تصميم: أحمد بلال-المنصة
لكنَّ الأشباه في هذه الحالات ليسوا إلا حضورًا مكثفًا داخل مهرجان للتنكر الاحتفالي

أشباه البشر في شبه المجتمع

منشور الخميس 21 سبتمبر 2023 - آخر تحديث الخميس 21 سبتمبر 2023

فور خروجه من سجن سياسي طويل في زمن جمال عبد الناصر، قابل أحد المعتقلين السابقين مسؤولًا رفيعًا في الدولة، عيَّن له بمزيج من التهديد والقطع أسقف دوره المستقبلي، وحدود المربعات الحمراء التي سيُسجن بحرية داخل أضلاعها، مقابل ضمان سلامته الجسدية وانتظام رزقه، قائلًا له بحسم وبرود "أنت معنا موجود بقدر ما أنت غير موجود".

بينما أتأمل قسوة الجملة، يذهب عقلي بحثًا عن التجليات المعاصرة الأكثر فجاجة للموجودين؛ بقدر ما هم غير موجودين، لأجده فيما تطالعنا به وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، عن أناسٍ قرروا التخلي عن وجودهم الشخصي لصالح التحول إلى أشباهٍ لشخصيات تاريخية ومعاصرة مشهورة، فنجد شبيهًا للزعيم أحمد عرابي وآخر للشيخ متولي الشعراوي وثالثًا للرئيس أنور السادات.

تعدَّى الأمر الانتشار على السوشيال ميديا، إلى الاحتفاء بهؤلاء الأشباه في وسائل ووسائط الإعلام الرسمي واستضافتهم؛ كأشباهٍ يجسدون بعضًا من ملامح شخصيات الأصل، فيتحدث شبيه السادات عن حرب أكتوبر ويعظ شبيه الشعراوي في الناس. 

صرنا نشاهد جيوشًا من الأشباه، وأصبح لكل نسخة أصلية من أي حضور مشهور شبيهٌ ما يتحرك في مجال أدنى اجتماعيًا. أشباه لمحمد صلاح وعمرو دياب بل ولكريم محمود عبد العزيز، يُستخدمون كدعاية ترويجية لبعض المنتجات والمطاعم المحلية التي يؤمن أصحابها باستحالة استقدام النسخة الأصلية لتقوم بالدور نفسه.

أجد نفسى متأملًا في موقع الإنسان الذي قرر أن يكون شبيهًا لكيليان امبابي أو ليونيل ميسي

عند مستوىً معين من الإفراط في إنتاج الأشباه قد تتوه النسخ الأصلية، تغمر السلع أسواق التبادل والاستهلاك إلى حد تنتفي معه قيمتها، تقول الأسطورة إنه ذات صباح استيقظ تشارلي شابلن ليرتدي ملابسه متوجهًا إلى إحدى ضواحي لندن للاشتراك في مسابقة محلية لتشخيص "تشارلي".

في هذه المسابقة لم يحصل تشارلي شابلن الحقيقي على المركز الأول بعد أن تفوق عليه آخرون من أشباهه. لا أعرف بماذا شعر شابلن العظيم لحظتها؛ ربما بالفرحة لأنه، كفنان شيوعي، نجح في أن يصبح ملكًا للجميع، أو بالعبث، حين استولى الجميع على وجوده هو شخصيًا.

Adidas مقابل Adibas

دائما ما أحتقر مستهلكي النسخ المقلدة من السلع. أتذكر سخرية الأصدقاء من الذين اعتادوا شراء أحذية رياضية مقلدة، تلتقط عيونهم بسهولة حرف الـ b الذي يحول ماركة Adidas إلى Adibasـ

أجد نفسي متأملًا في موقع الإنسان الذي قرر أن يكون شبيهًا لكيليان امبابي أو ليونيل ميسي؛ كيف يعي هذا الإنسان وجوده؟ وكيف يتعامل مع هذا الوجود بعد أن أصبح شبيهًا لأصلٍ يلتصق به في كل لحظة؟

ظاهرة الأشباه ليست جديدة؛ فقد اعتاد الناس في بقاع كثيرة حول العالم، إقامة مهرجانات يتجمّع فيها أشباه المشاهير الراحلين تخليدًا لذكراهم، وتعبيرًا عن حبٍّ وهوس جمعيٍّ بهم، يحدث هذا سنويًا لتخليد ذكرى مغنيين مثل ألڤيس بريسلي ومايكل چاكسون.

لكنَّ الأشباه في هذه الحالات ليسوا إلا حضورًا مكثفًا داخل مهرجان للتنكر الاحتفالي، شبيه مايكل لن يقوم بهذا الدور في كل لحظة وعلى الهواء مباشرة على مدار الساعة. قد يؤدي حركاته الراقصة من حين لآخر لقاء بعض "النقوط"، ولكنَّ اسمه لن يتحول إلى "شبيه مايكل" طوال الوقت أمام جيرانه وزملائه.

في الثمانينيات تعمد بعض النجوم إعطاء مساحة للممثل نصر حماد في أفلامهم و مسرحياتهم. يشبه نصر حماد؛ عادل إمام بدون أي قدر من موهبته. كان حضور نصر حماد لصيقًا بتعمد إهانة عادل إمام في صورته؛ يتلقى السباب والصفعات نيابة عنه. كان المخرجون يأتون به لإغاظة عادل إمام بالإساءة إلى وجوده في جسد شبيهه.

كثيرًا ما نوقشت كيفية استقبال عادل إمام حضورَ نصر حماد على الشاشة؛ هل كان يهدده ويتوعد بالتنكيل به؟ هل كان يدفع له المال مقابل عدم الظهور؟ قليلون من اهتموا بنصر حماد نفسه، والأغلبية اعتبرت أن مجرد وجوده كشبيه لعادل إمام، مكرمة له عوضًا عن أن يكون لا شيء، لا شيء بالمرة.

نحن على الأقل نتذكر أن هناك شخصًا اسمه نصر حماد، لديه وجود ما مستقل حتى ولو كان شبيهًا لعادل إمام. لكن من منا يعرف اسم شبيه امبابي أو فان دايك أو راموس؟

الأشباه درجات ومراتب

العيش في كنف وجود آخر ليس لصيقًا بتشابه كاريكاتيري متطابق بالضرورة، بل برضا الاقتيات على الأصل من موقع الهامش.

يترادف السعي وإيجاد الحلول مع الوجود "الأراجوزي" للإنسان المصري المعاصر

بعض لاعبي كرة القدم اتخذوا لأنفسهم أسماء نجوم أحبوهم في الصغر واعتبروهم مثلًا أعلى. النجم الغاني الكبير عبيدي پيليه، سمَّى نفسه على اسم الجوهرة السوداء البرازيلية پيليه. أحب عبيدي أيوا أسطورته پيليه فصار اسمه عبيدى پيليه. لكن هل كان عبيدي أيوا سيسمِّي نفسه پيليه لو كان معاصرًا له في زمنه، وينافسه في الكؤوس والدوريات العالمية؟

سنجد الآن لاعبي كرة قدم في الدوري المصري أسماؤهم حسام ماتيب، وسيد وخليل نيمار، وحسين مارسيللو، ومحمد دبش فان دايك، وآخرين غيرهم بأسماء لاعبين عالميين معاصرين، في فرضية تُسلِّم بداهة بانعدام فرص تلاقيهم المادي مع النسخ الأصلية لأسمائهم في أي لحظة، سواء بالاحتراف أو بالاحتكاك الدولي.

سيد وخليل نيمار مثلًا يستبطنا انتماءً لعالم موازٍ لن يتقاطع مع نيمار البرازيلي في أي لحظة من اللحظات، وكأن وجودهما ضُربت عليه العزلة والضآلة الأبدية، ليرتضيا من داخله بوسم الشبيه.

وبينما محمد صلاح يرافق جويل ماتيب الأصلي في نادي ليفربول، فإنه يجاور في ذات اللحظة حسام ماتيب في منتخب مصر. في الأغلب سيعود حسام ماتيب مرة الأخرى لاسم حسام عبد المجيد، لأنَّ هناك ملامح إمكانية للتخلص من كينونة الشبيه. لكنَّ محمد صلاح نفسه صوَّر إعلانًا لشركة پيبسي مستعينًا بخدمات شبيهه محمود فرفور، فلمحمد صلاح عشرات الأشباه في مصر، بعضهم أكثر شهرة من أغلب مثقيفها.

اتشقلب من أجل حتمية الوصول!

بات شائعًا في العامية المصرية المعاصرة استخدام فعل الأمر "اتشقلب"، بمعنى ضرورة السعي الحثيث وسرعة وحُسن التصرف والتعامل مع أي عوائق أو معوقات، من أجل إتمام المهام المطلوبة من الإنسان. يترادف السعي وإيجاد الحلول مع الوجود "الأراجوزي" للإنسان المصري المعاصر؛ حيث المذلة صنو الكفاح ولا ضير في ذلك.

أجد نفسى أتساءل؛ لماذا تكاثر كل هؤلاء الأشباه كما لم يتكاثروا من قبل؟ هل هي السوشيال ميديا؟ أم هو السحق التام لإمكانية أن تتملك هذه الذوات البسيطة معنىً لوجودها بشكلٍ مستقلٍّ وكريم، بعد أن حولتهم شبه الدولة إلى أشباه بشر في شبه مجتمع؟

في أول مليونيات ثورة يناير 2011، شاهدت رجلًا في منتصف العمر ظلَّ يجاهد لتسُّلق عَمُود نور في قلب ميدان التحرير حتى تمكن من اعتلاء قمته والجلوس فوقه. بعدها بيومين، شاهدته في نفس الموقع معتليًا نفس العَمُود، وهكذا استمر هذا الرجل فى هذا المكان حتى 11 فبراير/شباط 2011. كانت مراقبته والاطمئنان إلى وجوده من طقوس التواجد اليومي في الميدان طوال الثورة.

في أحد هذه الأيام سألت والدي، بينما كنا نسير معًا وسط الجموع، عن تفسيره لهذا الوجود البشري المتأبط ببسالة واستماته لعَمُود إنارة في ميدان التحرير. رد والدي بأنَّ هذا رجل من عوام الناس الذين لا اسم لهم، قرر امتلاك عَمُود في ميدان التحرير. رجل ذو وجود عابر قرر ألا يتخلى عن معنى وقيمة وجوده الجديد، إلا في حال أن تجبره السلطات إجبارًا، على ترك هذه الملكية العامة، التي أرادها خاصة لنفسه، حتى ولو متدليًا منها في الهواء لبضعة أيام.

تُرى أين أصبح هذا الرجل الآن بعد مرور كل تلك الأعوام؟ وما شعوره بعد أن اختبر امتلاك عَمُود في الميدان؟ لقد سبق وتشقلب هذا الرجل بالفعل، ولكن ليس كشبيه أو كأراجوز، بل كإنسان أراد امتلاك عَمُود في التحرير، وسط ثورة كان حفيف شعاراتها يُلامس بعضًا من إنسانيته.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.