دينز دي في قفص الاتهام

مُتَرْجَم| اعترافات العائدين من "الدولة الإسلامية" (1-2)

منشور السبت 13 أغسطس 2016

خلال العامين الماضيين؛ تمكنت السلطات الألمانية من إلقاء القبض على عدد من الشباب الألمان العائدين من صفوف تنظيم الدولة الإسلامية. واستطاعت الأجهزة الأمنية أن تحصل على اعترافات ثلاثة منهم، قدموا من خلالها صورة مليئة بالتفاصيل التي كانت غائبة عن الأجهزة الأمنية الغربية فيما يتعلق بهذا التنظيم. 

صحيفة دير شبيجل الألمانية نشرت تحقيقًا مطولاً يتضمن قبسات من اعترافات هؤلاء الشبان الثلاثة، ونشرته على جزئين تنشر المنصة ترجمتهما تباعًا. 

عندما أدار "نيلز. دي" ظهره لتنظيم الدولة الإسلامية، فكر في الجنس. كان قد قضى عامًا كاملاً في خدمة "الميليشيا الإرهابية"، قام خلالها بمسؤوليات الحراسة والطهو. اكتشف رؤوسًا مقطوعة أثناء سيره في الشوارع، وشهد بنفسه على عمليات قطع رؤوس. أنصت لصرخات من يخضعون للتعذيب، وراقبهم بينما عُلِّقَت أجسادهم على أعمدة حديدية وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم. هذه الانتهاكات البشعة؛ مارسها هو بنفسه ضد أناس آخرين، كعضو في الوحدة الخاصة المكلفة بالقبض على المتهمين بالجاسوسية والخونة وغيرهم من أعداء التنظيم.

ولكن مع بداية نوفمبر/ تشرين ثان 2014، أراد أن ينهي هذا الوضع. تظاهر كاذبًا بأنه مسافر إلى تركيا ليقابل شقيقته وأمه في اسطنبول. ولكن من تركيا، انطلق إلى مسقط رأسه في دينسلاكين بألمانيا. 

نيلز. دي لم يفصح يومها عمّا دار برأسه، لكن تطبيق تصفح الإنترنت على هاتفه الذكي يقدم بعض الإجابات. بحث نيلز باهتمام على مجموعة من أعتى المجرمين المطلوبين ضمن قائمة المكتب الفيدرالي لمكافحة الجريمة، والمتاحة عبر الموقع الرسمي للمكتب، فقد كان خائفًا من إلقاء القبض عليه بمجرد وصوله لألمانيا. بحث الفتى كذلك عن خطوط العبَّارات المغادرة من الموانئ التركية، وخطوط الأتوبيسات المخصصة للسفر مسافات طويلة، ويمكنها أن تصل به إلى ولايته الأم في ويستفيليا الواقعة شمال نهر الراين. فقد كان خائفًا من فحصه في المطار.

كما بحث عبر الإنترنت عن بائع تجزئة لملابس مناسبة لذوي الأحجام الكبيرة، لأنه أراد ملابس تخفي ملامح جسده الممتلئ. بالإضافة لهذا؛ بحث عن فنادق في اسطنبول ونصائح للتجوال والنزهة في المدينة، ليزجي الوقت خلال الأيام التي سيقضيها مع أمه وشقيقته أنيكا.  

ومع كل هذا، ظل نيلز يفكر في الجنس، فبحث عن مصطلحات منها "الأضواء الحمراء باسطنبول"*. إحدى النتائج حوت عنوانًا يقول "بيت دعارة في اسطنبول". كما اختزنت ذاكرة هاتفه أسماء العديد من مقاطع الفيديو الإباحية التي شاهدها.

قبل أن يصعد إلى متن الحافلة المغادرة من اسطنبول إلى بلدته في ألمانيا، محى دينز كافة البيانات المخزنة على هاتفه: صوره مع رفاقه في عتاد القتال، صورته وهو واقف خلف رجل مقيِّد ومُقَنَّع، بينما يمسك دينز بمسدس مصوب نحو رأس الرجل المنكسة. كل هذه الصور وغيرها كان يجب أن تختفي قبل عودته إلى حياته القديمة.

اليوم؛ دينز. دي، محتجز في أحد السجون الألمانية كإرهابي مُدان. المحكمة المحلية العليا في دوسلدروف حكمت عليه بالسجن لأربع سنوات وستة أشهر.

