مظاهرة في روما ترفع لافتات المطالبة بالحقيقة من اجل جوليو في الذكرى الأولى لقتله- فليكر - منظمة العفو الدولية

الحيل الغريبة في إخفاء قتلة جوليو ريجيني

منشور الخميس 17 أغسطس 2017

قبل يومين، أعلنت السلطات الإيطالية بدء الترتيب لعودة سفيرها إلى مصر، بعد عام ونصف تقريبًا من سحبه وخفض تمثيل العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة، ردًا على ما وصفته أسرة الباحث الإيطالي الراحل جوليو ريجيني وحكومة دلوتهم؛ بقلة التعاون من جانب السلطات الأمنية المصرية في قضية الكشف عن قتلة الباحث الإيطالي الشاب. 

ومنذ الإعلان عن عودة السفير  الإيطالي الذي احتفت به السلطات ووسائل الإعلام المصرية؛ وجدت منظمة العفو الدولية ووسائل إعلام إيطالية في قرار الحكومة الأوروبية استسلامًا، بينما أدانه والدا الباحث الراحل

وبالتزامن، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقًا مطولا، تسرد فيه ما وصفته بالألاعيب الهادفة لإخفاء حقيقة قتلة الباحث الإيطالي الشاب. وتنشر "المنصة" الترجمة الكاملة لهذا التحقيق.


لماذا عُذب باحث إيطالي وقتل في مصر؟

ديكلان والَش - نيويورك تايمز- 15 أغسطس/ آب 2017

في أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين ثان من عام 2015، كان الباعة الجائلون ممن يبيعون الحُلي المزيفة والجوارب والنظارات الشمسية؛ هدفًا لقوات الشرطة المصرية. احتشد أولئك الباعة في ممرات المباني القائمة منذ قرن من الزمان في مصر الجديدة. مثل هذه الحملات كانت روتينية، لكن هؤلاء الباعة بالتحديد احتلوا منطقة حساسة؛ فعلى بعد مائة متر، يقع قصر الرئيس المصري (الاتحادية)، حيث يستقبل الرجل العسكري القوي عبد الفتاح السيسي النخب من الأجانب. ومع إسراعهم في جمع بضائعهم قبل الفرار، كان يساعدهم شخص من غير المعتاد أن يكون موجودًا في مثل هذه المواقف: طالب دراسات عليا إيطالي اسمه جوليو ريجيني.

وصل الشاب إلى مصر قبل أشهر قليلة للعمل على رسالة دكتوراة لجامعة كامبريدج. نشأ ريجيني في قرية صغيرة بالقرب من مدينة ترييستي (الإيطالية)، يعمل والده مديرا للمبيعات وأمه معلمة في مدرسة. فُتن ريجيني، 28 عامًا، بالروح الثورية في الربيع العربي.

في 2011، عندما انطلقت المظاهرات في ميدان التحرير، وتسببت في الإطاحة بالرئيس الأسبق حسني مبارك، كان هو ينهي شهادته الجامعية في اللغة العربية والسياسة في جامعة ليدز (البريطانية).

كان في القاهرة سنة 2013، يعمل كمتدرب في وكالة تابعة للأمم المتحدة، عندما اندلعت موجة ثانية من المظاهرات أدت إلى إطاحة الجيش بالرئيس المنتخب حديثًا، الإسلامي محمد مرسي، وجعلت السيسي على رأس السلطة.

مثل كثير من المصريين الذين حملوا عداءً متزايدًا تجاه حكومة مرسي، تقبّل ريجيني هذا التطور. وكتب لصديقه الإنجليزي برنارد جويدر في بداية أغسطس/ آب 2013، يقول إن ما يحدث هو "جزء من العملية الثورية". وبعد أقل من أسبوعين من رسالته، قتلت قوات الأمن 800 من مناصري مرسي في يوم واحد، في أسوأ مذبحة برعاية الدولة في تاريخ مصر. كانت بداية حلقة طويلة من القمع. بعدها بقليل، غادر ريجيني إلى انجلترا، حيث بدأ العمل لدى شركة "أوكسفورد أناليتيكا" البحثية.

من بعيد، تابع ريجيني حكومة السيسي عن كثب. كتب تقاريرًا حول شمال إفريقيا، يحلل فيها الأمور الاقتصادية والسياسية الأهم. وبعد عام، كان قد جمع المال الكافي لبدء رسالة الدكتوراة في دراسات التنمية بجامعة كامبريدج. وقرر التركيز على النقابات المصرية المستقلة، التي بدأت سلسلة إضراباتها منذ عام 2006، وجهَزت عامة الناس للثورة ضد مبارك. وبعدما أصبح الربيع العربي في حالة يرثى لها، رأى ريجيني في النقابات أملا هشًا للديمقراطية المحطمة في مصر.

بعد عام 2011، ارتفعت أعدادهم بشكل هائل، وتضاعفت إلى الآلاف. كانت هناك نقابات لكل شيء: الجزارين والمسرحيين، والعاملين في حفر الآبار وعمال المناجم، وجامعي فواتير الغاز، و"كومبارس" المسلسلات الرديئة التي يعرضها التلفزيون في رمضان، بل كانت هناك أيضًا نقابة مستقلة للأقزام.

ومع المشرف على الرسالة، الأكاديمي المصري البارز في كامبريدج والمعروف بكتاباته الناقدة السيسي، اختار ريجيني أن يعمل على الباعة الجائلين. دخل ريجيني إلى عالمهم، أملًا في تقييم قدرات نقابتهم على القيادة نحو تغيير سياسي واجتماعي.

                                                   

من مظاهرات عمال المحلة خلال إضرابهم في ديسمبر 2006

لكن بحلول عام 2015؛ هذا النوع من الانخراط الثقافي الذي طالما فضّله المستعربون الجدد، لم يعد سهلًا كما كان. خيمت سحب الشك على القاهرة. كُمِّمَت الصحافة، وتعرض المحامون والصحفيون للمضايقات، وملأ المخبرون مقاهي وسط البلد بالقاهرة. اقتحمت الشرطة المكتب الذي عقد فيه ريجيني المقابلات، وكانت الروايات الغربية حول المؤامرات الأجنبية تُبث بشكل مستمر عبر التلفزيون الحكومي.

