؤقتة؛ سجّل والدُ الزوج، أي جد الطفل، المولود في الأوراق الرسمية باسمه واسم زوجته.
كانت الأسرة تعتقد أن الأمر مجرد ورقة سيتم تعديلها لاحقًا، لكن بعد ثلاث سنوات عندما بلغت الفتاة سن 18 ووثقت الزواج، ألحَّت الأم الشابة على زوجها بضرورة تصويب نسب نجلهما وإعادة الأمور إلى نصابها، فوجدت نفسها في مواجهة كابوس قانوني؛ جدل كبير وقضايا معقدة وأوراق لا تنتهي، ودعاوى قضائية انتهت برفض المحكمة لدعواها، لتظل أمًا لطفلٍ هو رسميًا "أخو زوجها".
حاولت المنصة التواصل مع أكثر من مأذون لكنهم نفوا جميعًا تحرير عقود زواج لأطفال، ورفضوا التعليق، حتى وصلت عن طريق إحدى الحالات إلى رجل من مركز أبو حماد بمحافظة الشرقية يدعى "الشيخ ممدوح"(*) في العقد الخامس، لا يعمل مأذونًا بشكل رسمي، ولكنه يقدم نفسه في دور "الضامن" الاجتماعي المعتمد، نظرًا لأنه كما يصف نفسه "كبير عائلة وأقرب إلى القاضي العرفي".
يوضح "الشيخ ممدوح" لـ المنصة أنه يحرر العقود بناءً على رغبة الأهالي، وأنه "ضامن للجوازة، وباخد تعهد من أهل العريس بمبلغ مالي"، مصرًا على أن "خدمته" هذه تمنع الكوارث "أنا مفيش بنت (طفلة) جوزتها إلا كَتَبت بعد كده"، يقصد بالكتابة تسجيل العقد رسميًا.
حكى ممدوح عن طفلة في قريته، قرية عليم بمركز أبو حماد، تزوجت ولم يكن ضامنًا لها "كانت كاتبة عرفي واتطلّقت وهي حامل. وبعتوا لأبوها، الواد (زوج الفتاة) عَنَدَ ورفض، ومعرفوش ياخدوا منه لا حق ولا باطل. الطفل اتكتب باسم أبوها (جد الطفل)، واتجوزت عرفي تاني من قريب".
يبرر ممدوح ما يفعله بأنه "الدين ما حرّمش الجواز دا" مؤكدًا وجوده في عدد من دول العالم، فضلًا عن فتاوى مشايخ السلفية، أبرزهم فتوى مصطفى العدوي، أحد أقطاب السلفية في مصر، بجواز "الدخول على الفتاة" قبل البلوغ، بينما هو جريمة اعتداء جنسي على الأطفال وفق الأمم المتحدة.
لماذا يُنتهكن؟
خلال إعداد هذا التحقيق، تواصلت المنصة مع 5 أسر من محافظات شمال سيناء والإسماعيلية والشرقية، زوجوا بناتهم دون السن القانونية خلال الأشهر الستة الماضية. في كل مرة، كانت الكلمة السحرية جاهزة على طرف لسانهم "الستر"، وله عدة وجوه، حسب ما قالوا في مقابلات أو مكالمات هاتفية، فيما وضعت أسرة واحدة تخفيف الحمل عن كاهلهم دافعًا لفعلتهم.
فاطمة عبد العظيم، وهي ربة منزل أربعينية من قرية جلبانة بالقنطرة شرق، محافظة الإسماعيلية، زوجت بناتها الثلاث في سن الطفولة، "طلعوا من تالتة إعدادي وجوزتهم، أنا كمان متجوزه 14 سنة". لكنها تنفي أن يكون الفقر سببًا "إحنا قادرين والحمد لله لكن دي عاداتنا، البنت لما ييجي عَدَلها إيه اللي يقعدها".
التبرير ذاته قالته الحاجة عيدة سالم، وهي مِعلِّمة أربعينية في سوق الاثنين بمركز أبو حماد بالشرقية؛ لكنها أضافت التنافس العائلي "طالما قادرين نجهزها يبقى بنتي تتجوز الأول، العائلة بتتكلم بنت مين اتجوزت الأول. إشمعنى بناتهم يتجوزوا قبل بنتي"، تقول لـ المنصة.
عندما واجهتها بكابوس ميار وأطفالها الذين بلا أوراق، قالت "مش بنرمي بناتنا إحنا بناخد ضمانات عليهم وفيه قعدة رجالة بيمضُّوا العريس ورقة على بياض ووصل أمانة".
كنت أظن عند بداية العمل على هذا التحقيق أن تزويج الأطفال مرتبط بالفقر، لكن الألفي استبعد هذه الفرضية "خالص، مش هتلاقيه"؛ قالها لي بلهجة قاطعة، الأسباب الحقيقية بالنسبة له هي "العادات"، خاصة في ريف الصعيد والمحافظات الحدودية.
