البرلمان في مواجهة الشعب: الرعاية الصحية في مهب "الجمعيات الأهلية" 

منشور الأربعاء 8 فبراير 2017

منذ رزقهم به الله ولسبع سنوات هي كل عمره، ظلت عائلة محمد زكي تبحث عن وسيلة لمنح طفلهم حاسة السمع التي ولد محرومًا منها. كان الحل هو عملية زراعة قوقعة تبلغ تكلفتها 120 ألف جنيه.

لكن الحلم ظل بعيدًا، فالمبلغ المطلوب عصيّ على الأسرة قليلة الدخل.

"لكن الذي ابتلاك قادر على أن يداويك"، لاحت للأسرة فرصة الشفاء على يد إحدى "الجمعيات الأهلية" التي تكفلت بالعملية، وها هو "محمد"  يبتسم اليوم كلما سمع صوت أمه، التي لم تتوقف لحظة عن الدعاء لمن ردوا سمع ابنها إليه.

 حالة محمد تتشابه كثيرا مع حالة "إسراء طه" -19 سنة- التي أصيبت في حادث تصادم، نجم عنه إعاقة في ركبتها اليسرى، استوجبت تدخل جراحي تكفلت إحدى الجمعيات الأهلية بجزء كبير من تكلفته، نظرا لظروف والدها الاقتصادية السيئة.

محمد وإسراء وغيرهم كثيرون، لعبت الجمعيات الأهلية دورا هاما في مساعدتهم على العودة للحياة بشكل طبيعي، قبل أن يتقدم النائب محمد القصبي بمشروع قانونه لتنظيم المجتمع المدني..

في التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، أقر البرلمان المصري مشروع قانون "الجمعيات الأهلية"، وهو القانون الذي أثار غضبًا شديدًا، حتى لدى بعض أطراف الحكومة. فكانت الوزيرة "غادة والي" التي بدأت مهام منصبها باستعداء لمنظمات المجتمع المدني المنشغلة بالهم الحقوقي، على رأس الرافضين لمشروع القانون الجديد، برفضها حضور جلسات مناقشته في البرلمان.  

عبد الهادي القصبي- شيخ مشايخ الطرق الصوفية وعضو الحزب الوطني المنحل ورئيس لجنة التضامن ببرلمان 2016

أبدت وزيرة التضامن الاجتماعي استيائها من اتهام الجمعيات الأهلية بكونها جمعيات ممولة أجنبيا، تعمل ضد مصلحة الأمن القومي قائلة: "لدينا في مصر أكثر من 84 ألف جمعية أهلية، 95% من تمويل تلك الجمعيات يتم من جيوب المصريين وليس من الخارج"، وذلك  تعقيبا على تصريحات السيد رئيس البرلمان المتكررة، بأن قانون الجمعيات الأهلية شرِّع لمنع تمويل الإرهاب.

التقت "المنصة" هبة راشد المدير التنفيذي لمؤسسة مرسال للأعمال الخيرية، التي تركز بشكل أساسي على تقديم الخدمات الطبية لذوي الدخول المنخفضة. بدأت هبة  حديثها قائلة: "القانون الجديد كارثي بالنسبة لكل المشتغلين بالعمل الأهلي التطوعي، وليس فقط المهتمين بالشق السياسي/ الحقوقي  كما يشاع، فالقانون الجديد يحتوي (ولأول مرة) على مواد حبس، حال حدوث أي خطأ إداري".

بحسب نص مشروع القانون المنشور في الصحف، فإن القانون يعاقب بالحبس على بعض الإجراءات الإدارية  كنقل مقر الجمعية إلى مكان آخر دون إخطار، أو إجراء أي بحث ميداني أو استطلاع رأي دون موافقة الجهات الإدارية، أو حتى معاونة أي منظمة أجنبية في ممارسة أي نشاط. لكن المواد التي تهدد سير العمل الأهلي؛ هي تلك المواد التي تضع موظفي الجهات الإدارية تحت طائلة القانون وتعرضهم للحبس والسجن.

تضيف هبة: "لم يكتف القانون الجديد بترهيب العاملين بالقطاع الأهلي وموظفي الجهات الإدارية فحسب، بل إنه ضيق الخناق على المتبرعين الذين هم عصب العملية برمتها، بأن جعل التبرع بأي مبلغ يزيد عن 10 آلاف جنيه غير مقبول إلا بشيك بنكي، وهو أمر شديد التعقيد بالنسبة لشعب لا يتعامل بالشيكات البنكية مطلقا".

