تصميم: يوسف أيمن- المنصة

حياتنا كمشروع قومي: الفحم خير من الشجر

كلما انتشرت وقائع قطع الأشجار التي ازدادت على خلفية التوسيعات المرورية للطرق وإنشاءات المشاريع القومية، تجددت الأحاديث عن فوائد الأشجار والمساحات الخضراء لما لها من قيمة مثل نوعيات هذه الأشجار، وأثرها الإيجابي على البيئة بتنقية الهواء من الملوثات والأتربة، وهو ما لا يمكن تعويضه أمام التوسع في المشاريع ذات الإسهام الأكبر في تلوث الهواء، كالصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة والإنشاءات العمرانية والطرق نظرًا لما ينتج عنها من تصاعد ملوثات الهواء.

فيما تبدو مشاهد اقتلاع الأشجار واحدة ضمن مشهد أكبر قائم بالفعل، حيث تتعدد العوامل التي تفاقم أزمة الهواء، بينما لم تقابلها خططٌ واضحة تلتزم بالمعايير الصحية أو البعد البيئي والأثر الناتج عن ذلك من أضرار مباشرة لصحة الإنسان والبيئة.

فعلى سبيل المثال: يستنشق المواطن الذي يسكن في القاهرة 11 ضعف الحد المسموح به من الجزيئات الملوثة للهواء، كما يؤدي التعرض لملوثات الهواء الى الوفاة المبكرة بواقع سنتين تقريبًا، وتقع أكثر من 90% من الوفيات من أصل سبعة ملايين حالة سنوية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل كونها الأكثر تأثرًا بالتلوث، وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية.

وإلى جانب التوسع في الصناعات الملوثة للبيئة والآثار الناجمة عن التغييرات المناخية أو الاحتباس الحراري، يكلِّف تلوث الهواء نحو 5% من إجمالي الناتج القومي، بما يعادل 2.42 مليار دولار سنويًا طبقًا لمؤشر التدهور البيئي، كما يكلف نحو 47 مليار جنيه سنويًا من تكاليف الرعاية الصحية.

استكمالًا لما استعرضه تقرير المنصة "كيف باعت الدولة أسطورة البناء المخالف للمصريين"، حول حقيقة أبعاد المشاكل البيئية والعمرانية في مصر، فإن هذا التقرير يعرض بعض أهم العوامل التي تُسهم في تفاقم أزمة التلوث البيئي بشكل عام والهواء خاصة، والتي تبررها الحكومة تحت ذريعة التنمية والمنفعة العامة دون أي اعتبارات واضحة لمعايير الحماية البيئية وتقييم الأثر البيئي الناتج عن أكثر المشروعات الملوثة للبيئة والهواء، بينما تتصاعد مؤشرات زيادة العبء الصحي والاقتصادي الناتج عنهما.

التطوير بقطع الأشجار

يقر قانون البيئة المصري بشرط الحصول على موافقة وزارة البيئة وتقديم دراسات الآثار البيئية قبل إزالة الأشجار، ويحظر "قطع أو إتلاف النباتات أو حيازتها أو نقلها أو استيرادها أو تصديرها أو الاتجار فيها كلها أو أجزاء منها"، لكن يبدو أن هذا يتوقف على الجهة المسؤولة عن عمليات الإزالة، وهو ما لم تنكره وزيرة البيئة بل تبرره بغرض "التنمية"، فمنذ أن بدأت حوادث قطع الأشجار التي يتم رصدها حتى اليوم في مناطق مختلفة من بينها منطقة مدينة نصر، وحي المقطم، وفي الإسماعيلية، وحي المعادي، وغيرها من المناطق الأخرى سرعان ما كان المبرِّر جاهزًا لدى وزيرة البيئة، الدكتورة ياسمين فؤاد، التي صرحت بأن ذلك "لتنفيذ مشروعات المنفعة العامة للدولة".

وأكدت الوزيرة أن "الجهة المنفذة لأعمال التطوير تمتلك معدات متطورة تقوم بإزالة أي شجرة في محاور التطوير من جذورها، ثم تعاد زراعتها مرة أخرى"، لكن الشاهد على المقاطع المصورة لعمليات إزالة الأشجار لا يغفل حقيقة قطعها وليس اقتلاعها من الجذور، وذلك بالإضافة الى تضارب التنسيق وتطبيق المعايير البيئية بين الجهات المعنية في هذا الشأن، وهو ما تؤكده تصريحات مختلفة لعدة مسؤولين حول مثل هذه الممارسات في مناطق مختلفة.