يتفق معه الخبير في الدراسات السكانية أيمن زهري، ويقول إن التذبذب في أعداد تزويج الأطفال المسجلة خلال العقد الماضي لا يعكس بالضرورة ارتباطًا مباشرًا بالفقر، ويرجعه إلى تجذر "عقلية سلفية اجتماعية" ووجود فجوة قانونية خطيرة لا تزال قائمة "المجتمع ما زال شديد السلفية، سلفية اقتصادية وسلفية اجتماعية. وفيه ناس مهمة جدًا قد يصلوا إلى درجة إنك تصفهم بالمفكرين، ولسه بيعتقدوا إن البنت تقعد في البيت عشان الولد يشتغل" يقول لـ المنصة.
قوة اقتصادية معطلّة
لا يفضل سوق العمل النساء؛ يوضح زهري أن العديد من الشابات يبحثن عن عمل عقب التخرج دون جدوى لعدم وجود فرص لائقة وبنية تحتية آمنة، ومع طول فترة البطالة تتحول المرأة إلى ما يطلق عليه العمالة المحبَطة، ما يدفعهن في النهاية إلى الخروج من سوق العمل بالكامل، وبالتالي لا يُحتسبن ضمن المتعطلين، مما يقلل نسبة مساهمتهن في النشاط الاقتصادي.
و يطغى الذكور على سوق العمل، فمن بين قوة عمل بلغت 31 مليون فرد، في الربع الأول من 2024، كان نصيب الذكور 25.5 مليون بما يعادل 81.4%، مقابل 5.8 مليون أنثى فقط، بواقع 18.6%، وهو ما يعني أن أنثى واحدة تشارك في قوة العمل مقابل 4 ذكور وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وتكشف أرقام مصر في تقرير الفجوة العالمية بين الرجال والنساء، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، جانبًا من أسباب المشكلة. فوفق النسخة الأخيرة لعام 2025 تقع مصر في الترتيب 140 من 148 دولة في إتاحة المشاركة الاقتصادية وعدالة النفاذ للفرص للنساء، وهو ما تؤكده المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فبينما تستمر الدولة في ادعاءاتها المعلنة في ملف تمكين النساء، بل وتحتفي بـإنجازاتها، فإن كل المؤشرات الإحصائية وتقارير المؤسسات الدولية الشريكة للدولة إضافة إلى الواقع المحيط بالنساء تعلن جميعها تعمق الأزمة عامًا بعد عام.
بالإضافة إلى ذلك يرى الألفي أن التعليم أو بالأحرى النقطة التي ينقطع عندها التعليم، واحد من الأسباب. "بيقف عند الإعدادية وبداية الدبلومات الفنية، شوف نسبة البنات في ثانوي بتفرق في بعض المحافظات، شوف في بعض المناطق الصغيرة".
وترصد دراسة ميدانية على عينة من 383 أسرة أصدرتها جامعة أسيوط عام 2019 الأسباب وراء تزويج الأسر لبناتها دون السن القانونية، وهي "سترة للبنت وجاء نصيبها" بنسبة 40.2%، ثم الجهل بالعواقب، والعادات القديمة بنسبة 17.5%، وأخيرًا عدم تعليم البنت بنسبة 16.4%، إلى جانب دوافع اقتصادية واجتماعية أخرى.
تكشف بيانات الأعوام من 2021 إلى 2024 وجود ارتباط وثيق بين المستوى التعليمي وانتشار ظاهرة زواج الطفلات، حيث تتركز الأغلبية الساحقة من الحالات ضمن الفئات ذات التحصيل التعليمي المنخفض والمتوسط.
تتصدر فئة الشهادة المتوسطة التي تشمل الدبلومات الفنية القائمة بفارق شاسع، مسجلة أكثر 100 ألف حالة. وتأتي فئة الأُميّات في المرتبة الثانية بإجمالي 50 ألف حالة، تليها فئة الحاصلات على شهادة أقل من المتوسطة، مثل الإعدادية، بنحو 40 ألف حالة، وأخيرًا من تقرأ وتكتب بـ23.3 ألف حالة.
https://public.flourish.studio/visualisation/26119790/كنا بحاجة لسماع رد الجهة المنوط بها حماية المرأة، فتواصلتُ مع المجلس القومي للمرأة للتعليق. لكن بعد سماع الأسئلة، طُلب إرسال اسمي والأسئلة كاملة على واتساب، ثم طُلب رابط لموقع المنصة، ورغم المتابعة المتكررة طوال أسبوعين وانتظار أسبوع ثالث، لم نتلقَّ أي رد حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
تركت اللاب توب والأرقام، وبقي وجه محمد "السفروتة" في مخيلتي وهو يخبرني بهدوء قاتل "ميادة دي دلوقتي مرات أبويا".
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر.
