تصميم: يوسف أيمن - المنصة

حكاية كل عام: أعياد مجيدة في بيئة مسممة

منشور الاثنين 11 يناير 2021

 

(1)

في دمشق، باستثناء المدينة القديمة وبعض الأحياء الشعبية التي تقع على الأطراف، لم تكن البنايات متلاصقة، فكل بناية يحيط بها حيّز مُسوّر من الفراغ يفصلها عما يحيط بها، يصلح ليُستخدم كحديقة صغيرة تخصص عادةً لساكني الطوابق الأرضية، تعويضًا ربما عن افتقادهم مساحات التنفس التي توفرها الشرفات.

لم أكن أعرف أن البنايات يمكن أن تكون كلها متلاصقة إلا عندما وصلت إلى القاهرة، وكان هذا بالنسبة لمخيلة طفل في العاشرة، واحدًا من بين أمور كثيرة مدهشة. 

كانت هذه الحدائق الصغيرة تزدهر في الصيف عندما يعتدل جو المدينة البارد، ملعبٌ للأطفال طوال النهار وفي الليل موقع مثالي لسهرات العائلة وجلسات الأصدقاء أو ربما حفل شواء. أما في الشتاء، عندما يكون الأطفال نهارًا في مدارسهم وآباؤهم يحتمون من قسوة البرد داخل بيوتهم، كانت هذه الحدائق تخرج مؤقتًا من الخدمة إلا مع اقتراب عيد الميلاد ورأس السنة، حيث تزدان بألوانٍ وزينة، وأضواء عيد الميلاد. 

احتفالات عيد الميلاد في دمشق - الصورة: وكالة الأنباء السورية سانا

مع منتصف ديسمبر/ كانون الأول تبدأ المدينة كلها بالتأهب، أشجار الميلاد الصناعية تباع في المحال والشوارع مع علب زينتها وأشجار أخرى طبيعية أكبر وأضخم تنتصب بزهوٍ بزينتها وأضوائها في عدد من ميادين المدينة وساحاتها، وكانت هذه كلها بالإضافة إلى الإجازة الطويلة المرتقبة لجميع الموظفين وطلبة المدارس والجامعات، أسبابًا وجيهةً للفرح. 

أما في ليلة العيد نفسها فتعيش المدينة ما يشبه الكرنفال؛ أطفال كشافة الكنائس يقيمون الاستعراضات في الشوارع المزدحمة، ونسخ مختلفة من بابا نويل، كانت كافيةً لإرباك طفل اعتقد طويلًا أن بابا نويل هذا شخص معيّن يأتي إلى العالم مرة كل سنة، يعطي الهدايا للأطفال عشوائيًا في الشوارع.

كشافة الكنائس في عيد الميلاد بدمشق. الصورة: وكالة الأنباء السورية سانا

مظاهر احتفال تعمُّ الأرجاء كلها، مطاعم وملاهٍ تعلن عن برامجها في الليلة الموعودة؛ برنامج غنائي هنا وسهرة موسيقية هناك ومطاعم ممتلئة عن آخرها بعد أن ظلت أيامًا تدعو الناس في إعلانات تبثها محطات الراديو أن يسارعوا بالحجز، لأن عدد الطاولات الشاغرة بات محدودًا. 

كل شيء في المدينة ينبئ بالفرح ويشي بالعيد، حتى خريطة البرامج اليومية للتلفزيون الحكومي كان تتغير لتواكب الحدث؛ أفلام مميزة ومسرحيات لا تعرض في العادة، خريطة برامج لا تختلف كثيرًا عن التي تقدَّم في عيدي الفطر والأضحى. 

عدد البيوت المزينة في أحياء المدينة، وكثافة الذين يحتفلون في الشوارع والمطاعم، لم تكن متناسبةً أبدًا مع نسبة السكان المسيحيين في سوريا والتي كانت تراوح وقتها، في مطلع التسعينيات، الـ 10% تقريبًا. 

لقد كان الجميع يحتفل.


(2)

العيد الأول في القاهرة بدا مدهشًا تمامًا مثل تلاصق البنايات؛ شوارع المدينة تعيش ازدحامها اليومي، الموظفون في طريقهم إلى العمل بنفس الوتيرة العادية والطلبة يستعدون لأحد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول موعده في 8 يناير/ كانون الثاني، ومذيعة في التلفزيون الحكومي تهنئ "الإخوة الأقباط" بعيد الميلاد المجيد ثم تستعرض ما اتخذ من إجراءات لتأمين الكنائس من تهديدات بتفجيرها. 

 

اشتباكات بين الشرطة ومحتجين مسيحيين في محيط كنيسة القديسين بعد ساعات من تفجيرها في يناير 2011. الصورة برخصة المشاع الإبداعي من oxfamnovib - فليكر.

في الشوارع، تنتشر الحواجز الأمنية في محيط جميع الكنائس، الضباط والجنود المسؤولون عن التأمين يزاحمون جموع المصلين الذين يعبرون ممرًا ضيقًا لضمان إدخالهم إلى الكنيسة سالمين. وفي البيت، صديق مسيحي للعائلة يعتدل في جلسته وهو يتحدث بفخر عن نجاح الكنيسة في تحقيق نصر كبير؛ لقد أصبح التلفزيون الحكومي ينقل قداس العيد على الهواء مباشرة.

