ليس مقالًا عن عمرو دياب

منشور الاثنين 14 أغسطس 2017

كل نجم بلغت شهرته حجمًا كبيرًا يصبح حجم ما يُنشر عنه ويدور حوله من أخبار وآراء ومقالات وبرامج كبيرًا أيضًا، وتزيد فيه الأهواء والمصالح ويقلّ المحتوى النقدي. هذه قاعدة لا تحتاج لكثير من التدليل لأنها ببساطة تثبت نفسها كل يوم، خصوصًا في عالم صارت المشاركة فيه بالكتابة/ الرأي/ التحليل/ النقد/ السب متاحة لنا جميعًا تقريبًا بقدر متساوٍ عبر السوشيال ميديا.

لقد كانت هذه القاعدة سارية حتى قبل عصر السوشيال ميديا، بحكم أن الارتباط بين صناعة الفن وصناعة الإعلام أكثر من مصيري، وقد توازى دائمًا نمو كل واحدة مع الأخرى، خصوصًا منذ بداية عصر انتشار الراديو (في حالة صناعة الموسيقى)، ثم التلفزيون وأشرطة الكاسيت والسي دي لاحقًا، والذي منح صناعة الموسيقى أزهى عقدين ما زال يذكرهما التاريخ من حيث النجاحات القياسية والأرباح؛ عقدي السبعينيات والثمانينيات. بداية من هنا اختَلَف النظر للفنون من حيث كونها منتجات تخص أفرادًا وشركات وتنتشر في نطاقها الجغرافي المحدود إلى كونها صناعات إبداعية، تنظمها لوائح وقوانين أكثر عمومية بحكم أن المنخرطين فيها صاروا أكثر عددًا، وأرباحها صارت أضخم، ومن ثم أيضًا تأثيرها على الجماهير والمجتمعات.

مع تعقد الأمر صار جديرًا أكثر من ذي قبل بتناوله من أكثر من زاوية تحليلية، بحكم كل هذه الأطراف التي تتعامل معه وتشارك في صناعته وتستفيد منها، وبحكم التأثير الأكبر الذي يكتسبه على قطاعات جماهيرية واسعة. الزوايا قد تكون اقتصادية (اقتصاديات الصناعة وما حولها) أو اجتماعية (الفنان المُرسِل والجمهور المُستَقبِل) أو سياسية (الظروف التي يظهر فيها العمل الفني والأغراض التي تساعد في ظهوره أو تعرقله) أو فنية تقنية (دور الناقد الفني في تصنيف العمل والإضاءة على الأسلوب والرؤية). وأصبح من الأصعب فصل الممارسة الفنية كحدث يخص صناع العمل الفني من المبدعين عن كل الحلقات والمراحل التي يمر عبرها إلى الجمهور وعلى رأسها المجال الإعلامي.

من هنا ظهرت كلمة popular music التي تم اختصارها فيما بعد لـ pop music التي تُعنى بتعريف الأعمال التي تستهدف أوسع شريحة جماهيرية ممكنة. وكذلك ظهرت صناعة الأيقونة الفنية   iconization كعملية موازية للنشاط الإبداعي تهتم بصناعة صورة الفنان؛ بداية من الشكل والملابس والمهارات الأدائية والدلالات التي يؤكد عليها المشروع الفني في جميع التفاصيل التي تصدر عنه، بجانب المنتج الأصلي؛ بداية من الإشاعة الكاذبة والخبر الصحفي وأغلفة الألبومات وحتى التصريحات والمواقف التي تصدر عن المبدع والمحيطين به/ا.

إذا نظرنا للأسواق الكبرى التي توسعت حقًا في الصناعات الإبداعية واقتصادها، بمعنى ترجمة العملية الفنية إلى رقم اقتصادي يؤثر بقوة في كل ما حوله، سنجد أن تصنيف العمل من حيث جماهيريته أدخل تغييرات كبيرة لمعنى الموسيقى والأغاني وقيمتها وأنواعها وآليات عملها. ببساطة أصبحت الكلمة المكتوبة والبرنامج التلفزيوني تساوي أموالًا، وأصبح النجاح والحفاظ عليه يتطلب مؤسسات تُطَوِّر أساليب لاستثمار النجاح، وتبتكر الجديد لرفع سقف التوقعات، والحفاظ على الجماهير متعطشة للمزيد؛ حقوق الملكية الفكرية، العقود القانونية، الأفلام التسجيلية والفيديو كليب والبرامج المثيرة عن صناع الموسيقى، اقتحام الكواليس الفنية والحياة الشخصية للنجوم، وكذلك المعارك الفنية والصراعات وطرق حسمها أو تفجيرها حسب ما يتطلب الأمر.

