تصميم: يوسف أيمن- المنصة

طاولة المقامر وشياطينه| دعونا نكره دوستويفسكي قليلًا

منشور الاثنين 15 نوفمبر 2021

لا أتذكر الآن في أي عمل حداثي كان ذلك الشخص الذي يكره فيودور دوستويفسكي (1821-1881). طبعًا ليس دوستويفسكي شخصيًا، وإن كان يبدو من شهادات معاصريه أن الأديب الروسي كان أصعب مِراسًا من كتاباته. هذا الشخص كان يكره كتاباته. مهما حاولتُ لا أتذكّر في أي كتاب وقعتُ عليه. لعلّها رواية أمريكية تدور أحداثها في باريس عشرينيات القرن الماضي.

كان رجلًا مثقفًا، كاتبًا أو فنانًا، ولم يكن شخصية رئيسية. لكنه كان يسب شخصيات دوستويفسكي ويتهكم على آلامها. وربما لأني لم أكن مررت بأي نقدٍ لدوستويفسكي على الإطلاق، لفتني وأربكني قرفه الشديد من عالم الإخوة كارامازوف. الآن مر على ذلك عقود، ولا أعرف إن كانت الأمور اختلطت عليَّ. لكن المؤكد أن ذلك القرف كما يتجلى في ذهني مطابق لقرف أشهر مُهاجري الأدب الروسي من الرواية وكاتبها. أقصد فلاديمير نابوكوف (1899-1977)، الروسي-الأمريكي المشهور برواية لوليتا والانتقال من الروسية إلى الإنجليزية كما باحتقار دوستويفسكي.

كان نابوكوف لا يطيق "ذلك اللغط الميلودرامي والتصوّف المزيّف"، العاطفية المُفرِطة والورع المسيحي. كان يرى في هذه التوجهات سمات "مُنجّم، وصُحُفي مدّعٍ، وكوميديان عشوائي، ليس فنانًا". ولعله أرجعها إلى دماغ ريفي غير منفتح على العالم. نابوكوف يستنكر البغيّ الفاضلة والقاتل المرهَف وغيرهما من موتيفات دوستويفسكي الأثيرة، كما لا تعجبه الانحيازات القومية والانعزالية التي تضمرها "الروح الروسية" وتمجّدها أعماله. والحقيقة أن لنابوكوف رواية بالروسية عنوانها اليأس هي بارودي صريح لـ"الجريمة والعقاب"، يطرح فيها الأسئلة الفلسفية والنفسية التي تطرحها رواية دوستويفسكي ولكن بمنطق اللعب والسؤال، مستعملًا اللغة والسرد بل والمفاهيم التي يدلان عليها كوسائل غايتها الفن، مجرد أدوات، كما يفعل في جميع أعماله. يوظّف الخيال بشكل أدبي فقط. وبمعنى ما، يثبت تفوقه التقني.

من هذه الزاوية يمكن النظر إلى احتقار نابوكوف لدوستويفسكي باعتباره تقييمًا لبلاغة الأخير. ولكنْ كيف لنا أن نقيّم لغة دوستويفسكي، الخامة التي شيد بها عوالمه، ونحن لسنا من قراء الأدب الناطقين بالروسية؟ الثابت أن ضمن من وافق نابوكوف الرأي، بدرجة أو أخرى، تولستوي (1828-1910) وتشيخوف (1860-1904). ولعل ركاكة لغوية أو بلاغية تعيب كتابة دوستويفسكي فعلًا، لكن الموضوع خرج من أيدينا.

يُقرأ دوستويفسكي متَرجَمًا، ويقرأ لمحتوى رواياته السردي والذهني، لشخصياته ثلاثية الأبعاد والأفكار الفلسفية التي تعبر عنها تلك الشخصيات والعلاقات القائمة بينها وتحولاتها. لكنّ هناك جانبًا آخر لنقد نابوكوف، كما لنقد المثقّف المتخيل في الكتاب الذي لا أتذكّره، هو أن دوستويفسكي يشيّد عوالمَ لا يمكن تصديقها. ليس هؤلاء الناس مقنعين في قولهم أو فعلهم، ولا تعبّر أزماتهم عن حقائق إنسانية يمكن اعتناقها.

.. فكل شيء مباح

أعتقد أن هذا هو ما ينبغي أن نفكر فيه، وليس التقنيات الروائية ولا جماليات الأدب الروسي، حين نسأل أنفسنا إلى أي حد يمكن أن نتفق مع نابوكوف. سيكون الجواب ذاتيًا بالتأكيد، ولن يكون هناك مجال للبرهنة على شيء. لكن ليس لأحد أن ينكر أن عند دوستويفسكي محاورَ محددة. الأب المقتول والأم الغائبة. صراع الشهوات الحسية مع عفة الإيمان، وصراع الإيمان مع العقلانية. الفكرة التي يمكن اختزالها في جملة واحدة شهيرة: إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح. ثم عنده الصَرَع والصَدَمات. حقائق من قبيل أنه حُكِم عليه بالإعدام ولم يدرك حتى آخر لحظة قبل تنفيذ الحكم أنه سيُعفى عنه ليُمضي أربعة أعوام من الأشغال الشاقة في سيبيريا.