وحسب ردود الأفعال التي تلقتها "المنصة" من المتطوعين للعمل في تلك الجمعيات الأهلية الخيرية، فإن تلك التعقيدات الإجرائية والتهديدات بالحبس، سينجم عنها توقف كثير من الجمعيات عن العمل. فأغلب من اختاروا العمل التطوعي بالمجال الطبي والاجتماعي، "أهل خير"، لا ينشغلون بالنضال أو مقاومة القوانين التي يرونها جائرة، ولم يُبدِ أيهم استعدادا للاستمرار في العمل تحت تهديد الحبس المستمر.

وبحسب الآراء القانونية بل ورأي جهات تُحسب على الدولة أيضًا، فالقانون القديم لسنة 2002 تتحقق فيه اغراض مراقبة كل مليم تنفقه الجمعيات بواسطة وزارة التضامن "الجهة الإدارية المسؤولة"، والجهاز المركزي للمحاسبات. ما يطرح تساؤلات عن وضع القانون الجديد بإجراءاته التي توصف من قبل الحقوقيين وجهات قانونية وحكومية بأنها "مكبِّلة".

من جانبها؛ أعلنت الدولة عن عزمها إنشاء (جهاز جديد) يتولى ادارة ملف الجمعيات الأهلية، وبنظرة على تكوين الجهاز المزمع إنشاؤه، ينتابك إحساس أننا أمام "مجلس حرب"، لا جهاز أنشئ للتعامل مع مدنيين.

فالجهاز يتكون من ممثلين عن: وزارة الدفاع - وزارة الداخلية - وزارة العدل - المخابرات العامة - وحدة غسيل اﻷموال- الرقابة اﻹدارية - وزارتي الخارجية والتعاون الدولي.. في ظل غياب تام لممثلي القطاع المدني المنوط بالجهاز التعامل معهم بالأساس.

                                  

غرفة انتظار الأطفال داخل مركز مرسال لعلاج الأورام والغسيل الكلوي

 

قفزة في الفراغ

 

في مكتبه بجامعة القاهرة التقت "المنصة" دكتور حسام عبدالغفار، المتحدث الرسمي السابق باسم وزارة الصحة، والذي يشغل حاليًا منصب الأمين العام المساعد لشؤون المستشفيات الجامعية.

بدأ عبدالغفار حديثه قائلا: دعنا نقر أن المجتمع المدني يمثل ضلع مهم في مثلث الرعاية الصحية بمصر، وأن تعرضه لأي هزة؛ سينجم عنه أزمات لا أعتقد أن الموازنة العامة للدولة قادرة على استيعابها والتعامل معها.

يشرح عبد الغفار: ميزانية المستشفيات الجامعية - الباب الثاني (باب الأجهزة والمستلزمات الطبية) مليار و69 مليون جنيه سنويا. بقسمة هذا الرقم على عدد المستفيدين من خدمات المستشفيات والبالغ عددهم 16 مليون مواطن، يتبين أن نصيب الفرد في الميزانية 65 جنيه سنويا تقريبا؛ في حين أن الرقم الفعلي الذي يستهلكه الفرد سنويا هو تقريبا 500 جنيه، أي أننا لدينا عجز 435 جنيه سنويا للفرد الواحد، (إجمالا 6 مليار ونصف سنويا).

"من أين يُسد كل هذا العجز؟ من العلاج الاقتصادي ومن المجتمع المدني، ممثلا في الجمعيات الأهلية أو تبرعات البنوك والشركات الكبرى".

يضرب الأمين العام المساعد للمستشفيات التعليمية مثلا بعمليات "زراعة القوقعة"، كنموذج لما يحدث قائلا: في العام الماضي أجريت في مصر ما يقرب من 1500 عملية زراعة قوقعة لتعيد السمع لأطفال صغار، نسبة القادرين منهم على سداد التكاليف لم تتجاوز 5%، أما الباقي فتم على نفقة الدولة.

تكلفة العملية الواحدة تتجاوز 120 ألف جنيه، الدوله تدفع منهم 90 ألف جنيه فقط، أما باقي المبلغ (الثلث تقريبا)، فتتكفل به الجمعيات الأهلية.

وما نقوله عن زراعة القوقعة ينطبق على مواقف كثيرة أخرى. "دائما سنجد أن المجتمع المدني يتكفل بثلث المهمة على الأقل. باختصار  يمثِّل (الثلث المعطل) الذي بدونه تقف المراكب السائرة". يقولها عبد الغفار مبتسما.

مرضى الغسيل الكُلوي لا مخرج لهم

 

                      

مريض يتلقى جلسة غسيل كُلوي بإحدى الجمعيات الاهلية 

مع تفاقم أزمة العملة الأجنبية، بدأت المراكز التي تقدم خدمات جلسات الغسيل الكُلوي في الإعلان عن تعرضها للتوقف في العديد من المحافظات، ليتكشَّف أن عشرات الآلاف من المصريين الذين يعانون الفشل الكُلوي (ترفض الدولة الكشف عن الرقم الدقيق)، يعتمدون في معظمهم على المراكز الخيرية التابعة للجمعيات الأهلية، في الحصول على خدمات غسيل الكُلى الضرورية لاستمرارهم على قيد الحياة.