فيديو من "الساحة" عن قطع الأشجار في مصر الجديدة


وعلى ذكر تبرير الوزيرة، ورؤيتها في الحفاظ على البيئة بتجاوز الشعارات؛ بإعادة زراعة الأشجار المقتلعة، فإنها لم توضح الأماكن التي سيعاد زراعة الأشجار بها، كما إنها لم توضح ما إذا تمت دراسات تقييم الأثر البيئي التي تشترطها اللائحة التنفيذية لقانون البيئة 2017 أم لا، خاصةً وأن القضاء على المساحات الخضراء لم يقتصر فقط على المشاريع الحكومية في إنشاءات الطرق والكباري.

قد تكفي معرفة أنه خلال رحلة تطوير الطرق بمنطقة مصر الجديدة، أزيل 390 ألف متر مربع من المساحات الخضراء، بما يعادل أكثر من 90 فدانًا وما يقرب من 2500 شجرة، في حين لم يتعدَّ عدد الأشجار المعاد زراعتها 55، فهناك ما لم يصلح للنقل وإعادة الزراعة.

يشير ما سبق الى أن هناك الآلاف من الأشجار المقطوعة التي لم يكن مصيرها إعادة الزراعة، كما زعمت الوزيرة، وهو ما يدفعنا الى السؤال: أين ينتهي الحال بالأشجار التي تتم إزالتها؟

تنبع أهمية هذا السؤال في ظل إعلان محافظة الغربية عبر موقعها الإلكتروني عن طرح ما يزيد عن 1500 شجرة للبيع بالمزاد العلني، وهو نفس السؤال الذي تقدمت به نائبة البرلمان لرئيس الوزراء بشأن إزالة أشجار الكافور بشوارع الجيزة، بينما تشير إحدى الوقائع المماثلة إلى استبدال زراعة نباتات زينة صغيرة بالأشجار المقتلعة.

في المقابل، يكشف التحقيق المنشور على موقع جريدة الأهرام القومية، أنه لا توجد جهة تستعين بوزارة البيئة قبل أي عمليات إزالة للأشجار، وبحسب الوزارة فإن "المحليات هي الجهة المسؤولة عن قطع/ إزالة الأشجار، وذلك من خلال الأحياء وهيئات النظافة والتجميل التابعة إداريا للمحافظة (القاهرة-الجيزة)"، وإنها "تعتبر بيع الأخشاب مصدرًا لزيادة مواردها المالية"، كما تنفي نفس الوزارة "ما إذا عرضت عليها أي دراسة لاستيفاء الاشتراطات البيئية" خلال المشاريع المقامة مؤخرًا.

صورة متحركة توضح تغير المساحات الخضراء بين 1995 و2020 في مصر. المصدر: جوجل إيرث


وبحسب ما ذكره التحقيق، تم تشجير الطريق الدائري بنحو 65 ألف شجرة بطول 14 كم خلال الأعوام الماضية، لكن هذا العدد انخفض إلى 10 آلاف شجرة تقريبًا بفعل هيئة الطرق والكباري التي أزالتها لتوسعة وإضافة محاور جديدة، ويشير مسؤول البيئة الى أن هناك العديد من الأشجار تمت إزالتها في عدة مناطق دون أي أسباب منطقية.

وهو ما يحدث بالغابات الشجرية الواقعة بمدينة السادات بمحافظة المنوفية، فبحسب موقع صدى البلد "تتم الاستفادة من أشجارها بالبيع، وكلما قدم تواجد الأشجار يتم بيعها في مزادات تدخل في الصناعات الخشبية متعددة الأغراض مثل أشجار الجازورين والكافور"، كما "تتم الاستفادة من فروع الأشجار في صناعة الفحم، وكذلك أوراق الشجر كوقود لمصانع الأسمنت".

"للمنفعة العامة"

في غمار الكباري التي تحل مكان المساحات الخضراء لربط الطرق بالمدن الجديدة، لم تمانع وزيرة البيئة بقولها "المنفعة العامة للدولة"، فما هو النفع الذي سيعود من أكثر الأنشطة المسببة للانبعاثات الملوثة للهواء؟

لا مفر من التوسع العمراني وبناء مدن جديدة، نظرًا لمعدل التزاحم السكاني الذي تعاني منه مدينة كالقاهرة، لكن الإشادات بمثل هذه المشاريع لا يجب أن تغفل كلفة الأضرار البيئية والصحية والاقتصادية التي تخلفها.

إذ تشير التقديرات الى أن مصر أنتجت 310 ملايين طن من الغازات الدفيئة في عام 2016، بما يعادل 10% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وزادت الانبعاثات بنسبة 140% في الفترة بين عام 1990- 2016، بزيادة أسرع ثلاث مرات من المتوسط العالمي، فيما جاء قطاع الطاقة على رأس مسببات تلوث الهواء بإنتاج 71.4% من انبعاثات الكربون في مصر خلال عام 2016، ساهمت عوادم السيارات بنسبة 25% منها بينما ساهم التصنيع والبناء بنسبة 20%.

في المقابل، فإن التأثيرات الملوثة الناتجة عن سيارة واحدة يستلزم لإزالتها زراعة سبعة أشجار، وللمفارقة تشير الإحصائيات إلى أن الشوارع القابلة للمشي والمطورة للناس أكثر من السيارات، تكون اكثر إنتاجية من الناحية الاقتصادية من أي نمط تطوير آخر.

معايير مجهلة

تعتبر زراعة الأشجار أو تشجير مناطق الكتل السكانية إحدى أفضل/ أسهل الطرق لحماية الهواء من الملوثات بما يخفف من آثار الانبعاثات الضارة والاحتباس الحراري، ويشير الدليل الإرشادي "أسس ومعايير التنسيق الحضاري" الصادر عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، الى أن تحقيق قدرٍ معقول من المساحات الخضراء في المدن القائمة كالقاهرة أمرًا ليس بالصعب، ويقترح الدليل بعض الأفكار  مثل تخضير الأراضي الفضاء غير المستغلة كالتلال والهضاب وتحويل ما يمكن تحويله من الأراضي إلى مناطق خضراء، مع الحفاظ على ما هو قائم منها بالفعل وحمايته من التحول إلى استخداماتٍ أخرى داخل إطار الكتل السكانية.

كما يؤكد الدليل على ضرورة تطبيق الوسائل العلمية والفنية والإدارية والتشريعية اللازمة، لمعالجة التدهور البيئي الذي تعانيه المدن المصرية حاليًا من شدة التلوث البصرى والسمعي، بزيادة وتحسين المسطحات الخضراء وخلق مناطق مفتوحة داخل الكتل السكنية، كذلك لتحقيق التوازن بين أهداف ومعايير التنمية المستدامة، ورغم ذلك تتقدم مصر على مؤشر فقدان الغطاء الشجري.

لم يزد نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر عن 1.5 متر مربع للفرد، تتباين تلك المساحة من حيث الكمية والتوزيع إذ لا يتم توزيعها بالتساوي فبعض المناطق لا تصل إلى 0.1 متر مربع للفرد ويمكن اعتبارها صحارى حضرية بسبب نقص الغطاء النباتي، وقد تكون المساحة المتوافرة في مناطق أخرى أكثر من سبعة أمتار مربعة للشخص الواحد، لكنها بحسب دراسة أعدها محاضر بكلية التخطيط العمراني جامعة القاهرة للمقارنة بين معايير التخطيط للمساحات الخضراء الحالية بالقاهرة مع المعايير الدولية؛ من أقل معدلات المساحات الخضراء في جميع مدن العالم.

وبحسب الدراسة فإن لكل شخص 33 مترًا مربعًا فقط من مساحة المدينة لجميع استخدامات الأراضي، بالتالي يصعب تحقيق المساحات الخضراء المطلوبة وفق المعدلات العالمية والتي تتراوح بين 11-15 مترًا مربعًا للفرد.

المصدر: Our world in data 


على الجانب الأخر، تعدت درجة التزاحم السكاني في القاهرة 50 ألف نسمة لكل كم مربع بزيادة ستة أضعاف عن أي عاصمة كبرى، فيما تمثل المساحات الخضراء الموجودة بالفعل أقل من 10% من المساحات الواجب توافرها لعدد سكان مصر الحالي والمفترض أن تكون 57 مليون متر مربع، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء، بعد احتساب المعدل العالمي.