يبدو أننا انتصرنا في معركة ما لم أفهم على الفور من هو الطرف الآخر فيها، تمامًا مثلما لم أفهم لماذا يحصل الموظفون المسيحيون وحدهم على إجازة في أعيادهم،  أو لماذا عليَّ أن أخصص عدة ساعات في يوم العيد، لمراجعة المناهج مرة أخيرة في ليلة الامتحان.  

لاحقًا عرفت أن هناك فتوى تحرّم تهنئة "النصارى" (أو الكفار بشكل عام) من أحد زملاء المدرسة. أخبرني بذلك بنبرة اعتذارية وقال لي إنه سيظل صديقي. وكان هذا شيئًا آخر لم أفهمه وقتها، وما زلت، ذلك الاستنتاج العجيب بأن تهنئة أحدهم بعيده تعني بالضرورة أنني أؤمن بالعقيدة التي تقف وراء هذا العيد. كان السؤال المُلِحُّ وقتها؛ هل أصبحت مسلمًا عندما سهرت مع أصدقائي في ليلة الفطر حتى صلاة الفجر؟


(3)

في كلية الحقوق درست أساليب التحريم ضمن مادة أصول الفقة. وعندما عدت بعدها إلى فتوى تحريم التهنئة، والتي باتت بفضل الإنترنت نقاشًا يتجدد بشراسة في كل عيد مسيحي، فهمت كيف أنها لا تستند على نصٍّ واضح بل تعتمد على تأويلات متشددة ومنغلقة لنصٍّ لم يتناول التهنئة بذاتها بل يتحدث في موضوع آخر.

كان أمرًا مثيرًا للقلق أن يلقى تفسير منغلق مثل هذا بما يرتبه من أسباب كثيرة للصراع، كل هذا الرواج.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وهي مؤسسة رسمية سعودية توازي دار الإفتاء في مصر، أصدرت عندما كان يترأسها الشيخ عبد العزيز بن باز الذي أفتى في موضع آخر بتكفير القائلين بكروية الأرض، أصدرت الفتوى رقم 11168‏ بتحريم "تهنئة النصارى بأعيادهم" باعتبار أن هذا الفعل "فيه تودد إليهم وطلب لمحبتهم وإشعار بالرضى عنهم وعن شعائرهم وهذا لا يجوز، بل الواجب إظهار العداوة لهم وتبين بغضهم؛ لأنهم يحادون الله جل وعلا ويشركون معه غيره ويجعلون له صاحبة وولدا".

يعلن من أصدر هذه الفتوى ابتداءً، ومن رددها من بعده لاحقًا، أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع العالم كله وعداءٍ مستمر مع الجميع وتنصل كامل من فكرة التعايش بحد ذاتها، لا بسبب سياقات اجتماعية يتعرضون فيها للظلم مثلًا بل رغبة صافية في إظهار العداوة وتكريس البغض. رغبة تحققت في النهاية لمن أصدر هذه الفتوى على نطاق أوسع بعد أن ظهر الإنترنت لاحقًا وأصبحنا نعيش في تريندات متلاحقة، دون أن تنجح الصيغ المُلطّفة التي تحاول تقديم هذه العداوة في طبق من تسامح مصطنع، يحاول الإدعاء بأن البر والعدل لا يتعارضان مع تحريم التهنئة، في تخفيف أثر الكراهية. 


(4)

مع كلِّ عيد إذن يتجدد التريند نفسه؛ مسلمون يهنئون أصدقاءهم المسيحيين بالعيد وآخرون يردّون عليهم بفتاوى الكراهية هذه وتبدأ الدائرة اللعينة في الدوران، ليتصاعد الجدل الفقهي ويتشعّب، أحيانًا عن حدود التسامح مع الآخر وأحيانًا أخرى عن ضرورة الاندماج، ولكنه في كل مرة ينتهي إلى مناقشات فقهية حول صحة العقيدة المسيحية من المنظور الإسلامي، وجدالات لا تنتهي عن تحريف الإنجيل.

وبدلًا من مظاهر الاحتفال التي تعم الشوارع، والأشجار المزينة الكبيرة في الميادين والأصغر قليلًا في شرفات المنازل، والنسخ المتكررة والمُربكة لبابا نويل، وطقوس تبادل الهدايا والمشاركة في المناسبات السعيدة، يقضي المسيحيون أعيادهم كأقلية منبوذة عليها التعايش مع إمعان الجميع في تذكيرها كلَّ عيد أن عقيدتها فاسدة وإنجيلها مُحرّف، وأفضل ما قد تحصل عليه وسط هذه المعركة الفقهية، تهنئة شطرها الأول موجه لمن يحتفلون بالعيد وأنصافها اللاحقة تشتبك مع فتاوى الكراهية في تأكيد لما هو واضح بالفعل؛ هذا العيد لا يتعلق بكم بل بالجدل عنكم في عقيدتنا.

في هذه اللحظة فقط، تبدو تهنئة مذيعة التلفزيون الحكومي لـ "الإخوة الأقباط" منطقيةً، تمامًا مثل النشوة التي لمعت في أعين صديق العائلة المسيحي عندما تحدث عن بث قداس العيد على شاشة التلفزيون الحكومي، كانتصار بائس على كائنات تشبه الزومبي، تنجح كل سنة في تسميم بيئة العيد، ثم تطرح بعد ذلك تساؤلات تبدو بريئة على شاكلة؛ "وهو إنت يعني هتموت لو ماقلتلكش كل سنة وإنت طيب؟".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.