تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الزملكاوي القديم الذي ترعبه أخطاء اللغة

منشور السبت 29 يناير 2022

أحرص في نهاية كل عام على كتابة مقالٍ أتأمل فيه أحداث السنة الماضية، على المستوى الشخصي والعام أيضًا، أنظر ورائي، وأمدُّ البصر إلى أن أصل إلى يناير/ كانون الثاني الفائت، أسترجع الانتصارات الصغيرة، والإنجازات المتواضعة، وأتحسر كالعادة على ما فات ولم يُحقَّق؛ ولذلك أطلق على ما أكتبه "أحزان ثقافية" لأن الحسرة تغلب الفرح وتجرفه؛ الأحزان فرصة لمراجعة النفس، ومداواتها بالتطهر، وإعادة تشكيل ما مرَّ ليبدو كما لو أنه على أفضل وجه ممكن.

عامي كان يبدأ من سبتمبر/ أيلول شهر رحيل الصيف وضيقه وحره، إلى منتصف الربيع في أول مايو/ أيار، في تلك الأشهر، يشتعل نشاطي، وأُنهي أغلب ما أُخطط له من قراءة وكتابة تتخللها مشاهدة للأفلام الأجنبية، وأحيانًا مسلسل أجنبي واحد طيلة العام.

احتفالي بنهاية العام جديدٌ عليَّ، اقتضته العادة التي نتشربها دون أن نشعر من الوسائط التكنولوجية؛ والاحتفال هنا لا يحمل أيَّ طقس للسعادة، بل الجلوس والكتابة عن الاثني عشر شهرًا الماضية تُمثل لي حدثًا يستحق الاحتفال. لا يخرج ما أكتبه كلُّه للنور، بل بعضه أكبتُه، أكتب بعضًا منه كـ "بوستات" على فيسبوك، أُرسل مقاطع لبعض الأصدقاء، ما يستحق النشر أضعه في مقال، أما البقية فمكانها وسط الملفات، تضيع في الزحام، وتنادي مستغيثة ومطالبة بحقها في النور، ولا حياة لمن تنادي.

أمنيات تتجدد

رجائي أن يسيرَ اليوم كما أحبُّ، ألا أُحرم من نوم ساعة الظهيرة، ومتعة كوب الشاي بعد الاستيقاظ، بضع ساعات قراءة ومثلها دقائق للكتابة، لذة الفرجة على مباراة قوية، والفرحة بإحراز هدف، صيحة المعلق  وهو يقول جووووول، أمنيتي أنْ يتركني عناء القولون اليومي، يا رب لا تحرمني من دهشتي وأنا أنظر للسماء، والسحب تتمشى فوق منزلنا، وألا أفقد فرحتي البسيطة بالسبرتاية ودفء اللهب، وأنا أعدُّ القهوة في الشتاء، أستمع لحكايات الكبار والعواجيز، وأرى الشغف والطِيبة تُطل من عيونهم، أمي تعرف شغفي هذا وتحكي، جدتي، دون أن تعرف، تحكي أيضًا، تُظلل الشجرة/ الجدة بحكايتها حياتنا، ولا تنقطع ثمارها.

غواية القراءة

أُقلِّب دفتر العام، فأجد كتابًا من هنا، ومقالة من هناك، لست أجيد رصَّ قائمة قراءات العام على صفحتي في فيسبوك، رغم حرصي على قراءة كل ما يكتبه الأصدقاء من باب التحفيز ومعرفة الجديد، أجمل الكتب عندي التي تُقرأ في الأوقات البينيَّة، في المواصلات، أوقات الفراغ في العمل، اقتناص بضع ساعات كل أسبوع للهرب من الدراسة الأكاديمية، والرجوع لكتابٍ لم أُكمل قراءته. فعلت ذلك مع عدة كتب، منها كتاب الغواية لعزت القمحاوي حيث يتقمص الراوي دور شهرزاد، وتحلُّ المرأة في موضع شهريار القارئ هنا لخطابات المُرسل؛ طريقة القمحاوي في اللعب بالكتابة خارج أسوار القصة والرواية، وهُيامه بألف ليلة وليلة الذي لا ينقطع أثره في كل كتاب يُصدره، مازجًا العام بالخاص.

نوع من الكتابة له مذاق فريد، لا أشعر بمثله إلا عند كاتب آخر من ضفتنا الغربية، عبد الفتاح كيليطو، أنهيتُ كتابه في جوٍ من النَّدم الفكري بالطريقة نفسها التي أجهزتُ بها على كتاب الغواية قضمة قضمة، مقالًا في يوم، وبعد أسبوع بعض الصفحات، لا أريد لهذه اللذة أن تنتهي، والغريب أن تلك الكتب قصيرة، كأن كُتابها في عناد مع القرَّاء، يتعمدون ألا يُطيلوا حتى يتركوهم دومًا في لهفة للجديد، فيظلوا في بحث دائم، مكر محمود وإن لم يتعمدوه، لتظل المتعة مرتبطة بالشغف وراء الجمال الكامن في الفن.

ضوء في ليل الزنزانة

 في كتاب تودوروف الأدب في خَطر القصير أيضًا يحكي قصة السيدة شارلوت دلبو التي اُعتقلتْ في باريس مُتهمة بالتآمر ضد المحتل الألماني، تُعاني من الوحدة في زنزانتها محرومة من القراءة، تتحايل على قسوة سجنها بحيلة، تمد خيطًا اِستلته من أغطيتها، لغرفة أسفل منها فتزودها زميلة لها بالكتب التي استعارتها من مكتبة السجن.

