تصميم: يوسف أيمن - المنصة

قصة وجيه غالي: شهاب لمع فهوى

منشور الثلاثاء 11 مايو 2021

 

في غضون الأعوام الثلاثة الأخيرة، أصدرت دور النشر المصرية ترجمات لخمسة كتب لوجيه غالي، الذي كان قد غادر عالمنا ومات منتحرًا عن عمر سبعة أو ثمانية وثلاثين عامًا، في شقة صديقته الكاتبة والمحررة الإنجليزية ديانا أتهيل، بإحدى ضواحي لندن في اليوم التالي لليلة عيد الميلاد عام 1968.

بدا الأمر مدهشًا، وهذا الاهتمام مفاجئًا، ليس فقط لأن غالي كان قد رحل منذ أكثر من نصف قرن، بل أيضا لأن روايته الوحيدة، الفاتنة في حقيقة الأمر، بيرة في نادي البلياردو، كانت صدرت بالفعل قبل أكثر من نصف قرن أيضًا عن واحدة من كبريات دور النشر الإنجليزية وحققت مبيعات غير مسبوقة وصدرت منها عدة طبعات، وبعد شهور صدرت طبعة أخرى في الولايات المتحدة، ثم ترجمت إلى عدة لغات لم تكن العربية من بينها، بسبب الخطيئة التي ارتكبها غالي بزيارته إسرائيل، وكتابة عدة مقالات نشرتها الصحف الإنجليزية في أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967. ثم صدرت ترجمة عربية عن دار الشروق عام 2013 بمناسبة مرور خمسين عامًا على صدور الرواية باللغة الأصلية التي كتبت بها عام 1964، وهي ترجمة بديعة قامت بها إيمان مرسال وريم الريس. 

 

غلاف الطبعة الإنجليزية الأولى من بيرة في نادي البلياردو

على أي حال، سوف أحاول في السطور التالية إعادة بناء قصة وجيه غالي، كما أحاول معرفة سر هذا الاهتمام المفاجئ من خلال إعادة قراءة الكتب التالية: بيرة في نادي البلياردو بالطبع فهي روايته الوحيدة الصادرة في حياته، وكتاب بعد جنازة لديانا أتهيل وترجمة نرمين نزار وأصدره المركز القومي للترجمة عام 2018 وهو صياغة شبه روائية بعد تجهيل اسم غالي والإشارة له باسم ديدي وتغيير أغلب الأسماء الحقيقية، ورسائل السنوات الأخيرة ترجمة وتحرير وائل عشري وأصدرته دار المحروسة عام 2019، و ترجمة المجموعة القصصية الورود حقيقية وأصدرتها دار المحروسة ترجمة وائل عشري أيضًا في العام نفسه، ثم مجلدان أصدرتهما دار الكتب خان بعنوان يوميات وجيه غالي.. كاتب الستينيات المتأرجحة يغطي الأول السنوات من 1964 إلى 1966، والثاني يغطي السنوات من 1966 إلى 1968، من إعداد وتحرير مي حواس وترجمة معتنى بها لمحمد الدخاخني.

ربما يكون مناسبًا أن أبدأ ببعض السطور التي ترسم الخطوط العريضة لغالي. ولد في الإسكندرية لواحدة من العائلات القبطية الأرستقراطية، وأرسل إلى فيكتوريا كولدج ليتلقى تعليمه، والتي كانت واحدةً من أرقى المدارس وتتكلف الدراسة فيها مبالغ طائلة، ومخصصة لأبناء الصفوة المصرية والعربية، فقد درس فيها الملك حسين مثلًا، كما أن الممثلين السينمائيين عمر الشريف وأحمد رمزي كانا من بين زملائه في المدرسة.

وتشير بعض المصادر إلى أنه بسبب الخلافات التي نشبت بينه وبين زوج أمه، والحقيقة أنه لم يذكر أمه بأي خير سواء في يومياته أو رسائله، دُفع للإقامة مع أقارب مختلفين، ثم غادر مصر في وقت مبكر، والمؤكد أنه كانت هناك مشاكل بينه وبين الحكم العسكري الذي بدأ في مصر مما أدى لخروجه المبكر.