ويشير مخطط التنمية العمرانية للقاهرة الصادر عن الهيئة العامة للتخطيط العمراني، بعنوان "استراتيجية التنمية العمرانية لإقليم القاهرة الكبرى"، الى أن القاهرة تعاني من إغفال البعد البيئي وضعف تطبيق التشريعات البيئية والاشتراطات البنائية، ومحدودية الكوادر الفنية، بينما تأتي المقترحات لحل الأزمة دون أي خطط ملموسة تهدف إلى تحقيق التوازن البيئي في مصر، سواءً من حيث استغلال الأراضي لإنشاء مساحات خضراء وسط الكتل السكانية، أو الحد من الانبعاثات الملوثة التي تتجاوز الحدود المحلية والعالمية المسموح بها.

.. وأضرار جسيمة

توافر المعدل المناسب من المساحات الخضراء لكل شخص له تأثيره المباشر على الصحة العامة، يتضح هذا من خلال دراسة أعدها باحثين في معهد برشلونة للصحة العالمية، اعتمدت على بيانات 9 دراسات أخرى شملت أكثر من 8 مليون نسمة في 7 دول، وربطت الدراسة بين المناطق الخضراء وانخفاض معدلات الوفيات المبكرة.

بمتابعة المشاركين في الدراسة لعدة سنوات وجد الباحثون أن مقابل كل زيادة بنسبة 10% في المساحات الخضراء على بعد 500 متر من منازل المشاركين، ينخفض معدل الوفيات المبكرة بنسبة 4%.

وتقدم الأدبيات العلمية أمثلة على بعض من هذه التأثيرات، فلكل 100 متر مربع من المسطحات الخضراء يتم تقليل الغاز المسؤول عن تأثير الاحتباس الحراري بمقدار 1.8 طن سنويًا، كما يمكن أن تنتج الأكسجين الذي يحتاجه 100 شخص على مدار عام، ويمكن للمساحات الخضراء تقليل درجة الحرارة المحيطة للمدن بمقدار  درجة مئوية واحدة، كذلك تقليل الضباب الدخاني المسبب للأمراض التنفسية.

على الجانب الآخر، تسبب تلوث الهواء في الوفاة المبكرة لأكثر من 12 ألف شخص في مصر بواقع 12% من إجمالي الوفيات عام 2017 طبقًا لتقديرات البنك الدولي عن حجم الوفيات المبكرة السنوية الناجمة عن التعرض للجسيمات الدقيقة، وذكر برنامج الأمم المتحدة للبيئة في تقرير عام 2017 أن هناك 40 ألف شخص يموتون كل عام نتيجة التلوث، كما أشار التقرير إلى عدم وجود أشجار داخل العاصمة المصرية كعامل رئيسي في تلوث الهواء.

ماذا تقول الأرقام؟

تعاني البيئة المصرية تصاعد ملوثات الهواء دون اعتبار معايير الحماية البيئية، كما نتعامل مع مفارقة عجيبة في ميقاتنا، سواءً على الصعيد التشريعي الذي يتمركز حول المعايير البيئية التي تتوقف عند سيل لا ينقطع من المشاريع الأكثر تلويثًا للهواء، أو على صعيد الجهود التي تسعى للحد من تفاقم الوضع.

في الوقت الذي أقرت فيه الحكومة البرنامج المدعوم من البنك الدولي بقيمة 200 مليون دولار، وهو أكبر الجهود الحالية لخفض الإنبعاثات الملوثة للهواء، كانت أجهزة الدولة تتوسع في عمليات قطع الأشجار السالف ذكرها.

 

المصدر: مشروع الموازنة العامة للعام 2021/ 2022

إلى جانب ذلك، تتسع الفجوة التمويلية في الموازنة العامة للدولة، بين مخصصات البناء والإنشاءات (كأحد القطاعات المساهمة في تلوث الهواء) ومخصصات حماية البيئة، التي تمثل 0.2% فقط من إجمالي تقديرات موازنة العام المالي 21/22 وهى أقل نسبة قطاع بحسب التصنيف الوظيفي.

تبدو هذه الصورة الإجمالية، لكن بعض التفاصيل قد تزيد الصورة وضوحًا، فعند النظر الى التصنيف الوظيفي للمصروفات، نجد أن 46% من مخصصات حماية البيئة تذهب الى الأجور والمرتبات بما قيمته مليار و281 مليون جنيه، في حين تذهب 18% الى الإستثمارات بما قيمته 497 مليون جنيه.

قد تتناسب هذه الأرقام مع تصنيف القاهرة كأكثر مدن العالم تلوثًا، لكنها لم تلائم إحصاءات الصحة التي تشير إلى أن نحو مليوني مواطن يرتادون عيادات الأمراض الصدرية والتنفسية سنويًا على مستوى الجمهورية.