مصادر عالية القيمة

تمكن دينز من الحصول على عقوبة خفيفة لكونه واحدًا من نفر قليل من الجهاديين السابقين الذين تعاونوا كثيرًا مع السلطات الألمانية. بالنسبة للمحققين؛ رجال مثل هذا الفتى شديدو الأهمية، لأن السلطات -في أغلب الأحيان- ليست لديها أية فكرة عما يفعله الإسلاميون الألمان أثناء خدمتهم في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية، بل وغالبًا لا يمكنهم حتى التأكد من أن المتهم انخرط بالفعل في صفوف التنظيم، وهي معلومات مهمة للتمكن من إدانة المتهمين قانونًا بكونهم أعضاء في منظمة إرهابية. 

الأجهزة الامنية الألمانية مُكلَّفَة بالتحقيق في تركيب الشبكات الإرهابية، ومنع وقوع العمليات التي قد تقوم بها تلك المنظمات. ولكن بخلاف تسجيل المحادثات؛ لا تملك تلك الأجهزة فعليًا أية أدلة على شكوكها، لأن أكثر من 200 شخص عادوا من ساحة القتال إما صامتون، أو كاذبون.  

ولشرح الموضوع في جمل بسيطة؛ فإن قليل من الجهاديين يعترفون الآن أمام المحاكم أنهم سافروا إلى سوريا. لكن عباراتهم التي يدلون بها لا تتجاوز الأدلة المقدمة ضدهم بالفعل، ولا يسلِّمون شركاء آخرين للسلطات. 

ولكن؛ هناك ثلاثة رجال يمثلون استثناءً لتلك القاعدة، فهم يتعاونون مع السلطات على نطاق واسع. ومنهم نيلز. دي ابن مدينة دينسلاكين. وهاري سي من بيرمن، وهارون بي. من ميونخ. والأخير حارب في سوريا ضمن الفصيل الإرهابي "جند الشام".

 

أعضاء في تنظيم "جند الشام" الذي يضم غالبية من المتشددين الأجانب

الثلاثة يخاطرون بحيواتهم مخاطرة غير هينة. فالإسلاميون الآخرون يعتبرون الشهادة أمام السلطات الأمنية، خيانة. ومن المحتمل أنهم يسعون للانتقام.

بالانتقال من وضع "الإرهابي" إلى وضع الشاهد الرئيس، بدا الثلاثة وكأنهم مروا بتحولات مذهلة. لو كان لنا أن نصدق شهاداتهم، فإن نيلز (26 عامًا)، وهاري (27) وهارون (28)، لم يعلم ثلاثتهم بما وقعوا على الانضمام إليه في سوريا. كانوا مسلمين متشددين، لكنهم لم يكونوا قادة ولا مقاتلين، كانوا أقرب إلى التعلق بحلم أن يكون لهم دور. يقول خبير في التعامل مع مثل هؤلاء الشهود: "فقط من يكونوا على الحدود الخارجية للتنظيم، ومن لم تقو أيدولوجيتهم، هم من يتعاونون مع السلطات القضائية لاحقًا". 

من لعب الورق والمقاهي إلى بلاط الخلافة

قبل رحلته للتنزه في مملكة فرقة سفاحي الدولة الإسلامية. لم يكن نيلز صالحًا لأي شيء. كان ينام حتى انتصاف اليوم، ثم يتصفح الإنترنت قبل الخروج لملاقاة أصدقائه في أحد المقاهي حيث يتعاطون المخدرات، ويشربون الكحول ويلعبون الورق. لم تكن لديهم أية هوايات، أو حماس. الشركة التي قدمت لهم تدريبًا خلال الإجازة قامت بفصلهم بالفعل، لأنهم لم يحضروا الدروس الصيفية لكلياتهم، وهي جزء من البرنامج التدريبي. بعدها كان معظم ما وجده وظائف مؤقتة: "كنت مدمنًا للحشيش، لم تكن بي رغبة لعمل أي شئ".  

استمر هذا الوضع لسنوات، بعدها اكتشف نيلز الإسلام عبر قريبه "فيليب. بي" وصار الفتى سلفيًا. كان لا يزال يقضي عقوبته بعد قيامه بعملية سطو، عندما توجه قريبه بصحبة شباب آخرين إلى سوريا للقتال. بعدها وخلال خريف 2013، خرج نيلز من السجن إلى أرض الخلافة.  

أثناء وقوفه في قفص الاتهام في محكمة منطقة دوسلدروف، قال نيلز إنه أراد أن يرى كل شيء بنفسه، وسرعان ما أصبح جزءًا من النظام القاتل. في مدينة منبج؛ انضم الفتى إلى وحدة خاصة في تنظيم الدولة الإسلامية. كانت مهمة تلك الوحدة أن تلقي القبض على من تشك في كونهم خونة، أو جواسيس، وعلى الهاربين من خدمة التنظيم. ويعتقد أن نيلز شارك في 15 مهمة.