دكتور أحمد عاطف، طبيب بإحدى وحدات الغسيل الكُلوي الأهلية. المركز الذي يعمل فيه عاطف - وإن بدا بسيطا؛ إلا أنه لا يخلو تقريبًا من المرضى وذويهم، والنظام المحكم الذي يعمل وفقه المركز؛ يبدو جليا.

"في مصر تجرى عمليات ٤ مليون غسله كُلوية سنويا"، هكذا يبدأ عاطف حديثه، مضيفًا: "نحن أمام أعداد مهولة من المرضى المحتاجين لغسيل كُلوي مستمر.. أعداد تعجز الدولة عن خدمتها منفردة. فعلى الأقل مليون غسله منهم تتم في المراكز الأهلية. ولذلك حينما ارتفعت أسعار الفلاتر وأعلنت المراكز أنها قد تتوقف عن العمل ما لم ترفع الحكومة الدعم المالي لها، سارعت الحكومة إلى دعم المراكز لعلمها بالكارثة التي ستقع لو توقفت تلك المراكز عن العمل".

تلتقط إحدى زميلات عاطف (فضلت عدم ذكر اسمها) طرف الحديث منه شارحة: "مريض الكُلى يحتاج إلى 12 جلسة شهريا (ثلاث جلسات أسبوعيًا)، ومتوسط سعر الجلسة 230 جنيه (دون هامش ربح). أي أننا نتحدث عن 2800 جنيه شهريا للمريض الواحد، وهو الرقم الذي يعجز أغلب المرضى بالقطع عن سداده، وبالتالي يقسم المرضى بين التأمين الصحي والعلاج على نفقة الدولة، لكن نظرا لضخامة العدد فإن المراكز الأهلية تلعب دور بارز في حمل هذا العبء".

هناك بروتوكول بين تلك المراكز الأهلية والحكومة، تتحمل الحكومة بمقتضاه 140 جنيه للغسلة الواحدة، ويتحمل المركز المبلغ الباقي (الثلث تقريبا). لكن مع تحرير سعر صرف الجنيه؛ ارتفعت أسعار المستلزمات الطبية، وأصبحت الـ140 لا تكفي لدعم تلك المراكز للاستمرار في العمل. لاحظ أن تلك المراكز بحاجة إلى هامش ربح لتتمكن من دفع الاجور والاستمرار في العمل.

 

استغاثة من جمعيات أهلية تقدم الخدمات الطبية بالفيوم 

        في البداية تجاهلت الدولة أصوات المراكز التابعة للجمعيات الأهلية، لكن بعد أن أعلن عدد من المراكز أنهم نظرا لارتفاع أسعار المستلزمات الطبيه الناجم عن تحرير سعر الصرف (الفلتر مثلا قفز سعره من 65 جنيه إلى 120 جنيه) فإنهم سيضطرون للتوقف عن العمل، حينها تحركت الدولة سريعًا وعقدت أكثر من جلسة حوار مع مديري عدد من المراكز، ليصدر قرار رسمي برفع الدعم الذي يتلقاه المركز نظير الغسلة الواحدة من 120 الى 200 جنيه. وهو الرقم الذي ما زال لا يغطي تكلفة الغسلة، التي تجاوزت الآن مبلغ 400 جنيه. "لكن"، تقول زميلة عاطف "أحسن من مفيش".

"كانت أيام سودا ربنا لا يعيدها"، هكذا تصف الحاجة زينب فترة التوقف الجزئي عن العمل  لمركز الغسيل الكُلوي الذي يتردد عليه زوجها، مضيفة أنهم يأتون إلى هذا المركز مرتين أسبوعيا منذ عام ونصف تقريبًا. مؤكدة أن فكرة توقف المركز عن العمل "هي والموت سواء" بالنسبة لزوجها.

أزمة مراكز غسيل الكُلى مع الدولة تعد مثالا حيًا على أهمية دور المجتمع المدني في منظومة العلاج المصرية. الدور الذي دفع -مجرد التلويح بتوقفه- الدولة للجلوس مع المراكز الأهلية للوصول لتسوية.

 الرسالة إذن كانت واضحة: الدولة لا تستطيع تحمُّل عبء المرضى وحدها دون مساعدة الجمعيات الأهلية.

لكن إذا كان العاملون بالمجال الطبي -سواء المحسوبين على القطاع الأهلي أو حتى المسؤول الحكومي- يرون مشروع  القانون الجديد كارثي؛ فكيف إذن يراه مشرعي البرلمان؟ وما الذي كان يجول بخلدهم وهم يصوتون عليه؟

 

البرلمان: لا خير بلا استفادة

 

 

النائبة د. شادية ثابت 

  "الحداية ما بتحدفش كتاكيت" هكذا تلخص النائبة/ شادية ثابت -عضو لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب- رؤيتها لوضع الجمعيات الأهلية الصحية.