عاش مثلا في باريس بين عامي 1953 و1954 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يكمل دراسته إلى لندن بين 1955 و1958 والسويد 1957 و1960 وانتقل إلى ألمانيا (الغربية في ذلك الزمان) وعاش فيها السنوات الست التالية. خلال تلك السنوات عمل في عدد كبير من المهن؛ في الميناء أو عامل في مصنع أو موظف مدني في الجيش البريطاني في ألمانيا، كما نشر روايته أيضًا، لكنه كان كره ألمانيا التي كانت ما تزال، حسب يومياته، نازية وعنصرية في جوهرها، وفي تلك الأثناء أيضًا وقعت له حوادث مخيفة أثناء قيادته لسيارته أو أثناء التزلج على الجليد، وكانت تنتهي بالكسور وليس مجرد كدمات ورضوض.

عانى غالي دائمًا من مشاكل تتعلق بالإقامة، ليس فقط بعد أن سُحب جوازه بسبب زيارته لإسرائيل عام 1967 بل قبل ذلك أيضًا. وكان قد تعرف على المحررة والكاتبة ديانا أتهيل التي حررت له روايته، وكانت معجبة به وبكتابته بشدة، ونمت بينهما صداقة قوية وشعرت بمسؤولية تجاهه، وبذلت جهودًا مضنية من أجل موافقة السلطات في بريطانيا على انتقاله إلى لندن، وبسبب ظروفه المادية المتعثرة عاش معها في شقتها وأنفقت عليه، ولم يستطع أن يسدد ديونه لها.

على أي حال، انتهى الأمر بغالي للانتحار في شقة ديانا عام 1969 بعد أن كتب وصيته، وتركها مع ما يزيد على 700 صفحة من المذكرات التي أوصى أن تكون في حوزة ديانا وأن تعمل على نشرها، وأرفق بالوصية قائمة بديونه ومنها ما اقترضه من ديانا، لتسديد ديونه من عائداتها، وفيما بعد نشرت ديانا أتهيل كتابها عنه، بينما نُشرت رسائله بجهود أكاديمية بعد سنوات طويلة.

بيرة في نادي البلياردو

أما روايته الفاتنة حقا وبالغة العذوبة بيرة في نادي البلياردو، فقد كانت قادرة على أن تنقل روح الستينيات وجوهرها من خلال راويها رام الأقرب لشخصية وجيه غالي ابن الأرستقراطية المسيحية القبطية التي يكرهها ويسخر منها. وغالي قادر على نحو خاص ونادر على أن ينقل ذلك الجوهر، دون أن يعتمد على الأصوات الجهيرة والحوادث الزاعقة، بل هناك سحر خاص يتمثل في نقل التفاصيل والإيماءات. وتنتهي الرواية في لندن التي يقرر رام الانتقال لها. هي رواية الستينيات واضطرابها وعنفها المكتوم في ظل دولة بوليسية غير رشيدة. هي إيقاع الستينيات التي تتسلل للقارئ بخفة وبما يشبه الحياد.

ومن المثير للدهشة أن هناك ملامح مشتركة، ولا أقول تأثيرات، بين كتابة غالي وكتابة الستينيات في مصر، على الرغم من أن رواية غالي مكتوبة بالإنجليزية ولم تترجم إلى العربية إلا بعد نحو نصف قرن من صدورها، كما أنها ظلت بعيدة عن التناول النقدي أو حتى الإشارة بسبب موقفه السياسي وخصوصا بعد زيارته لإسرائيل، لكنه كان كاتبًا مُعتَرفًا به على المستوى الأوروبي وطبعت روايته عدة طبعات وترجمت للغات عدة، ونال اهتمامًا نقديًا، كما أن مقالاته وقصصه القصيرة كان مرحَّبًا بها في الصحافة الإنجليزية.

بعد جنازة

كان أول كتاب تصدر ترجمته العربية بعد بيرة في نادي البلياردو هو بعد جنازة لديانا أتهيل وترجمته نرمين نزار وصدر عن المركز القومي للترجمة عام 2018. وعلى الرغم من أن غالي كان قد أوصى بأن تتولى ديانا نشر يومياته وتسديد ديونه لها ولآخرين من عائدات هذه المذكرات، إلا أنها ولأسباب مختلفة لم تفعل ذلك، وبعد ثمانية عشر عامًا من رحيل غالي أصدرت كتابها عن تجربتهما معا، وانتظر الكتاب/ الشهادة بدوره أكثر من عقدين من السنين حتى صدرت ترجمته العربية.

لأسباب ربما قانونية، قامت أتهيل بتغيير اسم غالي إلى ديدي وهو اسم التدليل لوجيه غالي، كما قامت بتغيير كل الأسماء على نحو يكشف أسماء هذه الشخصيات الحقيقية أكثر مما يخفيها، قدّمت شهادة لا ينقصها الصدق على علاقتهما التي استمرت سنوات، واعتمدت في أجزاء منها على ما كتبه في يومياته عنها (كان هذا قبل اكتشاف نسخة مصورة عن النسخة التي كانت في حوزتها، وتكاد أن تكون أخفتها متعمدة). ومن خلال رسائله إليها ويومياته تكشف عن علاقتهما بالغة التعقيد، فهي تكبره بعشر سنوات وإن كان هو، كما كتبت، قام بتزوير ما يثبت أنها تكبره بثمانية عشر عامًا.