وعرف أيضًا في هذا القفص؛ ما جرى للرجال الذين ساعد في إلإمساك بهم. مدمن الحشيش من دينسلاكين عرف بأمر العربات الخشبية التي وضعوا فيها. كانت عربات ضخمة بحيث يمكنهم الوقوف فيها قبل أن تنطبق على أجسادهم، وعربات أخرى صغيرة الحجم يلتفون حول أنفسهم فيها –أحيانًا- لعدة أيام.

 

لنيلز لحية إسلامية تقليدية، كان يرتدي الأسود كلما خرج من بيته، بينما يغطي وجهه بالكامل. حضر خمس عمليات إعدام كمراقب "كان جسدي كله يرتجف"، هذا ما قاله نيلز للمحققين في مكتب الدولة لمكافحة الجريمة في دوسلدروف. "ولكن بعد فترة لن يؤثر فيك المشهد".

ذات مرة كان يلصق مسدسه برأس سجين مقيد على الأرض. وسمح لنفسه بأن تلتقط له صورة على هذا الوضع. لماذا؟ "كان هذا في منتهى الغباء" يقول نيلز للمحققين "أنا آسف، الرجل نفسه غالبًا لم يلاحظ ما كنت أفعله". يدعي الشاب القادم من غرب ألمانيا أنه لم يمارس عنفًا جسديًا ضد أي أحد. وينكر كافة التقارير التي أفادت بتعذيبه وقتله لعدد من السجناء الذين وقعوا في قبضة التنظيم.

قال للمحققين إنه أراد الخروج من أرض الخلافة مرات عديدة، في مرة واجهته كتيبة من المتمردين، وفي مرة ثانية؛ رفض القائد إرساله إلى ألمانيا في مهمة. يدعي نيلز أنه كان ليستغل أمرًا بالقيام بعملية هجومية كي يهرب، وأنه لم يكن مهتمًا بالقيام بأية عمليات لصالح التنظيم داخل ألمانيا. على الأقل لن يفعل هذا بنفسه.

الاستشهاد أجمل شيء في العالم

لكن نيلز لم يُدْلِ حتى الآن بأية شهادة تفيد بإنهاء علاقته بأفكار تنظيم الدولة الإسلامية. يقول فقط؛ إنه أراد المغادرة لأن التنظيم انتهى من بناء "دولة المراقبة الكاملة".

استطاع الخروج في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 استنادًا لادعاء كاذب آخر. قال لقادته إنه أراد أن يجلب شقيقته إلى التنظيم، وسافر إلى تركيا بإذنهم، لكنه لم يعد.

بمجرد عودته إلى بيت والدته في دينسلاكين، حاول -جزئيًا- أن يواصل حياته الطبيعية. يقول أحد أصدقائه للمحققين: "أراد أن يذهب للشرب والرقص، لكن هذا لم يعد يمتعه". ويواصل: "أراد أن يذهب إلى بيت دعارة، لكنه لم يجد بنفسه الشجاعة الكافية ليقدم على ذلك".

في الوقت نفسه؛ ظل يعلن إسلاميته. "أبو بكر البغدادي كان (رئيسنا). وعلينا أن نفعل ما يقول" هكذا قال لواحد من أقرانه. " أفضل شيء. أفضل الأشياء قاطبة في العالم؛ هو الشهادة" هكذا قال لرفيقته الجديدة، عندما علم أن صديق مقرب منه مات أثناء القتال، اعتبر نيلز هذا خبرًا سعيدًا: "طبعًا أنا سعيد لأن صديقي لن يصير حطبًا لجهنم".  

في يومٍ ما، وبينما كانوا جالسين في سيارته، بدأ نيلز في الحديث إلى أقرانه عن الوقت الذي قضاه في صفوف ميليشيات تنظيم الدولة، كانت أجهزة التنصت مزروعة في سيارته بالفعل. تحدث عن هويته كعضو في وحدة خاصة. وكان هذا كافيًا بالنسبة للمحققين. اعتقلوه في يناير/ كانون الثاني 2015، بعد ثلاثة أيام فقط من الهجوم الدامي على مجلة شارلي إبدو الفرنسية الساخرة. 