في مكالمة هاتفية مع "المنصة"، أكدت النائبة أن القانون "مش هيحبس اللي ماشي عدل، لكن اللي بياخد تمويل أجنبي وعنده أجندة هو ده اللي يخاف".. دكتورة شادية تختلف مع الرأي القائل إن الجمعيات الأهلية تلعب دورًا كبيرًا في منظومة العلاج المصرية، وأن القانون الجديد قد يُخل بقدرتها على أداء هذا الدور قائلة: "إنهم لا يشغلون حيزا كبيرًا،هم فقط يشاركون، لكنهم لا يمثلون حيزًا كبيرًا مطلقًا". مضيفة أن تلك الجمعيات هي مشاريع ربحية، "أينعم يقدمون خدمات بأسعار زهيدة، لكن القليل في الكتير يجمع" على حد تعبيرها.

ولم يفت النائبة البرلمانية قبل إنهاء حديثها معنا، أن تثني على دولة "الكويت" التي تبرعت بسبعة وثلاثين ماكينة غسيل كُلوي لقسم الكُلى بمستشفى إمبابة العام. وبسؤالها: ألا يعد هذا تمويلا أجنبيا؟ أجابت: "لأ مش تمويل، دي أجهزه مش فلوس!".

                                          

ممر بإحدى مستشفيات التأمين الصحي 

لكن ما الذي دفع البرلمان للإصرار على المضي في مشروع قانون، سيُحدِث – على أقل تقدير- عطبًا في المجتمع المدني بمعناه الأوسع، وستنجم عنه مشاكل اجتماعيه وصحيه تعجز الدولة عن حلها؟

بنظرة على تصريحات السيد رئيس البرلمان، والدكتورة شادية ثابت عضو لجنة الصحة بالمجلس، ندرك أن الهدف -كما صرحا- هو القضاء على التمويل الأجنبي، الذي يعتبرانه "معول هدم للوطن". وهو التفسير الذي يتفق مع ما قاله أحمد البرعي وزير التضامن الأسبق، الذي رأى أن قانون الجمعيات الأهلية يستهدف المراكز الحقوقية والغلابة سيدفعون الثمن.

لكن خالد منصور-الاستشاري بالأمم المتحدة وخبير المساعدات الإنسانية -  يرى أن القصة "أعقد من الدبة التي قتلت صاحبها". الخبير التنموي، يرى أن ما فعلته الدولة تفعله بوعي تام، حيث "ترفض السلطة الأمنية وجود أي تنظيم بأي شكل"، فهي تعتبر فكرة تنظيم الناس (حتى ولو لأسباب اجتماعية)؛ خطرًا عليها. ولذلك؛ تبدو وكأنها مستعدة للتضحية بأي خدمة يقوم بها "المجتمع المدني"، نظير الخلاص من أي عمل منظم، حتى ولو كان يهدف لتقديم خدمات تعجز الدولة عن توفيرها للشارع.

في واحدة مما يراها البرلمان "مشاغبات وخروج على السرب" تقدم النائب محمد أنور السادات ببيان عاجل في الرابع من يناير/ كانون ثان الماضي، يتساءل فيه عن مصير القانون الذي وافق عليه البرلمان وأرسله لرئيس الجمهورية، ومرت عليه (وقتها) أكثر من ثلاثين يومًا دون رد من الرئاسة، رغم أن الدستور يلزم الرئاسة بالرد بالإصدار، أو الرفض خلال ثلاثين يومًا فقط. 

بعدها بأيام بادر الوزير مجدي العجاتي وزير الشؤون البرلمانية والعدالة الانتقالية لرفع الحرج عن الرئاسة قائلاً: إن البرلمان لم يرسل القانون للرئاسة من الأساس، رغم الموافقة عليه في نوفمبر الماضي.

وحتى تاريخ نشر هذا التحقيق (ثلاثة أشهر من إقرار القانون في البرلمان) لا يزال مصيره معلقًا، دون أن يتأكد إن كان تعطيله نتيجة لسهو برلماني أم حذر رئاسي.

وبعيد عن النوايا المتشككة من المجتمع الأهلي والحكومة، فالسؤال الأهم هنا: هل تستطيع الدولة المصرية سد الفراغ، الذي سيخلفه القضاء على جمعيات تعمل في مجالات عدة، أبرزها  الصحة والتعليم والتكافل الاجتماعي؛ في وقت تعاني فيه الدولة نفسها من عجز في الموازنة وأزمات اقتصادية لا قبل لها بها؟