ربما كانت هي أكثر شخص تحمله. ساعدته وأنفقت عليه ووقفت بجانبه. وهي لا تخفي انجذابها الجنسي نحوه، بل إنها حاولت النوم معه، لكنه اعتذر بلباقة، لكن هذا ترك جرحًا بينهما لا يندمل، على الرغم من أنهما ناما بالفعل معًا وهما في حالة سكر بيّن بعد هذا بثلاث سنوات، وكلاهما يحكي تلك الواقعة: هي في كتابها بعد جنازة، وهو في مذكراته.

لكن غالي مع ذلك كان مريضًا ليس بالاكتئاب فقط، بل وبأنواع مختلفة من الهوس جراء إدمانه للخمر والقمار والنساء، على الرغم من محاولاته المضنية للحفاظ على بعض المبادئ الخاصة بالاستقامة الشخصية والصدق، كما كان متبنيًا لبعض أفكار اشتراكيي الستينيات اللطيفة مثل تأييد الاتحاد السوفييتي وإدانة أمريكا وإسرائيل والوقوف ضد الحرب الباردة. وفي الوقت نفسه كان متفردًا ومتميزًا في ذائقته الأدبية وإعجابه بلا حدود بتشيكوف وجوركي ولينين والثورة الروسية.

ربما كانت أتهيل هي الوحيدة من بين معاصريه القريبين منه التي ذكرت أن هناك نوعًا من النصب والاحتيال فيما يتعلق بإقدامه على زيارة إسرائيل، إلا أنه ينبغي التعامل مع غالي ليس بوصفه عربيًا أو مصريًا، بل بوصفه مواطن لا منتميًا، عاش طفولته بين جدران وأسوار الأرستقراطية القبطية، وتربى في فكتوريا كوليدج إحدى قلاع الأمبراطورية البريطانية التعليمية، وغادر في أولى سنوات مراهقته إلى أوروبا، كما كتب روايته الوحيدة بالإنجليزية، وما نشره من قصص ومقالات صحفية كلها بالإنجليزية، وربما تأثر قليلًا بما كان يردده البعض من أكذوبة اليسار الإسرائيلي الذي يؤمن بالحقوق العربية ويدعو للسلام. إلى جانب كل هذا لم يُظهر فيما كتبه عن الزيارة حماسًا واضحًا للدولة العبرية أو حتى إدانة واضحة، بل هناك نوع من النقد أو ربما عدم الرضى عن معاملة السلطات الإسرائيلية للعرب المقيمين هناك. لم يحصل غالي على مغانم شخصية أو أموال، وأغلب ما حصل عليه كان أجره عن المقالات التي نشرها في الصحافة الإنجليزية. غالي إذن كاتب أوروبي بامتياز، ولا ينبغي محاكمته بوصفه مصريًا، فهو لم ينتم يوما لا على المستوى الفكري أو الأيديولوجي أو حتى على مستوى النشأة والعمر لمصر، وروايته الوحيدة تؤكد هذا اللانتماء.

من جانب آخر ليس من الضروري أن يتم التعامل مع شهادة أتهيل من منطلق صدقها أو كذبها، بل الأهم أنها شهادة شخصية قريبة جدًا ومعايشة يومية لسنوات. وكان الشرخ بينهما قد بدأ بعد أن قرأت بالمصادفة جانبًا من يومياته التي كتبها عنها، وتضمنت إساءات لها على الرغم من كل ماقدمته له بوصفه صديقًا وكاتبًا آمنت بموهبته، وتنوعت وتعددت مساعداتها له من تدبير أوراق إقامته عندها وسكنه لديها والإنفاق عليه. وبعد مشاحنات واعتداءات متبادلة ومعارك كانت تنشب بين الحين والآخر، طلبت منه أن يغادر البيت، بل واقترحت أن تساعده بإقراضه مبلغ يكفي للانتقال حتى يتدبر أمره، لكنه غافل الجميع وانتحر بينما كانت هي غائبة عن لندن بكاملها.