 

شارلوت دلبو. برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا

تُضاء الزنزانة الكئيبة وتنفرج قليلًا قبضة الجدران الخانقة لروح دلبو كل ذلك بفضل الكتب، التي جعلتْ جون ستيورات مِل يُشفى من اكتئاب دام لعامين بعدما قرأ ديونًا للشاعر ووردزورث، استطاعتْ أبيات الشعر أن تعيد الإحساس لـمِل بأن "السعادة الحقيقية والدائمة في التأمل الهادئ لأشكال الجمال في الطبيعة" على حدِّ تعبيره.

رُهاب أخطاء اللغة

هناك علاج آخر يتمنى كلُّ الكُتَّاب أن يجدوه، وهو علاج أخطاء الكتابة؛ خاصة أن الجميع، إلا ما ندر، صار يكتب مباشرة على الحاسوب، في النقْر على لوحة المفاتيح قد تطيش الضربة فتُبدل حرفًا بآخر، أو يُنكر العقل إضافة واجبة لكلمة إلى أختها.

منذ خمسة أعوام اشتريتُ طابعة أوراق، أطبع كل ما أكتبه، وأراجعه وكأني أقرأ كتابًا ورقيًا لكاتب غيري، أُصوِّب الأخطاء، أغرس فاصلة هنا، ونقطة هناك، أشذب ما كتبتُ، أُعيد عَلاقة النص بعلامات الترقيم مرة أخرى، وأتأكد من ضبط الهمزات في أول الكلمة ووسطها وآخرها، ثم أُعدل النص في ملف الوورد؛ طريقة مرهقة وتحتاج لصبر، لكن نتائجها مثمرة، وإن كانت تقع الهفوات أحيانًا، أتذكر ما كتبه عبد الفتاح كيليطو عن أخطاء اللغة وكيف أنها جزء من "الشغلانة" وهي "المكون الأساسي للكتابة، معدنها وطبعها، أن تكتب معناه أن تُخطئ" على حد تعبيره نفسه، ولا أدري في تلك الفقرة هل تعمَّد أن يُخطئ في اللغة، ليثبت لنا صدق كلامه، إذ كتبَ كلمة تلاميذ منونة "حين كنا تلاميذًا" وهي الممنوعة من الصرف بأمر اللغويين وأرباب النحو والصرف؛ أم أنه اللاوعي غير المبرمج على قواعد جامدة لا تتغير إلا ببطء؛ تساءل رولان بارت الذي قابله تودوروف عام 1963 بناء على نصيحة من جيرار جينيت في أول لقاء معه في دهليز مُعتم في أحد شوارع باريس.

ما الذي تساءل عنه بارت؟

"عن السكرتيرة المثالية التي لا ترتكب أخطاء حين تقوم برقن نص من النصوص.

وأجاب:

ليس لها لا وَعْي".


اقرأ أيضًا: مُفكرة العام الجديد: ذاكرتنا التي تبقى إلى الأبد

 

مفكرات وأقلام. الصورة: آلاء عبد الوهاب

 

 

يد الله لا تُخطئ

لا تقف الأخطاء عند عتبة الكتابة فقط، هناك أخطاء تُحقق انتصارات، فعلها مارادونا عندما أحرز هدفًا بيده في ربع نهائي كأس العالم 1986 في مرمى المنتخب الإنجليزي؛ كانت يد الله كما وصف مارادونا الهدف هي المنقذة للأرجنتين في عراك سياسي على جزر مالفيناس، خسرته لصالح إنجلترا، عبَّر المخرج الإيطالي باولو سورينتينو في فيلمه The Hand of God، أحد أجمل أفلام عام 2021، عن ذلك الانتصار في لحظة إحراز هدف الأرجنتين على لسان إحدى الشخصيات "لقد انتقم لشعب الأرجنتين العظيم، المقموع من قبل الإمبرياليين الحقيرين  في جزر مالفيناس" ويُكمل "إنه عمل عبقري، ثورة، لقد أهانهم".

أفراح الزمالك النادرة

لدينا كرة القدم لا تحمل أية ثورة أو عبقرية، ربما تحمل الإهانة فقط للخاسرين، كنت زملكاويًا في تسعينيات القرن الماضي، صبيًا في الثامنة من عمره، ليغيظ أخوته وأغلب عائلته الأهلاوية، ليكيدهم شجَّع الفريق المنافس؛ هذا هو التفسير الوحيد والمنطقي الذي جعلني أُعلق على الحائط صورة مقصوصة من صحيفة أخبار الرياضة لفريق الزمالك، ومعهم المدرب محمود الجوهري وهم يحتفلون بدوري أبطال أفريقيا عام 1993، في العام التالي قاد الجوهري الزمالك للفوز بكأس السوبر الأفريقي على حساب غريمه الأهلي، كان عامًا مليئًا بالانتصارات التي لن تتكرر كثيرًا، عدت لحظيرة العائلة، وصرت مثلهم أهلاويًّا متعصبًا أحيانًا؛ متسامحًا مع انتصارات الزمالك خاصةً وأنْ زوجتي الزملكاوية يُسعدها فوز الفريق الأبيض ببطولة، أحمدُ الله أن تلك الانتصارات نادرة، والفرح النادر أكثر وقعًا من فرح معتاد ومألوف.

مرعوبٌ أنا من اللغة رغم المحبة الكبيرة التي لا تشفع، مرعوبٌ من أخطائي، من هزائمي، وأهدافها التي تُحرزها في كل نص أكتبه، رُعبي لا يتوقف بل يتمدد كل حين، أراه في عيون المُصححين اللغويين، ومُعلمي اللغة العربية المُدججين بالنظريات القديمة، وأسلحة سيبويه وأحاجي ابن جني، وجداول قُل ولا تقل، ارْحمني بهم يارب، ولا تحرمني من ذلك الحُب القاتل.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.