وهنا في عالم البوب، أصبح أيضًا من المهم فصل الكتابة النقدية الاحترافية عن تلك التي تعمل ضمن منظومة صناعة الأيقونة، لأن ذلك من شأنه الحفاظ على قدر من المصداقية وراء كل ما يحدث، قدر من الاهتمام الحقيقي بأسباب النجاح وتفسير كل العلاقات الاجتماعية خلفه. في الدول التي تتعلم من التاريخ، هناك اهتمام حقيقي بـ "كيف يُكتَب التاريخ". وبالنسبة لها، أكبر ضمانة لكتابة التاريخ بأقل قدر من التزييف، هو كتابة التاريخ من وجهات نظر متعددة، وهذا يعني إتاحة الفرصة للتنوع. يومًا ما ستتعلم أمريكا شيئًا من كتابة احترافية عما قدم مايكل جاكسون، بعيدًا عن كل ما تقدمه منظومة جاكسون وشركات الإنتاج والإعلام التي يتعامل معها، بعيدًا عنها تصدر مئات الكتب والمقالات الأكاديمية والأفلام التسجيلية والتحليلات الفنية والثقافية عن الظاهرة. نعم، لأنها ظاهرة.

الظاهرة هي أن يحدث لفنان أو مجموعة فنية أو مشروع فني طفرة أكبر من مجموع مكوناتها، بمعنى أن تجمع عناصر متعددة لا تتكرر كثيرًا لمعظم الفنانين، وتستطيع بها تحقيق أثر تبقى به في ذاكرة مجتمعها الواسع أولًا وربما العالم كله أو جزء منه. الظاهرة تجمع الموهبة، والنجاح بالمعنى الكمي، والتأثير بالمعنى الكيفي؛ الذي يعني أنك تلمس وجودها ليس فقط لارتباطها بعمل فني أنتجته، بل لأنها صارت جزءًا من وجدان الأجيال التي عاصرتها وربما تمتد لأجيال بعدها؛ يتأثرون بمواقفها، ينظرون لها باحترام، يقلدونها، يستشهدون بها، والأهم بالنسبة لمطرب/ة: يغنون مثلها.

هنا بالتأكيد لا يمكن وصف عمرو دياب إلا بأنه ظاهرة الأغنية المصرية والعربية الأبرز منذ النصف الثاني من التسعينيات تحديدًا. ولا أريد التطرق لمجموع النجاحات والجوائز والمراحل الفنية التي تعرفونها أفضل مني، ولكن أريد التركيز على جوانب تختلف فيها ظاهرة عمرو دياب عن ظواهر غنائية عرفناها مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز كمثال. ولكن أولًا أريد التأكيد أن الظاهرة ونجاحها لا يعني أنها تعجب الجميع ويحبها الجميع، ولا يعني أنها تقدم الجماليات الفنية المطلقة، أو أن معايير تقييمنا لكل عمل فني آخر يكون بالقياس عليها. كل هذا شيء آخر.

مغامرة عمرو

في تقديري أن عمرو دياب اتخذ قرارين على مرحلتين كان لهما تأثيرًا كبيرًا في منهجه لصناعة "ظاهرة غنائية" غير مسبوقة في الوطن العربي.

القرار الأول: قرار الانسلاخ عن الوسط الثقافي والإعلامي الذي صنع الظواهر التي سبقته واحتضنها.