 

لوحة لإعدام ديستويفسكي قبل إعلان القيصر العفو عنه في اللحظة الأخيرة

 

وهناك إدمانه البغاء قبل القمار، وشعوره بمسؤولية تاريخية في زمن تحولات جذرية. عن نفسي أبهرني في الإخوة كارامازوف أن كل شخصية من شخصياتها، في وقت واحد، إنسان وفكرة. أنت تقابل شخصًا من لحم ودم. بمجرد أن تدرك أن واقعك مختلفًا (لعل واقع نابوكوف لم يكن مختلفًا بالقدر الكافي)، سهل أن تصدّق أن ذلك الشخص موجود بالفعل. لكنك تقابل أيضًا تجسّدًا مقنعًا لمقولة مجردة أو توجهًا فكريًا.

 

نابوكوف كاتب عظيم وعبقري في تطويع الإنجليزية. وأظنني أفهم نظرته المستاءة إلى نصوص بُولِغ في الاحتفاء بها خارج البلد الذي أنتجها، على حساب سواها من ذلك البلد بالضرورة. لكنني أيضًا قرأتُ، قرأتُ وأعلم. أنت حين تدخل إحدى روايات دوستويفسكي تقابل أناسًا ينبضون هم في نفس الوقت مجازات ساحرة لمفاهيم ضرورية. لا يفرق معي كثيرًا أن دوستويفسكي كما يصفه نابوكوف بلا ذوق، ولا أن قضيته ليست في فحواها فنية. دوستويفسكي يصنع شخصياته ببراعة، ومن ثم يدافع عن المفاهيم بتفانٍ، دون تفريق. قد يريد القول إن العودة إلى العقيدة المسيحية هي النجاة الوحيدة الممكنة لكنه، في معرض طرح الفكرة المضادة، قد يقنعك بحتمية الإلحاد ولا جدوى الإيمان. وفي هذا السياق، كان دوستويفسكي أول كاتب أطلعني على الفلسفة الوجودية، من قبل أن أعرف أن هذه الطريقة في التفكير تسمى وجودية.

لكل هذه الأسباب لا أستطيع أن أصرح، كما صرح نابوكوف، بأنني "أكره بشدة  الإخوة كارامازوف والهراء البشع في الجريمة والعقاب". طبعًا يجوز التصريح بكراهية الرواية في حال كان صحيحًا أن الواحد كرهها. لكنني أحب أعمال دوستويفسكي وأتعلم منها منذ مرحلة المراهقة، وبغض النظر عن أي سلطة يمكن أن تكون فرضتْها أو احترامَها علي، فمثلًا ليس عندي أزمة في قول إني أكره كبرياء وهوى والعقل والعاطفة، كراهية شديدة، ولا أُكن لجاين أوستن أي تقدير. لكن الأبله والشياطين تظل كتبًا محورية، وكارامازوف والجريمة أكثر من ذلك قليلًا، مهما تعاطفتُ مع نابوكوف. أكذب لو قلت غير ذلك.

تأثير الزمن

اللافت فقط، الذي أريد أن أذكّر نفسي به، هو تأثير مرور الزمن على الكتب والكُتاب. ليس عندي أوهام عن صمود ما أكتبه أنا أو قناعة بأن قراء المستقبل سيقدرونه أكثر من قراء الحاضر. لا أعتقد أن في المستقبل قراءً. لكني رغمًا عني أتساءل عن نظرة هؤلاء القراء غير الموجودين إلى أسماء عربية محتفى بها اليوم، ويرعبني تخيّل هذه الأسماء في عداد كبار الأدباء. هل يمكن تصور أن دوستويفسكي في زمانه كان مبتذلًا وتافهًا إلى الحد الذي يجعله أشبه بهؤلاء الكتاب؟ صراحة لا أظن. حتى لو كان الكاتب "تجاريًا"، في غياب الإنترنت والتلفزيون بل والسينما، أعتقد أن الحكم على الأدب يختلف. ثم إن دوستويفسكي لا هو موجّه ولا "إيزي ريدنج" على أي نحو، ولم يكن نجاحه في حياته كبيرًا إلى هذا الحد على كل حال.

لكن، مع ذلك، أود أن أقترح على قارئ الأدب المخضرم أن يكره دوستويفسكي قليلًا. أن نوجّه طاقاتنا السلبية إلى ما يُفترض أن نقدّسه أيًا كان، هو شيء مطلوب من وقت إلى آخر. ولعل النظر إلى دوستويفسكي بعين الغضب والسخرية في عيد ميلاده المئتين، بعد أن أصبح واحدًا من غرانيق "الأدب العالمي" التي تُرتجى شفاعتها، شيء جيد.

كل ذلك الثقل المسرحي، وإن تخللت الأحداث مشاهد كوميدية. كل تلك الجدية في التعاطي مع أسئلة الحياة والموت. أليس الأجدى أن نضحك على أنفسنا. ثم أين العواطف النقية المتعلقة بالحب والموت؟ أين الشِعر؟ أين الرعب والبذاءة، وأين التمرّد على الموروث؟ فعلًا؛ أليس في الحياة إلا جرائم قتل ومومسات؟ أعطانا دوستويفسكي أيقونات رصينة نتأملها، لكنها لم تورثنا إلا ضروبًا من الهستيريا ومبررات للتوجهات المحافظة والرجعية. أنا لا أصدّق ما أقوله لكنني سأستمر في قوله. نعم، فعلًا. في شيطان ميخائيل بولكاجوف ومارجريتا ما يغنينا عن كل هذه المشاحنات.


للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف.