تصميم- أحمد بلال
هل يعود الشعب المصري للميدان مجددًا؟

على الشعب المصري أن يعود

منشور الخميس 3 أغسطس 2023

تواجه مصر الآن أزمة اقتصادية وسياسية عنيفة، ربما لم تشهد مثيلًا لها من قبل. وهي ليست مجرد أزمة عابرة أو حاصل تضافر عدة ظروف متزامنة معاكسة عالميًا ومحليًا، بل أزمة هيكلية وصلت إلى حد المس بنخاع الشعب والدولة. وهي نتاج لخيارات اقتصادية وسياسية متراكمة في السنوات العشر الأخيرة، اتسمت بعدم الرشادة أولًا، ثم عدم المرونة ثانيًا.

كلامي هنا ليس موجهًا للقافزين من السفينة المصرية وهم ينشدون الأغاني الوطنية صراخًا وتمويهًا، ولا لمحترفي الإنكار ودفن الرؤوس في الرمال. وليس موجهًا بالطبع إلى الدراويش الذين يرمون حمول أوزارهم وخياراتهم على المولى عز وجل، دون حدٍّ أدنى من احترام أهليتهم وإرادتهم الإنسانية.

استمرار الأزمة له أثمانه الباهظة المتراكمة التي يدفعها المصريون منذ أعوام، أثمان حولت حياتهم إلى كابوس واقعي متمدد ومتبلد، يسحق تحت أقدامه فئات واسعة من متوسطي ومحدودي الدخل. فلماذا يصبر المصريون من كافة الفئات الاجتماعية المتضررة على ذلك؟

من السهل دفن الرأس في الرمال والاكتفاء بإحالة الأمر إلى قسوة القمع الذي جرّف الحياة المدنية في مصر. لكن من الصعب الاعتراف بأنَّ طريق الخروج من هذه الأزمة المركبة سيكون ملغَّمًا بتكاليف باهظة، سيدفعها المصريون جميعًا من كافة فئاتهم وطبقاتهم، وفي طليعتهم النخب الحاكمة سياسيًا واقتصاديًا، ثم كتلهم الطافية من أصحاب رؤوس الأموال الريعية والبيروقراطية. ليس لأن هذا هو العدل، بل لأنه ليس هناك خيار آخر لتبقى مصر.

كانت مظاهرات 30 يونيو إرادة شعبية نافذة تسعى إلى نزع الإرادة عن نفسها

ولأنه لا يوجد خيار آخر للإصلاح سوى دفع الأثمان، وبعضها سيكون عنيفًا، فوجب على هذا الخيار أن يكون مُشرعنًا بالإرادة العامة "الحقيقية". ذلك أن هذه الإرادة الحقيقية هي العاصم الوحيد من انزلاق الأزمات وانعطافها نحو مآلات قد لا يُحمد عقباها؛ اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا، بعدما استقر السياسي منها حاليًا في قاع لا يُخشى عليه المزيد من السقوط.

فلنرجع قليلًا إلى الوراء 

كانت المظاهرات التي بدأت في 30 يونيو/حزيران 2013 استثنائية في التاريخ المعاصر، فعدد المشاركين فيها أضعاف من شاركوا في ثورة يناير 2011. لا يمكن نزع صفة الإرادة الشعبية عن يونيو 2013، ولا يمكن وصفها بـ"الفوتوشوب"، كما فعل الإخوان المسلمون.

لكنَّ مظاهرات 30 يونيو كانت إرادة شعبية نافذة تسعى إلى نزع الإرادة عن نفسها. شيء فريد في ذاته، لأنها كانت ثورة شعبية على مسارات الثورة الشعبية الأم وتيهها، انتهت بتفويض القوات المسلحة من قِبل أغلبية من المصريين للقيام بردع أقلية من المصريين، دون تحديد الآليات والوسائل والحدود والمدة الزمنية، فكانت الكارثة في أغسطس/آب 2013.

أما من حصلوا على التفويض، فحرصوا كل الحرص على ابتذال الإرادة الشعبية التي فوضتهم، فتحولت كل "الأعراس" الديمقراطية بدءًا من استفتاء 2014 على الدستور، ثم "انتخابات" الرئاسة في 2014 و2018، وما أعقبها من تعديل للدستور، إلى سلسلة من كرنفالات الرقص أمام اللجان، لا لشيء إلا تذكير "الشعب" بما آلت إليه إرادته.


لم تكن طقوس الرقص أمام اللجان قدرًا محتومًا، ولا فعلًا عفويًا، بل إذلالًا وتذكيرًا بأن الإرادة الشعبية غُيّبت بمحض إرادتها. كان يمكن إخراج "الأعراس الديمقراطية" بشكل أفضل لا يوغل في إهانة الناس وإشعارهم بسيادة حالة فجة من استعراض الابتذال والمذلة.

كان يمكن للاستفتاء على دستور 2014 أن يخرج في مشهد لائق، حتى وإن كانت نتائجه كارثية من وجهة نظري السياسية. ولم يكن حصول حمدين صباحي على أصوات أقل من الأصوات الباطلة في "انتخابات" 2014 صدفة، بل عقابًا لرجل حصل قبلها بأقل من عامين على ما يقارب ربع أصوات المصريين في الانتخابات الرئاسية النزيهة الوحيدة في تاريخ هذا البلد.

أما موسى مصطفى موسى، والذي عَنْوَن "انتخابات" 2018، فكان إثباتًا لمبدأ أن المذاهب أقوى من أصحابها، المذاهب، التي انتهى تجسيدها في استفتاء تعديلات الدستور بعد ذلك بعام، إلى جر بعض المواطنين جرًّا إلى اللجان وإجبارهم على التصويت، إذلالًا وتنكيلًا.

لقد تم سحق الإرادة الشعبية وتغييبها أكثر من مرة، بدأت أولًا بإرادة شعبية تخلت عن وجودها بحماس، وانتهت بمشاهد التذكير المستمر لتلك الإرادة المغيبة بجزاء صنيعها.

نحو التوافق على استرداد الإرادة 

في مطلع الألفية، صاغت حركة كفاية ما يمكن وصفه بالخيار "القنديلي" للتغيير السياسي في مصر، نسبة إلى الرمز الناصري عبد الحليم قنديل. يقول الخيار القنديلي بأن احتشاد مئة ألف مواطن في ميدان التحرير(*) يمكنه أن يشكّل إرادة شعبية لإسقاط نظام مبارك، عبر إجبار القوت المسلحة على الانصياع لهذه الإرادة.

المصريون ليسوا عبيدَ من غَلَب، ولا صنّاع الثورات المستحيلة

ظلت هذه الفكرة تدور وتدور على مدار سنوات، لتصبح هي عَمود الخيال السياسي للتغيير في مصر. وهو ماحدث في يناير 2011 بالفعل. ولكنَّ هذا السيناريو تحقق بأكثر الأشكال ملحمية؛ ففي يوم 28 يناير 2011 انتفض المصريون كما لم ينتفضوا من قبل، وقدموا شهداءً بالمئات في يوم واحد، عدد الذين ماتوا في هذا اليوم أكبر من عدد الذين سقطوا في الثورة الإيرانية كلها في عامي 1978 و1979، وفق بعض التقديرات.

تحول يوم 28 يناير إلى كابوس وتروما للمشهد العام في مصر، لم تعد فكرة تجسيد الإرادة العامة باحتشاد كتل من اللحم في ميدان مركزي، يجاور مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية، فكرة شاعرية تحسم الصراع بصورة مثالية يتجسد فيها الشعب روحًا وجسدًا وحناجر، بل صارت كابوسًا لانهيار الدولة خلال ساعات.

حسنًا، حدث ذلك بالفعل، وتكرر بشكل مشابه في يونيو 2013، ولكن هل التاريخ محكوم عليه بمسارات قنديلية وفقط؟ وهل الإرادة الشعبية محكوم عليها بعفوية 28 يناير وإلا فلا إرادة؟

في اعتقادي أن هذا ليس صحيحًا. للإرادة الشعبية أشكال ومظاهر عدة، لا تنزع كلها بالضرورة إلى الحسم الملحمي، فصناديق الانتخابات ليست إلا إحداها، والإضراب العام السلمي شكل من أشكالها، والاستفتاء الشعبي النزيه هو أحد خياراتها؛ لو أخذنا بتدرّج عملية استعادة واسترداد الإرادة الشعبية.

للزعيم الصيني ماو تسي تونج وصف ساخر لبعض السياسيين الذين يتعاملون مع الشروط الذاتية والموضوعية للصراعات، باعتبارها إما رائعة جدًا أو فظيعة جدًا. الحياة ليست رائعة جدًا أو فظيعة جدًا، والمصريون ليسوا عبيدَ من غَلَب، ولا صنّاع الثورات المستحيلة، فهناك دائمًا مساحة ما بين الرائع جدًا والفظيع جدًا.

الأهم هو التبصر بأن استرداد الإرادة الشعبية شرط لازم لكل هو قادم، وبدونها سيظل الشلل معممًا، وستزداد الخسائر وتتراكم، أما شكل تجسيد هذه الإرادة فلا أراه في الانتخابات الرئاسية بالطبع. ذلك أن الملوك لا يُنتخبون، والحكم الحالي المستند إلى تفويض يوليو/تموز 2013 فيه من سمات الملكية ما يفوق بأضعاف سمات الحكم الجمهوري، فما بالنا بتصور نوع من التنافس الديمقراطي داخله.

الملوك لا ينتخبون، الملكية يستفتى عليها؛ فإما الملك أو الجمهورية.


(*)دأب الكاتب عبد الحليم قنديل على طرح هذه الفرضية في عموده في صحيفة العربي الأسبوعية خلال العقد الأول من القرن الحالي، وكان من أوائل الصحفيين الذين وجهوا نقدًا مباشرًا للرئيس الراحل حسني مبارك.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.