في البداية، لم يكن لديه أي استعداد للكلام. قال لأحد المحققين الخبراء في مكافحة الإرهاب: أنهم ليست لديهم أية أدلة قوية ضده وأنهم "سيحرجون أنفسهم في المحكمة"، حتى أنه هددهم بالانتقام منهم "بمجرد خروجي من هنا". 

تركه المحققون ولم يعودوا إليه لشهور. استطاعوا خلالها وبعد فترة أن يستعيدوا البيانات التي كانت على هاتفه. وعند هذه النقطة، لم يعرفوا فقط بتاريخ تصفحه للمواقع الإباحية؛ وإنما وجدوا صورة الأسير المقيد، ورفاق نيلز المقاتلين الذين غادروا من دينسلاكين إلى أرض الخلافة.

"عندها غيَّر رأيه" يقول المحقق الذي تولى استجواب نيلز. وعندما تحدث للمحكمة كان مستفيقًا تمامًا. كان يحكي شهادته بلا ذرة مشاعر تقريبًا، لكن النظرات المتبادلة بين نيلز والمحقق خلال إدلاء الأول بشهادته، كانت تشي بقدر لا محدود من التعاطف بين الاثنين، كان المحقق مشفقًا على الإرهابي، لأنه وقتها كان قد أدلى بتلك الشهادة 40 مرة. أما نيلز فقد كان متعاطفًا مع المحقق لأنه كان منصفًا تجاهه.

تركت داعش ولم أخسر التشدد

 

أبا عود - أبو عمر البلجيكي

نيلز ترك نفسه للتحقيقات. أدلى بمعلومات عن مرتكبي هجمات باريس وصلاتهم بعبد الحميد أبا-عود (الجهادي البلجيكي) ورفاقه في دينسلاكين. شهادة نيلز مكنّت المحققين من البدء في إجراءات لتتبع العديد من التحقيقات، وعقد العديد من المحاكمات. وصف نيلز لهم تشكيل الوحدة التي كان عضوًا بها في التنظيم بتفاصيل أكبر بكثير مما أدلى به كافة من شهدوا قبله.

قدم لهم كذلك تفاصيل جديدة حول أدوار القيادات الألمانية في تنظيم الدولة الإسلامية. ومن بين ما أدلى به؛ كانت معلومات متعلقة بشخص ألماني لم يكن معروفًا من قبل، يعمل في جهاز أمن التنظيم ويحمل اسمًا حركيًا هو "أبو هاجر". هذا الرجل لم يتم التعرف عليه حتى يومنا هذا.

قضى الشاب القادم من دينسلاكين حوالي عام ونصف العام من عقوبته المقررة في السجن. ومن المحتمل أن يخرج مبكرًا لحسن السلوك. كما أنه يشارك في برنامج لإعادة الإدماج في المجتمع ينظمه مكتب الدولة لحماية الدستور في منطقة شمال غرب الراين. الوكالة مسؤولة عن مراقبة سلوك المتشددين في ألمانيا. مسؤولو المخابرات يصفونه بأنه "منجم ذهبي للمعلومات" وأنه "ضربة حظ مُوفَّقة". حتى أن بعضهم يعتقد أن الفتى كان من الممكن أن يصير ضابط شرطة متفوق "لديه موهبة واضحة في المشاهدة والملاحظة، وفهم جيد للبنيات التنظيمية وذاكرة فائقة".

ولكن هناك ملكة شُرَطِيَّة معينة لا يملكها الفتى، وهي الوقاية. فعلى الرغم من شهادته المطولة، لم ينأ نيلز بنفسه عن الإسلام الراديكالي، أو حتى عن حقيقة أن تنظيم الدولة الإسلامية يقتل ويمارس الإرهاب، وأن هذا لا يمت بصلة للإسلام، وأن حكايات "البطولات" في أرض الخلافة ما هي إلا دعاية. لم يقل نيلز كلمة واحدة من هذا كله، إذن؛ فما الذي يدفعه لمصارحة المحققين؟

يقول أحد كبار المسؤولين الرسميين: "يمكننا افتراض أن السبب الرئيس في إدلائه بالشهادة هو الرجاء في عقوبة سجن أقصر". "لا يوجد شئ يدعى (التخلص الفوري من الراديكالية). عندما يتورط شخص لهذه المدة وبهذا العمق؛ الأمر يمكن أن يستغرق أشهر أو حتى سنوات".

ويبدو أن نيلز لم يقطع هذا الطريق بعد.. ولكن هاري- على الجانب الآخر- قطع شوطًا كبيرًا.


* الأضواء الحمراء: اسم يطلق على المناطق المعروفة بتجارة الدعارة.