اقرأ أيضًا: بعد جنازة.. الوجه الثالث لوجيه غالي

 

بعد جنازة وبيرة في نادي البلياردو. تصوير: رولا عادل رشوان

رسائل السنوات الأخيرة

أما الكتاب التالي فهو رسائل السنوات الأخيرة تحرير وترجمة وائل عشري وأصدرته دار المحروسة عام 2019، ويضم خمسين رسالة، وهي موجودة على موقع مكتبة جامعة كورنيل، من بينها 44 كتبها وجيه غالي إلى ديانا أتهيل، وخمس منها له، والأخيرة كتبها الروائي الأمريكي فيليب روث إلى أتهيل بشأن إقامة كان مفترضًا أن يمضيها غالي في ورشة الكُتّاب بجامعة أيوا.

بعض هذه الرسائل كتبها وجيه أثناء إقامته في ألمانيا الغربية خلال الأعوام من عام 1963 وحتى 1966، وأخيرًا رسائل لندن خلال عام 1967. تبدو العلاقة بينهما أقل تعقيدًا مما ورد في اليوميات. يعتبر غالي أن أتهيل أحب شخص والأقرب له والسند والراعي. وتبدو العلاقة بينهما بالغة المتانة، المحبة والحنان يسريان بين سطورها. غالي يمارس أقصى درجات الصدق حتى فيما يتعلق بآرائه في قصص أتهيل، مثلما يمارس أقصي درجات الصدق فيما يتعلق بعلاقاته النسائية وهمومه وبؤسه واكتئابه وشعوره بالوحدة وفقره وغربته في ألمانيا التي كان يكرهها بشدة، ويتوق لمغادرتها إلى لندن، ويصارح ديانا في إحدى الرسائل أنه سيقيم عندها بعد أن تتولى هي أمر تدبير إقامته في لندن، وأنه لايملك في الوقت الحالي أي مورد، وهو ماترحب به ديانا.

يوميات الستينيات المتأرجحة

تضم يوميات غالي التي نٌشرت بعد رحيله مجلدان، الأول بين 1964 و1966، أما الثاني فبين 1966 و1968 وأعد وحرر الطبعة الإنجليزية مي حواس وترجم المجلدين محمد الدخاخني، وصدرا عن دار الكتب خان. تكتب مي حواس في تقديم المجلد الأول "كان وجيه غالي ماجنًا، وعالة، وطفيليًا، ومنشقًا سياسيًا، وكئيبًا، وسكيرًا ومقامرًا، وعلى الأرجح تهديدًا لكل من أذنوا له بالدخول إلى حيواتهم، غير أنه كان أيضًا قوميًا غيورًا، ومعلقًا سياسيًا متبصرًا على الحكم العسكري الناشئ آنذاك في مصر، ومدافعًا عن السلمية والتسامح، وباعتباره قبطيًا، أحس بالموقع السياسي الفريد والمتقلقل للمجتمع القبطي" وتضيف "وبالنظر إلى الرحالة والمغترب الكوزموبوليتاني أو المنفي السياسي الذي كانه غالي، فإنه غالبًا ماشعر بالوحدة والهجران الشديدين، وتصف يومياته اغترابه ونوستالجيته" وتضيف أيضًا "وباعتباره اشتراكيًا صلبًا، ومثقفًا مهتمًا بالأدب والاحتجاج الطليعيين" وأخيرا كما تضيف "وباعتباره وجيهًا اجتماعيًا يتملكه ولع كبير بقضاء حياة ممتعة".

ربما كان هذا أدق وأشمل تحليل لحالة غالي. ولعلي أضيف أيضًا أن اليوميات ليست مجرد سجلٍ سطّره غالي لنفسه، بل القارئ أمام نص أدبي رفيع المستوى، ليس ضروريًا أن ينتمي لجنس أدبي محدد. هناك عالم بالغ السخونة إلى حد الغليان، ومفعم والجنون والحياة الصاخبة ونوبات الاكتئاب المتواصلة.

وأخيرًا أود أن أضيف أن غالي كان مريض اكتئاب نموذجي وتقليدي فيما يتعلق بمرضه، ومن المسلّم به أنه من النادر أن ينجو المريض الذي وصل إلى الدرجة التي وصل إليها غالي من الانتحار. اليوميات وكذلك رسائل السنوات الأخيرة تنطق بالنهاية بكل وضوح، بل إن غالي يذكر أنه حاول أن ينتحر من قبل بالفعل لكنه أنقذ بالمصادفة.

تلك هي قصة وجيه غالي الذي لمع كالشهاب ثم هوى تاركًا لنا روايته الوحيدة التي نشرها حيًا، بينما بقية أعماله عكف عليها دارسون وأكاديميون أنقذوها من الضياع.