لقد ورث عمرو دياب وجيله الوسط الإعلامي الذي أحاط بأم كلثوم وعبد الحليم حافظ (فقط كمثال لمرحلة). بداية من صناع الأغنية الذين عاشوا بعد وفاة الفنان الكبير، كوادر الإذاعة والتليفزيون، رؤساء التحرير ورؤساء الأقسام الفنية في الصحف والمجلات، وكذلك الجمهور الذي اعتاد تصديق ما يقدمه هؤلاء، الذين بالطبع كانوا نجومًا في مجالاتهم وقتما كان عمرو دياب مطربًا يشق طريقه. وفي رأيي أن الوصول لحتمية هذا الانسلاخ، أو القطيعة التي وصلت حد العداوات والصراعات، كان تدريجيًا، وكان طريقًا ليكتشف عمرو نفسه بعد محاولات للتطبيع وكسب الود، وحتى اكتشاف أن صناعة صورته الفنية أو أيقونته لها طريق مفارق. ونستطيع أن نقرأ هذا التدريج في أعمال عمرو نفسها، وليس خارجها فقط في الحوارات والبرامج. لقد قرر عمرو أن يخرج من صورة مطرب يواجه هجومًا تقليديًا على نجم صاعد، ويدافع عن نفسه، ويحاول إثبات موهبته بما يضعه دائمًا في مواجهة معايير زمن ماضٍ، قرر أن يخرج لموقع الهجوم، أن يقدم نفسه كوجه للتغيير، كمدافع عنه، كرمز له.

من المهم هنا الإشارة إلى أنه يدرك تماما قيمة احترام الكبير وزمن الفن الجميل المغالى في تقديرها في مجتمعنا، وعلمته بعض الأخطاء أنه يمسك بميزان حساس بين أن يتطرف في إبراز وجه ثوري لا يحتاجه، وأن يبرز نفسه كفنان غير معتد بالماضي ونجومه بالقدر الذي يتملق به الكبار وينال رضاهم.

أول ما أطاح به عمرو هو الكلمة الغنائية، نعم، لقد قال بوضوح- من خلال أعماله- أنه لن ينتمي لجيل شعراء العامية مثل عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب والأبنودي ونسلهم من الشعراء، وقال أيضًا إنه سيسعى وراء التأثير الصوتي للكلمة في مقابل السعي وراء الصورة الشعرية والاتساق اللغوي. وهنا يهمني الربط بين هذا القرار وقراءة مجتمع وجيل يلمس فيه المطرب ذائقة أخرى تحتاج لمن يلبي احتياجها، وانصراف عن اللغة كوعاء أوحد للمعنى، واهتمام أكبر بتأثير الموسيقى وإيقاعاتها وحسيتها -التي تخاطب الجسد كما الذهن- على الاستماع وطبيعته.

إن شئت أن تعرّف الذكاء الفني فهو تلك القراءات المبكرة لتحول ما، والقدرة على الانتقال بالعمل الفني ليكون شريكًا في صناعة التحول وليس رد فعل له.

من هنا تكونت الملامح الأولى للمشروع؛ رمز يغيّر في ثوابت شكلية ومضمونية، ولا يخشى من التغيير، ويعتمد في عمله فقط على شباب جيله، حاسمًا في عدم اللجوء لأجيال مخضرمة ربما كانت لتجعل طريق الصعود أسهل.

هناك تقاليد مستقرة ربما ما زالت سارية في عالم الغناء وترتفع قيمتها في الغناء الشرقي بشكل خاص؛ بجانب الخبرة في فن التطريب، هناك إيقاعات تعرف طريقها للجمهور أهمها إيقاع المقسوم (الواحدة ونص)، وهناك أيضًا آلات موسيقية ترتاح لها الأذن العربية إذا أُديت بأسلوب معين، وهناك صورة المطرب "النحنوح" ولا أقصد هنا الوصف السلبي، ولكن لم أجد كلمة أفضل لوصف أسلوب أدائي يتسم بالحسية المشوبة بضعف، واستغلال مشاعرنا المازوخية (وليس هذا أيضا وصفًا سلبيًا) في تأجيج الانفعال بالغناء.

عمرو دياب لم يتقن هذا الأسلوب، وربما عرف مبكرًا هذا أيضًا عن نفسه. عرف أن صوته إيقاعي، بمعنى أن أعظم مزاياه هي هذا التعشيق المبدع بين النغمات والإيقاع، أسلوبه في التقطيع للكلمات، وفي اختيار الألحان التي تتيح هذا التقطيع، لهذا قلت إن صوتيات الحروف تهمه أكثر كثيرًا من السياق العام للأغنية، وفي ظني أنه يختار ويعدّل في الكلمات باهتمام كبير لمراعاة هذا المعيار. كذلك ظهرت أغنياته غير ملتزمة بإيقاع المقسوم وفقط، بل حتى أحدثت تغييرًا في طبيعة الآلات الإيقاعية التي تؤديه، وهو بالمناسبة ما يجعلها غير ملائمة للذوق الشعبي التقليدي مقارنة بغيرها من أغاني جيله، بشكل عام كانت صيغته الموسيقية تنظر إلى موسيقى العالم باهتمام منذ البداية حتى لو خسرت قاعدة جماهيرية مضمونة.

استكمالًا لذلك الخط دشّن عمرو نفسه كفنان معتز بذكورته، الذكورة هنا تختلف عن "الذكورية"، أقصد بها الاعتداد بالتركيب الجسدي للذكر كعلامة على استقواء مقابل الضعف الذي يحب المطربون الذكور أن تشي به أغانيهم. الـ cross gendering أمر طبيعي في الغناء، يحتاج المطرب لشيء من الأداء الأنثوي ليكتمل صوته وحالته والعكس للمطربات، لكن استعانة عمرو دياب بهذه التقنيات كانت في أضيق الحدود. وربما يظهر هذا في أنه مطرب يتساوى جمهوره من الرجال مع جمهوره من النساء، لأن تأكيده على هذا الأداء الذكوري شكلًا ومضمونًا كان تأكيدًا جديدًا على رمزيته كحالة مختلفة عن سابقيها، حالة مرتبطة بقيم اجتماعية تتغير حولها، وترى في المطرب الصاعد رجلًا أقل رومانسية، لا يَفترِض في نفسه مثالية المظلوم دائمًا، ولكنه أكثر حسمًا في عواطفه، الفراق وانتهاء قصص الحب قدر لا يجب أن نعطيه أكبر من حجمه، والحياة تتواصل ظالمًا كنت أو مظلومًا.

القرار الثاني: الـ standardization للأغنية، أو كيف تصنع أغنية تسمعها الأغلبية من المستمعين.

يعمل فنانو البوب عمومًا داخل نطاقات واختيارات شعرية وموسيقية مرتبطة أساسًا بقابلية السمع عند الجمهور. بمعنى أنه نوع من الموسيقى يحاول تثبيت قواعد الاستماع بقدر الإمكان وتغيير عناصر قليلة تكسر الملل والاعتياد في كل مرحلة. ولكن هناك دائمًا فارق بين من يستمر منصاعًا لتلك القواعد، بمعنى أنه يستمر باحثًا عن ما أثبت نجاحه ثم يصنع شبيهه، وبين من يستطيع أن يكون trend setter أو مُحَدِّد للمعايير التي يستمع بها الجمهور.

كانت مغامرة عمرو دياب الثانية بداية من 1998 عندما أصدر ألبوم "نور العين" هي اقتراح الموضة الغنائية بالتوافق مع موجات غنائية ناجحة في البوب العالمي، واستضافة هذه الموجة ضمن غناء عربي لا يخلو من ضلعين أساسيين: الميلودية والتنوع المقامي. اتخذ نجاح عمرو منحنى آخر بعد هذا التاريخ.

لقد مر بتجارب متعددة منذ بدايته في 1983 وحتى نور العين، كانت هذه الفترة غنية بتجارب الفرق الموسيقية التي تحاول أن تجد مذاقًا عربيًا لا يتنافر مع الجاز والبلوز والروك العالميين، وفي سبيل ذلك استُثمرت مجهودات عديدة في الكلمة واللحن والتوزيع الموسيقي، ولكن عمرو دياب رأى كيف أطاح نجاح حميد الشاعري- بصيغة موسيقية أقل تعقيدًا - بتلك المحاولات كلها، وتعاون معه في نور العين وقبلها. لكن المختلف هذه المرة هو النظر والتحديد الحاسم لأن معيار النجاح جزء منه مرتبط بالعالم الخارجي وليس فقط بالتجريب المحلي، بمعنى أوضح البداية من حيث ينتهي الآخرون- أنجح الآخرين- وليس محاولات توفيقية تعتمد أساليب -تحديدًا في التوزيع الموسيقي- معقدة أكثر مما تتطلبه أغنية تُقبِل عليها أغلبية الجمهور، وليس شرائحه المثقفة موسيقيًا.

التوصل لهذا القرار والصيغة الموسيقية- ونجاحها الكبير بطبيعة الحال- أطلقت ثقة عمرو دياب فيما يقدمه، ومنحته حرية أكبر برغم ما يظهر من أنها مقيّدة فنيًا. وجوده في مكانة المطرب الذي يصنع موضة غنائية في كل عمل يقدمه زادت طموحه في تحسين كل عنصر من عناصر أغنيته، بمعيار جودة عالمي، من حيث الكلمة والجملة اللحنية والتوزيع الموسيقي واختيار عازفين متميزين للتسجيلات وأخيرًا الهندسة الصوتية. ويظهر الفرق واضحًا في أعماله التي تَلَت "نور العين"، التي شهدت تطورًا متتابعًا بدءًا من "عودوني" و"أكتر واحد بيحبك" و"تملي معاك" و"علم قلبي" و"كمل كلامك"، كانت أكبر ملامحه هو دخول أجيال جديدة في صناعة الأغنية، واتساع عالم عمرو لشباب من الشعراء والملحنين والموزعين الموسيقيين الذين يتنافسون على تحقيق طموح التفوق في كل ألبوم، وأنتجت في الحقيقة مجموعة من الأغاني التي تحمل بصمة ستبقيها وقتًا طويلًا ضمن كلاسيكيات الأغنية العربية جودة وفنية.

جدير بالذكر أنه برغم ما يتردد من تعليقات ارتجالية، إلا أن الموسيقى التي أنتجها عمرو دياب كانت مخلصة للمقامات الشرقية المتنوعة أكثر من غيرها بين أبناء جيله ومن تلاه. وهذا التنوع تحديدًا يميزه، بمعنى أنه يمنحه بصمة متميزة تلائم بصمته الصوتية وقبوله الشكلي؛ كلها عناصر تشكل جسرًا بين عالم مضى كانت القدرات الصوتية واللحن مركز العمل الغنائي، وعالم لا تقف فيه الأغنية على ساق واحدة. لا يخلو ألبوم لعمرو دياب من مقامات مثل البياتي والحجاز والصبا والراست وفروعها، ولا تخلو كلماته من امتزاجات بلغة الشارع وتعليقاته، ولكنه يأخذها إلى عالمه الموسيقي ويهتم بإدماجها في الصيغة العالمية التي تحدثنا عنها سابقًا.

قلت إن هذا ليس مقالًا عن عمرو دياب لأني لا أستطيع الإحاطة بأسباب تحوله لظاهرة مكتملة، ولا يستطيع مقال واحد ولا وجهة نظر واحدة ذلك، لكن موضوعي هو تتبع جزء من هذه الأسباب بغرض إحداث تغيير في طريقة النظر للنجاح في هذا النوع من الموسيقى.

غرضي هو أن يدرك من ينظر من الخارج كل هذه الأفكار التي يتفاوض معها فنان واحد ليعرف طريقه أو يحدد طموحه، الطموح في حالة عمرو دياب كان النجاح لدى الشريحة الأوسع من جمهوره المحلي ثم تجاوزه إلى الجمهور العالمي، قد لا يكون هذا طموح فنان آخر، وقد لا يكون هذا طريقه، ولكن النجاح في هذا النموذج كانت هذه بعض متطلباته، وهكذا طوّعها فنان ليحققه، لا علاقة لهذا بالتضحية بالقيمة الفنية أو أن يكون محض صدفة أو استغلال لهبوط الذوق إلى آخر هذه الاصطلاحات والتفسيرات السهلة التي يخلو منها أي نقد فني يحترم نفسه، وكذلك يحترم حجم الجهد المبذول وراء الصناعة الفنية بشكل عام. هذا النجاح الذي يعتمد على القبول (الفن سلعة لا يجبرك أحد ولا احتياج على استهلاكها)، وعلى عقل وموهبة صاحبه، وعلى شركاء مؤثرين، وكذلك على سياقات وظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية والتعامل معها، لا يمكن تفسيره بعدم اكتراث هكذا، ولا تكفي لفهمه جمل محفوظة يلقيها الكل على الورق.