لم يرتدع ريجيني. مستعينًا ببراعته في خمس لغات وفضوله الذي لا ينتهي وسحره الهادئ، جذب دائرة واسعة من الأصدقاء.

في سن الثانية عشرة وحتى الرابعة عشر، كان يعمل كعمدة للشباب في بلدته، فيوميتشيلو. افتخر بقدرته على استكشاف ثقافات مختلفة، وراقت له حياة الشوارع الجامحة في القاهرة: المقاهي، والصخب الذي لا ينتهي، والحفلات على المراكب المضيئة في نهر النيل ليلًا.

سجّل كمحاضر زائر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ووجد لنفسه غرفة في الدقي، الضاحية المزدحمة بين الأهرامات والنيل، حيث تشارك شقة مع كل من جوليان شوقي التي تدرس اللغة الألمانية، ومحمد السيد المحامي في إحدى أقدم مؤسسات القانون بالقاهرة. الدقي عنوان غير جذاب، فهي تبعد محطتين فقط بمترو الأنفاق عن وسط القاهرة، بفنادقها الرخيصة وحاناتها والمباني المحيطة بشكل دائري بميدان التحرير.

سرعان ما صار ريجيني صديقًا لكتاب وفنانين، ومرّن لغته العربية في محل كشري "أبو طارق". أشهر مطعم كشري في القاهرة.

قضى ساعات يقابل باعة جائلين في مصر الجديدة والمحلات الصغيرة خلف محطة القطار (محطة سكك حديد مصر) بميدان رمسيس. ولكي يكتسب ثقتهم، أكل من عربات الشارع كما يفعل من يُجري عليهم بحثه. حذره المشرف على رسالته من أنه قد يتعرض للتسمم من الطعام. لم يهتم ريجيني: فقد شق طريقه إلى القاهرة بهدف معين.

بالصدفة، وصلت فاليريا فيتنسكا، صديقة أوكرانية التقاها في برلين منذ 4 سنوات، من أجل العمل في القاهرة. تواصلا مرة أخرى. وأرسل لصديق له "كانت أجمل مما كنت أتذكر". ذهبا سويًا في رحلة إلى البحر الأحمر، وعندما عادت إلى وظيفتها في كييف، ظلا على علاقتهما عبر سكايب. ويقول "باز- زاراتي" صديق ريجيني، "كان سعيدًا ومليئًا بالأمل في المستقبل".

كان ريجيني حتى تلك اللحظات مدركًا لمخاطر القاهرة. وكتب لـ"جويدر" في بعد شهر من إقامته: "الأمر كئيب"، مضيفًا "الجميع على دراية تامة باللعبة التي تحدث". وفي ديسمبر/ كانون أول، حضر اجتماعا لنشطاء في إحدى النقابات العمالية في وسط القاهرة، وكتب عنه باسم مستعار لعدد من الوسائل الإعلامية الصغيرة في إيطاليا.

وخلال الاجتماع، قال لأصدقائه، أنه رأى شابة منتقبة تلتقط الصور بهاتفها. كان ذلك مزعجًا. اشتكى ريجيني لأصدقائه من أن بعض الباعة الجائلين كانوا يزعجونه بالخدمات التي يريدونها منه، مثل الهواتف المحمولة. ثم اتخذت العلاقة بينه وبين مصدره الرئيس: محمد عبد الله (نقيب الباعة الجائلين) وهو رجل في الأربعينيات، منحى غريبا.

عمل عبد الله في توزيع إحدى الصحف لمدة عشر سنوات، قبل أن يصبح على رأس نقابة الباعة الجائلين، وكان مرشدًا لريجيني، ويعرض النصيحة ويقدمه للأشخاص من أجل إجراء المقابلات.

وفي أمسية في مطلع يناير/ كانون ثان من العام الماضي، التقى الاثنان في مقهى بالقرب من محطة قطار رمسيس. وخلال احتساء الشاي، تناقشا حول منحة تبلغ قيمتها 10 ألاف يورو "مرتبطة بنشاط دراسي" تقدمها مؤسسة "أنتيبود" البريطانية غير الربحية. عرض ريجيني أن يقدم للحصول على الأموال (لمساعدة نشاط نقابة الباعة الجائلين). لكن عبدالله كان لديه أفكارًا أخرى. سأل عما إذا كان يمكن استخدامها في "مشاريع الحرية" - وهي أنشطة سياسية ضد الحكومة المصرية- أجاب ريجيني بالنفي القاطع. غيّر عبد الله طريقته، قال إن ابنته تحتاج إلى عملية جراحية وزوجته تعاني من السرطان. وأضاف أنه يمكن أن يفعل أي شيء مقابل المال.

بدأ ريجيني يشعر بالاستياء، وقال "مش ممكن" باللغة العربية.

بعد أسبوعين، وفي الذكرى الخامسة لانتفاضة 2011، كانت القاهرة مغلقة. هُجر ميدان التحرير إلا من حوالي 100 من مناصري الحكومة الذين انتقلوا في حافلات لرفع لافتات السيسي والتقاط صور "سيلفي" مع شرطة مكافحة الشغب. كانت الأجهزة الأمنية تحاصر المظاهرات المحتملة لأسابيع، فهاجمت عددا من شقق ومقاهي وسط البلد.

ومثل كثير من سكان القاهرة، قضى ريجيني اليوم في المنزل، يعمل ويستمع إلى الموسيقى. وبمجرد حلول الظلام ظن أن بإمكانه مغادرة شقته بأمان: دعاه صديق إيطالي إلى حفل عيد ميلاد ليساري مصري. رتبا للقاء على مقهى بالقرب من ميدان التحرير.

قبل نزوله استمع ريجيني إلى أغنية فريق كولد بلاي "A Rush of Blood to the Head"، ثم في تمام   7:41 مساءً بعث برسالة نصية إلى فيتنسكا: "أنا سأخرج". المسافة قصيرة مشيًا إلى محطة المترو. لكن عند الساعة 8:18 لم يصل ريجيني. بدأ صديقه الإيطالي في محاولة الوصول إليه-في البداية عبر الرسائل ثم الاتصال المحموم.

                               

جوليو مع شقيقته إيريني

 

 في مارس 2011، في الأشهر الأولى من الانتفاضة، اقتحم المصريون مقرات أمن الدولة، الذراع الرئيسي لقمع عصر مبارك، وظهرت قوائم بالمخبرين ونسخ من المكالمات الهاتفية المسجلة. وجد البعض صورا لأنفسهم. ومع انزلاق الدولة سريعًا إلى اضطراب ما بعد الثورة، تلاشى الحديث عن الإصلاح. وبعد وصول السيسي إلى السلطة في عام 2013، بدا واضحًا صغر حجم هذا التغيير.

تغير اسم أمن الدولة ليصبح جهاز الأمن الوطني، لكنه بقي تحت سيطرة وزارة الداخلية القوية، والتي يعتقد أنها تضم 1.5 مليون ضابط ومخبر وعميل أمني. عاد الضباط المفصولون إلى الخدمة، وأُعيد افتتاح غرف التعذيب. وغادر قادة المعارضة البلاد خوفًا من الاعتقال. وبدأ مراقبو حقوق الإنسان إحصاء أعداد الذين اختفوا أثناء احتجاز الدولة لهم دون إذن نيابة أو محاكمة. وحتى المراقبون أيضًا باتوا يختفون.

اليوم، يمكن القول إن مصر باتت أكثر قسوة مما كانت عليه إبان حكم مبارك. بعد الاستيلاء على السلطة، انتخب السيسي رئيسًا في عام 2014 بنسبة أصوات بلغت حوالي 97 في المئة. وامتلأ البرلمان بمؤيديه، فيما ملأ المعارضون سجونه -40 ألف شخص على أقصى تقدير، أغلبهم من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة التي تأسست عام 1928، لكن أيضًا هناك محامون وصحفيون.

برر السيسي هذه الإجراءات بالإشارة إلى خطر المتطرفين. حيث يقاتل مسلحو الدولة الإسلامية الجنود المصريين في سيناء منذ عام 2014، وفي هذا العام أرسلوا انتحاريين ليستهدفوا كنائس قبطية، وقتلوا عشرات. يشعر عدد كبير من المصريين أنه بدون قبضة قوية، فإن دولتهم التي تحوي 93 مليون مواطن ستصبح سوريا أو ليبيا أو العراق القادم. ويخشى أغلب النخبة في البلاد، من أي نوع من الاضطرابات كالتي تلت الربيع العربي، ويقفون مع السيسي. فيما يرى الكثير من المثقفين الغاضبين من تجربتهم القصيرة مع الديمقراطية، بأنهم لا يملكون حلًا.

                                             

جوليو يتجول في إحدى المناطق الأثرية في مصر 

وبدون الانتماء لحزب معين، صنع السيسي سلطته من الجنرالات والقضاة والقيادات الأمنية الذين يمتلكون قوة كبيرة. ويهدف الخط الذي تسير عليه هذه الدولة البوليسية إلى منع أي تكرار لأحداث عام 2011، وفقًا لما قاله سفير غربي رفض أن نذكر اسمه لأنه غير مخول الحديث في الأمر، فيما كنا نجلس في حديقته الشتاء الماضي.

عهد قاس 

 

في العقد الأخير له في السلطة، قدم مبارك بعض التنازلات. فاز الإخوان المسلمون بخُمس المقاعد في البرلمان، وتمتعت الصحافة بشيء من الحرية، وكان مسموحا ببعض الإضرابات العمالية. لكن أيًا من ذلك لم يوفر لمبارك الحماية، بل في الحقيقة، ومن منظور مسؤولي السيسي، فإن تراخيه هذا عجّل برحيله. قال السفير (الغربي) إن الدرس واضح: "إعطاء مساحة صغيرة خطأ"، فيما كان يعدد خصائص نظام السيسي: "التكتم، والذعر، الشعور بأن تدعيم سلطتك يكون بإظهار القوة وعدم وضوح ضعفك أو بناء جسور تواصل".

أصبح المراقبون لمصر مولعين بمحاولة فك شفرة العمل الداخلي لأجهزة الأمن الثلاثة في البلاد. ويقول مايكل وحيد حنا من معهد "سينشري فونديشن"، البحثي ومقره نيويورك: "إنه شيء غامض مثل الصندوق الأسود. لكن هناك حلول".

ويوضح حنا أن الأجهزة الأمنية تدين بالولاء للسيسي، لكنه دائما تتنافس من أجل مكانة لديه. الأمن الوطني، يُعتقد أنه يمتلك 100 ألف موظف وعلى الأقل مثلهم مخبرين، يبقى الأكثر ظهورًا. ومنافسه الواضح هو المخابرات العسكرية، والتي عادة ما تسير بعيدًا عن السياسة، لكن انتهى ذلك تحت قيادة السيسي الذي قاد المؤسسة من 2010 حتى 2012. المخابرات العامة المصرية كانت قوية جدًا أثناء حكم مبارك، ويُرى الآن أن دورها تضاءل.

هذه المؤسسات الثلاث تمتلك سويًا نفوذًا جامحًا: يمتلكون محطات تلفزيونية، ويسيطرون على كتل برلمانية ويدخلون في قطاعات الأعمال، ويملأ رجالهم الشوارع والإنترنت. يرسمون الخطوط الحمراء في المجتمع المصري بين ما هو مسموح وما هو غير ذلك. يجعل ذلك مصر مكانا صعبا لإيجاد المنتقدين: فمع حركة واحدة خاطئة، أو نكتة غير محسوبة (المصريون يدخلون السجن بسبب منشور على فيسبوك)، يمكن أن تُقاد إلى السجن أو المنع من مغادرة البلاد.

وذكرت منظمة العفو الدولية أن أعداد المختفين حوالي 1700 شخص، وقالت إن عمليات القتل خارج إطار القانون شائعة.

                                                 

لقطة من فيديو صوره نقيب الباعة الجائلين لجوليو ريجيني دون علمه، ونشر بمعرفة الأجهزة الأمنية عبر التلفزيون المصري 

عندما وصل ريجيني إلى مصر عام 2015، كان من المفترض أن الأجانب يخضعون لقوانين مختلفة عن تلك التي يمتثل لها المصريون. إلا أن بعضهم واجه مشاكل. ففي مطلع ذلك العام أُطلق سراح الصحفي الأسترالي بيتر جريستي، أحد الصحفيين الثلاثة الذين كانوا يعملون في قناة الجزيرة، بعد حبسه 13 شهرا بتهمة "تهديد الأمن القومي"، وطُرد طالب فرنسي من البلاد لأنه كان يُجري حوارات ومقابلات مع ناشطين ديمقراطيين. وحذر المشرفون الأكاديميون ريجيني من تواصله مع قادة أو أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فبعث في رسالة لأحد أصدقائه عقب شهر من وصوله "الوضع هنا ليس سهلا".

ولكن بشكل عام، أبلغني المشرف على رسالته، أن ريجيني كان يعتقد أن جواز سفره الإيطالي سيحميه في النهاية. كانت خشيته تتمحور في أن تتم إعادته إلى جامعة كامبريدج قبل أن يتمكن من إتمام بحثه.

وبعد أسبوع من اختفاء ريجيني، شعر السفير الإيطالي بالقاهرة ماوريتسيو مسارى بنذير شؤم، وانتشرت أخبار اختفاء الشاب في كل مكان بالقاهرة. وبدأ أصدقاؤه عملية بحث إلكترونية عنه، ودشنوا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي حملت اسم "أين جوليو". وسافر والداه من إيطاليا إلى القاهرة، وأقاما في شقته في الدقي.

وانتشرت الشائعات التي تمحورت حول أنه خُطف من قبل مجموعة من الإسلاميين المتشددين، ما جعل الجميع يُصاب بالفزع، خاصة وأنه قبل ستة أشهر خطف مُسلحو تنظيم الدولة الإسلامية مهندسًا كرواتيًا، وبعد فترة عُثر عليه مقطوع الرأس.

زاد رد فعل المسؤولين المصريين من قلق السفير الإيطالي. ولم يكن لدى أجهزة الاستخبارات الإيطالية في السفارة أية أدلة تساعدها في معرفة ما حدث، لذلك سعى (السفير) للتعاون مع وزير الخارجية، ووزير الانتاج الحربي، ومستشارة السيسي للأمن القومي فايزة أبو النجا. وزعم الجميع أنهم لا يعرفون شيئا عن ريجيني.

إلا أن أكثر الاجتماعات التي أثارت قلق السفير، كان لقائه بوزير الداخلية مجدي عبد الغفار، والذي وافق على الالتقاء به بعد ستة أيام، ما ترك السفير الإيطالي حائرا، خاصة وأنه يعلم أنه رجل أمن مُخضرم قضى 40 سنة في أجهزة الأمن، ولديه جيش من المخبرين في كل مكان بالقاهرة. فكيف لم يعلم شيئا حتى تلك اللحظة عن ريجيني؟

وفتحت الشرطة التحقيق في واقعة الاختفاء، ولكن على ما يبدو أنها اتبعت طريقة غريبة في التحقيق. وعندما حققت الشرطة مع عمرو، الأستاذ الجامعي اليساري وأحد أصدقاء ريجيني، الذي رفض الكشف عن اسمه بالكامل لدواعٍ أمنية، سألوه أكثر من مرة عما إذا كان ريجيني مثلي الجنس. قال عمرو عندما التقينا في مقهى قريب من منزله في ضاحية المعادي، "أبلغتهم أن لديه صديقة". سأله المحقق "هل أنت متأكد من أنه سوي؟ ربما هو من ذوي الميول الجنسية الثنائية".

"قلت: يجب عليكم أن تجدوه".

تزامنت الأزمة مع وصول وفد تجاري إيطالي رفيع المستوى (إلى القاهرة). منذ عام 1914، حافظت إيطاليا على علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع مصر. واحتضنتها رغم ابتعاد العديد من الدول عنها. وكانت إيطاليا أكبر شريك تجاري لمصر في أوروبا – نحو 6 مليارات دولار في 2015 - وتفتخر روما بعلاقتها الوثيقة مع القاهرة.

وفي عام 2014، كان ماتيو رينزي أول زعيم غربي يرحب بالسيسي في عاصمته، واستمرت إيطاليا في بيع الأسلحة، ونظم المراقبة إلى مصر، رغم وجود أدلة تؤكد حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان.

بعد يوم من لقاء مساري مع وزير الداخلية، وصلت وزيرة الاستثمار الإيطالية فيديريكا جيدي إلى القاهرة برفقة وفد إيطالي، لعقد صفقات في عدة مجالات، اشتملت على البناء والتعمير، والطاقة، وتجارة الأسلحة. إلا أن ريجيني أصبح على قائمة أولويتها. وتوجه الوفد مباشرة إلى قصر الاتحادية الرئاسي، حيث ساعد ريجيني قبل أشهر الباعة المتجولين أثناء مداهمة شنتها عليهم الشرطة خارج بوابته الخلفية. وعقد مساري وجيدي اجتماعا خاصا مع السيسي، وأعربا عن قلقهما الشديد، إلا أنه (السيسي) لم يمنحهم سوى التعاطف.

وفي هذه الأمسية، استضاف مساري الوفد التجاري الإيطالي، ومجموعة من رجال الأعمال في السفارة. وحضر الاحتفالية حوالي 200 شخص، يحتسون النبيذ وينتظرون تقديم العشاء. ومن بينهم كان نائب وزير الخارجية، حسام زكي، الذي اجتاز الجمع متجها إلى مساري وسأله: "ألم تدري؟"

فرد مساري: "أدي ماذا؟"

قال زكي "عُثر على جثة"

في الصباح الباكر في ذلك اليوم، لاحظ سائق حافلة على طريق الإسكندرية الصحراوي، في غرب القاهرة، شيئا غريبا على جانب الطريق، وعندما ذهب لتفقده اكتشف أنه جثة عارية من أسفل وملطخة بالدماء. كانت جثة ريجيني.

وهرع مساري إلى فندق "فورسيزونز"، حيث تُقيم جيدي، واتصلا معا برئيس الوزراء ووزير الخارجية باولو جينتيلوني. ألغوا حفل الاستقبال، وصرفوا الضيوف الذين أصابتهم الحيرة، بدون تفسير. ثم ذهب مساري والوزيرة إلى منزل ريجيني في الدقي، حيث تمكث عائلته. عندما احتضن السفير أم ريجيني باولا ديفندي، تأكدت أسوأ مخاوفها. في وقت لاحق قالت للصحافة: "انقضى الأمر. كانت سعادة عائلتنا قصيرة جدا".

                                                       

من جنازة ريجيني 

وصل مساري إلى مشرحة زينهم في وسط القاهرة بعد منتصف الليل. صحبه فريق صغير من السفارة، بينهم رجل شرطة. في بادئ الأمر، رفض مسؤولو المشرحة دخولهم. صاح فيهم مساري والغضب باد على وجهه "افتحوا الأبواب". دخل مساري في نهاية المطاف إلى غرفة مبردة، حيث كانت جثة ريجيني ممددة على طاولة معدنية.

كان فم ريجيني فاغرا، وشعره ملطخ بالدماء. كانت إحدى أسنانه الأمامية مفقودة، والعديد منها إما مشوهة أو مكسورة، وكأنها ضربت بآلة حادة. كانت علامات إطفاء سجائر ظاهرة على جسده، وكانت هناك جروحا عميقة في ظهره. وقُطعت شحمة أذنه اليمنى، وحطمت عظام معصميه وكتفيه وقدميه. أصيب مساري بالغثيان. فعلى ما يبدو، تعرض ريجيني لتعذيب شديد. بعد أيام أكد الطب الشرعي الإيطالي، وفقا للتشريح، حجم جروحه: ريجيني تعرض للضرب، والحرق والطعن، وربما الجلد على باطن قدميه لفترة أربعة أيام. ومات بعد أن حزت رقبته.

يقع مكتب أحمد ناجي، وكيل النيابة التي أشرف في بادئ الأمر على التحقيق في جريمة قتل ريجيني، في الطابق السابع في مبنى محكمة الجيزة الابتدائية المهلهل، على بعد عدة أميال من ميدان التحرير. في أي يوم عادي، يمضي مئات الناس عبر الممرات الضيقة – محامون وسجناء في أيديهم أصفاد. عندما ذهبت لرؤيته بعد أسابيع قليلة من مقتل ريجيني، كان ناجي، النحيل المدخن الشره، جاثما وراء مكتب من طراز أثاث لويس الرابع عشر، عليه أكوام من الأوراق وفناجين قهوة نصف محتساه.

وفي الساعات الأولى من التحقيق، تحدث أحمد ناجي، وكيل النائب العام إلى الصحفيين بصراحة مُدهشة، وأخبرهم أنه (ريجيني) عانى من "الموت البطيء"، وسمح بفرضية أن تكون الشرطة متورطة: "نحن لا نستبعد ذلك". ولكن بعد ذلك أشار رئيس المباحث الذي يتولى القضية، إلى أن الفتى قُتل في حادث سيارة، وظهرت بعض النظريات التي تفسر مقتله في وسائل الإعلام والتي أشارت إلى أن ريجيني كان مثلي الجنس، وقتله عاشق غيور. وأشار البعض إلى أنه كان مروج ومدمن مخدرات، أو مؤيد لجماعة الإخوان المسلمين. واتهمه البعض بأنه كان جاسوسا. ورفض عبد الغفار، وزير الداخلية، ما تردد عن احتجاز الشرطة له، "بالطبع لا!" وقال "هذا هو القول النهائي في الموضوع: لم يحدث".

كان مكتب ناجي باردا ومظلما، كانت الستائر مسحوبة بإحكام، فيما كان الهواء يتسرب من وحدة مكيف هواء مثيرة للضوضاء. وبشعره الأسود المجعد وابتسامته المترددة، بدا تأثره السهل بإبداء الثقة فيه. لكن الجرأة التي أظهرها ذات مرة حيال قضية ريجيني، قد ولَّت. رد على أسئلتي بمراوغات مهذبة، مشعلا سيجارة تلو الأخرى فيما كان يتحدث. استنتج ناجي بعد 30 دقيقة غير مثمرة: "جرائم القتل يمكن ألا تحل. علينا فقط أن ننتظر وإن شاء الله، سيخرج شيء ما".

لدى المسؤولين المصريين سجلٌ طويل من مواجهة الأزمات فقط بهذه الطريقة: إنكار ثم تشويش، يعقبهما مماطلة على أمل أن تتلاشى المشكلة بمرور الوقت. في سبتمبر 2015، الشهر الذي وصل فيه ريجيني إلى مصر، قتلت طائرة مصرية ثمانية سياح مكسيكيين وأربعة مصريين خلال رحلة سفاري في الصحراء الغربية، بعد أن اعتقدوا بالخطأ أنهم إرهابيون. وعوضا عن الاعتذار، ألقت السلطة باللوم على المرشد السياحي، ثم وعدت بالتحقيق الذي لم يكشف عن أي شيء. وكانت الحكومة المكسيكية غاضبة. وبعد شهر، رفضت الحكومة المصرية الاعتراف بأن أحد انتحاريي تنظيم الدولة الإسلامية فجر طائرة روسية فوق سيناء، ما أسفر عن مقتل 224 شخصا، رغم أن روسيا وتنظيم الدولة الإسلامية قالا إن التنظيم هو من فجرها.

 ولكن إذا اعتقد المسؤولون المصريون أنهم قد يستطيعوا استخدام نفس الطريقة للخروج من أزمة ريجيني؛ فإنهم أساءوا التقدير. أكثر من 3 آلاف شخص حضروا جنازته في قريته الإيطالية، فيوميتشيلو؛ وفي أنحاء إيطاليا تحول النحيب إلى غضب مع ظهور تفاصيل تعذيبه المفجع. في الصحافة، رُسم ريجيني في صورة تظهره مبتسما وهناك قطة على ذراعه. وظهرت لافتات صفراء تحمل شعار (بالإيطالية) الحقيقة بشأن جوليو ريجيني. وقال رئيس الوزراء رينزي للصحفيين "لن نتوقف إلا عندما نكشف عن الحقيقة. الحقيقة الفعلية، لا مجرد حقيقة مريحة". 

                                             

من منشورات الحملة الإلكترونية التي أطلقها أصدقاء ريجيني للبحث عنه قبل العثور على جثته

 

الحقيقة في ظلال المخابرات

كان غضب رينزي قائمًا على ما هو أكثر من الحدس. في الأسابيع التي تلت مقتل ريجيني، حصلت الولايات المتحدة على معلومات استخباراتية مدوية من مصر: هناك دليل على أن مسؤولي الأمن المصريين اختطفوا ريجيني وعذبوه وقتلوه. قال لي مسؤول في إدارة أوباما – وهو أحد ثلاثة مسؤولين سابقين أكدوا المعلومات الاستخباراتية "لدينا أدلة لا تقبل الجدال بالمسؤولية الرسمية المصرية. لا شك في ذلك".

بتوصية من وزارة الخارجية والبيت الأبيض، مررت الولايات المتحدة الاستنتاج إلى حكومة رينزي. لكنها تجنبت تحديد هوية المصدر، فالأمريكيين لا يشاركون المعلومات الاستخباراتية الخام، ولم يقولوا أي جهاز أمني (مصري) يُعتقد أنه وراء مقتل ريجيني. قال مسؤول أمريكي سابق آخر: "لم يتضح من أعطى الأمر باختطافه، وعلى نحو محتمل، قتله". ما كان الأمريكان يعرفونه على وجه اليقين وأبلغوه للإيطاليين: أن القيادة المصرية كانت على دراية كاملة بالملابسات المحيطة بمقتل ريجيني. قال مسؤول آخر "ليس لدينا أي شك أن ذلك كان معلوما في أعلى القمة. لا أدري ما إن كانت لديهم مسؤولية. لكنهم كانوا يعلمون. كانوا يعلمون".

بعد أسابيع، في مطلع 2016، واجه جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، وزير الخارجية المصرية سامح شكري خلال اجتماع في واشنطن. أبلغني مسؤول في إدارة أوباما أن المحادثة كانت "مثيرة للجدل"، رغم أن فريق كيري لم يستطع اكتشاف ما إن كان شكري يماطل؛ أم أنه لا يعلم الحقيقة فعلا. قال مسؤول آخر إن النهج الذي تعاملت به مصر "أثار الدهشة" داخل الإدارة الأمريكية، لأن كيري تمتع بسمعة معاملة مصر برفق، وهذا الرفق هو مرتكز السياسة الخارجية الأمريكية منذ معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979.

وبعد فترة، وصل فريق مكون من سبعة محققين إيطاليين إلى القاهرة للمساعدة في التحقيقات المصرية. وتمت إعاقتهم في كل خطوة. وبدا أن الشهود تلقوا تدريبات، وأن أشرطة المراقبة في محطة المترو القريبة من سكن ريجيني حُذفت، ورفضت السلطات المصرية طلبات حصولهم على سجلات اتصالات الهواتف على أساس أنها تنتهك الحقوق الدستورية للمواطنين. إلا أن بعض شهود العيان تحلوا بالشجاعة وقاموا بزيارة مكتب المحققين الإيطاليين المؤقت في السفارة، إلا أنهم أيضا لم يساعدوهم في التوصل إلى أي شيء.

شعر مساري بالقلق حيال أمن السفارة عقب مقتل ريجيني، وبعد فترة قصيرة توقف عن استخدام بريده الإلكتروني وهاتفه لإرسال أو استلام أي شيء يتعلق بأمر حساس. وعاد مرة أخرى إلى الوسائل القديمة لإرسال الأوراق والوثائق الهامة إلى روما. وخشي المسؤولون الإيطاليون من أن ينقل الموظفون المصريون الذين يعملون بسفاراتهم المعلومات إلى قوات الأمن المصرية؛ لاحظوا أن الأنوار في المساكن المحيطة بالسفارة دائما مغلقة-وهي بقعة جيدة لوضع ميكروفونات توجيهية.

بات مساري، الذي كان لا يزال مصدوما من إصابات ريجيني، منعزلا، وتجنب اللقاءات مع السفراء الاخرين. وتدهورت علاقته مع الحكومة المصرية؛ فالمسؤولون المصريون، الذين أغضبتهم مقابلة أجراها مع محطة تلفزيونية إيطالية، قرروا أنه يحاول إلصاق جريمة القتل بهم. أبلغني حسام زكي، نائب وزير الخارجية، "استخلصنا أنه بالفعل منحاز. كان محل جدل. عبث". ثم لاحظ الناس أن السفير الإيطالي بدا مُنهكا، وقال أصدقائه إنه يعاني حتى يتمكن من النوم.

تزايد الضغط على المصريين؛ فالصحف الإيطالية أرسلت بأكثر صحفييها الاستقصائيين حرفية إلى القاهرة. وظهر موقف إخباري أطلق عليه "ريجيني ليكس" أو تسريبات ريجيني، مستجديا معلومات من المخبرين المصريين. بدأت والدة ريجيني حملتها لكشف الحقيقة، وحكت في مؤتمر صحفي أنها تمكنت من التعرف على جثته المنسحقة من "طرف أنفه" فقط. احتشدت الشخصيات التلفزيونية ولاعبو كرة القدم إلى جانبها. وقال مصريون لـ"ديفندي" إن ابنها "قُتل مثل المصريين" – وهو صك شرف في مصر السيسي. مرر البرلمان الأوروبي قرارا لاذعا أدان الظروف المثيرة للشبهة التي توفي فيها ريجيني؛ وفي لندن، قدم ناشطون التماسا حمل أكثر من 10 آلاف توقيع إلى البرلمان طالبوا فيه الحكومة البريطانية بضمان "تحقيق ذي مصداقية". كما ساعد مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI في التحقيق الإيطالي؛ وعندما هبطت صديقة مصرية لريجيني في الولايات المتحدة في إجازة، سحبها الإف بي آي جانبا لإجراء مقابلة.

هذه المرة لم تُجدِ المماطلة. ولاحظ المذيع التلفزيون اللامع، عمرو أديب في برنامجه "إحنا في ورطة كبيرة!".

"هل تتحدث اللاتينية؟" سألني، لويچ ي مانكوني، سيناتور إيطالي تبنى قضية عائلة ريجيني، عندما زرته في روما في يناير. "هناك عبارة في اللاتينية - arcana imperii. وهي تعني أسرار السلطة".

صمت، وبحث عن وقع الكلمة عليّ.

"هذا ما نراه في مصر: الجانب المظلم لهذه المؤسسات؛ الأسرار الكامنة".

كان السيناتور يشير إلى أجهزة الأمن المصرية، لكنه لم يذكر أن تحقيق ريجيني كشف أيضا عن خلافات مؤلمة داخل الدولة الإيطالية. هناك أولويات أخرى. فأجهزة الاستخبارات الإيطالية بحاجة إلى مساعدة مصر في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، وإدارة النزاع في ليبيا، ومراقبة تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط.

وشركة الطاقة التي تسيطر عليها الدولة في إيطاليا، "إيني"، لها نصيبها من الأمر. فقبل أسابيع من وصول ريجيني إلى القاهرة، أعلنت إيني عن كشف عملاق: حقل زهر  (ظُهر) للغاز، على بعد 120 ميل شمال السواحل المصرية، الذي يحتوي على ما يقدر ب850 مليار متر ومكعب من الغاز – ما يساوي 5.5 مليار برميل من النفط.

إذا تكلّم المال..

 

                                  

شعار شركة إيني الإيطالية على إحدى منصات التنقيب التابعة لها

إيطاليا واحدة من أضعف الدول الأوروبية في مجال الطاقة، الأمر الذي يجعل من إيني أكثر من عملاق قيمته 58 مليار دولار بعمليات في 73 دولة؛ هذا يجعلها جزأ لا يتجزأ من السياسة الإيطالية الخارجية.

في 2014، أقر رينزي بأكثر من ذلك، واصفا إيني بأنها "جزءًا جوهريًا من سياستنا للطاقة، وسياستنا الخارجية وسياستنا الاستخباراتية". ففي الكثير من البلدان، يعرف الرئيس التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالزي القادة أكثر مما يعرفهم وزراء إيطاليا- وهو رجل نفط طويل من ميلان، دفع جهود الاستكشافات الأخيرة في أنحاء أفريقيا.

ومع تضاعف الضغط لحل جريمة قتل ريجيني، طمأن ديسكالزي، وهو زائر منتظم للقاهرة، منظمة العفو الدولية أن السلطات المصرية "تبذل أقصى جهودها" للعثور على قتلة ريجيني. وأنه شخصيًا بحث القضية ثلاث مرات على الأقل مع السيسي.

ووفقا لأحد المسؤولين في وزارة الخارجية الإيطالية، توصل الدبلوماسيون لاعتقاد أن إيني لديها "قوة مشتركة" مع جهاز الاستخبارات الإيطالي في محاولة لإيجاد حل سريع للقضية. ولدى إيني تاريخ طويل في توظيف الجواسيس الإيطاليين في قطاع الأمن الداخلي لديها، حسبما قال أندريا غريكو، المؤلف المشارك لكتاب "الدولة الموازية" الصادر في 2016 عن شركة إيني. وقال "لديهم تعاون قوي". وأضاف "أنا متأكد من أنهم قد يكونوا تعاونوا في قضية ريجيني، رغم أنه من غير المؤكد أن مصالحهم منحازة". وقالت متحدثة باسم إيني إن الشركة "فزعت" من مقتل ريجيني، ورغم أنها ليس لديها أي مسؤولية للتحقيق، إلا أنها مستمرة "في متابعة الموضوع عن كثب" في تعاملاتها مع الحكومة المصرية.

وبات التعاون المتصور بين إيني وأجهزة الاستخبارات الإيطالية مصدرا للتوتر داخل الحكومة الإيطالية. فوزارة الخارجية ومسؤولو الاستخبارات تحولوا إلى مراقبين لبعضهم البعض، أحيانا بحجب المعلومات.

قال لي أحد المسؤولين "كنا في حرب، ليس مع المصريين وحدهم". ويشتبه دبلوماسيون في أن الجواسيس الإيطاليين، في محاولة لإغلاق القضية، توسطوا لإجراء صحيفة "لا ريبوبليكا" مقابلة مع السيسي بعد ستة أسابيع من وفاة ريجيني. (ويصر رئيس تحرير لا ريبوبليكا على أن طلب إجراء المقابلة جاء من الصحيفة). وفي المقابلة تعاطف السيسي مع والدي ريجيني، ووصف وفاته بأنها "مروعة وغير مقبولة"، وتعهد بإيجاد الجناة. وقال "سنصل الحقيقة".

وفي 24 مارس، بعد ثمانية من ظهور المقابلة، فتحت شرطة القاهرة النار على سيارة (ميكروباص) تحمل خمسة رجال، أعلنت أن أغلبهم ذوي سجلات إجرامية أو تاريخ في تعاطي المخدرات. قُتل الخمسة كلهم، وأصدرت الشرطة بيانا وصفتهم فيه بعصابة خطف تستهدف الأجانب.

                                              

اثنان من الضحايا الخمسة اللذين قتلتهم الشرطة بعد اتهامها لهم بقتل جوليو ريجيني قبل أن تبرئهم النيابة العامة 

 

وفي مداهمة تالية لشقة مرتبطة بالرجال، قالت الشرطة إنها اكتشفت جواز سفر ريجيني، وبطاقته الائتمانية وبطاقة هويته الدراسية. بعد ذلك، أفادت وسائل الإعلام الرسمية بأنه تم التعرف على قتلة ريجيني. وتم استدعاء المحققين الإيطاليين الذين كانوا في مطار القاهرة في طريقهم إلى بلادهم لقضاء عيد الفصح، وشكرتهم وزارة الداخلية على تعاونهم.

في إيطاليا، قوبلت أنباء إطلاق النار بحالة تشكك -وانتشر هاشتاج #noncicredo الذي يعني لا أصدق ذلك، على تويتر. وسرعان ما انهارت الرواية المصرية. وأبلغ شهود العديد من الصحافيين (بينهم أنا) أن الرجال أُعدموا بدم بارد. أحدهم أُطلقت عليه النار فيما كان يحاول الفرار، ووضعت جثته بعدها داخل السيارة. "أحد الرجال أخبرني وهو يمسك برأسه "لم تكن أمامهم فرصة". تحطمت صلة الرجال بريجيني: استخدم المحققون الإيطاليون سجلات الهاتف ليظهروا أن الزعيم المفترض للعصابة، طارق عبد الفتاح، كان على بُعد 60 ميلا شمال القاهرة في اليوم الذي يفترض أنه اختطف فيه ريجيني.

وفي الخريف الماضي، أبلغ النائب العام المصري نظيره الإيطالي بأن ضابطي شرطة اتهما في جريمة قتل، لها صلة بقتل الخمسة رجال. لكن لا يزال هناك سؤال محرج: إذا كان الرجال لم يقتلوا ريجيني، فكيف وصل جواز سفره إلى شقتهم؟

لم يكن لدى الإيطاليين شك في أن الحلقة بأكملها عملية تستر فجة غير متقنة، تشير إلى أن المصريين يجرمون أنفسهم. ورغم ذلك خرجت بنتيجة؛ فالمحققون الإيطاليون غادروا القاهرة، وتوقف التحقيق. واستُبدِل ماساري بسفير جديد آخر، أُمر بأن يبقى في روما.

في مصر بات "ريجيني" كلمة ينطق بها همسا. قالت لي هدى كامل، إحدى المتخصصات في عمل النقابات والتي ساعدت ريجيني في بحثه "كل من يعتني بأمر جوليو خائف. تشعر وكأن الدولة بأكملها، بكل قوتها، تحاول قتل القصة".

وبعد أشهر من العلاقات الدبلوماسية المتوترة، تصدع جدار النفي المصري - أو يبدو كذلك. ففي رحلة إلى روما في سبتمبر الماضي، أقر النائب العام المصري، نبيل صادق، بأن جهاز الأمن الوطني المصري، الذي كان يشتبه في تجسس ريجيني، راقبه. وفي سلسلة من اللقاءات خلال الأشهر التالية، قدم للإيطاليين مستندات - سجلات هاتف وإفادات شهود ومقاطع مصورة - أظهرت أن ريجيني تعرض لخيانة من الكثير من القريبين منه.

دم يتفرق 

 

 

محمد عبد الله نقيب الباعة الجائلين الذي قام بالإبلاغ عن ريجيني وتسليمه للأمن الوطني

كان محمد عبد الله، نقيب الباعة الجائلين وسيلة اتصال مهمة بالنسبة لرسالة الدكتوراة التي يعدّها ريجيني، وكان أيضًا مخبرا لدى جهاز الأمن الوطني. وباستخدام كاميرا خفية، سجل محادثته مع ريجيني عن منحة بقيمة 10 آلاف جنيه استرليني (سلم المصريون المقطع المصور لإيطاليا). وقدم إفادة مفصلة بلقاءاته مع من يتعامل معه: العقيد شريف مجدي إبراهيم عبد العال، الذي وعده بمكافأة عندما تغلق قضية ريجيني، حسبما قال.

كانت هوية الشخص الثاني ربما أكثر مفاجأة. توصل المسؤولون الإيطاليون إلى اعتقاد بأنه في الشهور التي سبقت اختفاء ريجيني، سمح المحامي الذي يسكن معه، محمد السيد، لمسؤولين من جهاز الأمن الوطني بتفتيش الشقة. في الأسابيع التي تلت ذلك، أظهرت سجلات الهاتف أن السيد تحدث مع مسؤولين اثنين من جهاز الأمن الوطني.

لم يرد السيد على طلبات للتعليق، لكن كان لدي حديث متبادل عبر فيسبوك مع زميلة ريجيني الأخرى في السكن، جوليان شوقي. كانت روايتها عرضية عن جو الريبة المنتشر في قاهرة السيسي. ووفقا لشوقي؛ أعرب السيد عن اشتباهه في ريجيني في غضون أيام من انتقاله إلى شقتهم. تتذكر قوله "أعتقد أن جوليو جاسوس".

بعد اختفاء ريجيني بدأت تشاركه وجهة النظر هذه. تشكك الاثنان في أنه كان يعمل مع الموساد. (قالت إن ريجيني أبلغها مرة بأن له رفيقة إسرائيلية وزار إسرائيل) نقلت شوقي، التي غادرت مصر منذ ذلك الحين، هذه النظرية إلى ضباط الاستخبارات المصرية. تتذكر: "تفاجأوا لأن نفس الفكرة كانت لديهم" بعد وفاة ريجيني، كانت تجلس مع السيد يشاهدان أفلام رعب على التلفزيون، ويقولان "هذا بالضبط ما جرى!" - شيء ما، عند استعادة الأحداث: "يبدو الأمر مضحكا. لكن قبل عام كان منطقيا تماما".

استخدم الإيطاليون سجلات الهاتف ليقوموا ببعض الربط، واكتشفوا أن ضابط الشرطة الذي زعم أنه عثر على جواز سفر ريجيني كان على اتصال مع أعضاء فريق الأمن الوطني الذي كان يتتبع ريجيني. فجأة، تجرأ والدا ريجيني في الأمل أن تظهر الحقيقة. كتب والداه في خطاب نشر في "لا ريبوبليكا" في الذكرى الأولى لاختفائه: "الشيطان يتكشف ببطء مثل كرة من الوبر".

                                                   

متعلقات جوليو التي جرى دسها في شقة تابعة لواحد من الضحايا الخمسة الذين اتهمتهم الشرطة بقتل جوليو

ورغم أن المصريين أقروا بمراقبة ريجيني، أصروا على أنهم لم يخطفوه أو يقتلوه. وحتى إذا أمكن إثبات ذلك، يبقى اللغز الأساسي: لماذا قتل وكأنه مصري؟" إحدى النظريات الشائعة تشير إلى أن ذلك عمل ضابط وغد.

في وزارة الداخلية -التي تسيطر على الأمن الوطني- حتى الضباط منخفضي المستوى، يتمتعون باستقلالية معتبرة تجعل من النادر خضوعهم للمحاسبة، بحسب يزيد صايغ، كبير الزملاء في مركز كارينيجي الشرق الأوسط في بيروت. قال: "ربما تحدث أمور لا يقبلها السيسي". لكن هناك أمور كثيرة أخرى ليس لها منطق يذكر. أي مسؤول مصري يقرر أن تعذيب أجنبي فكرة جيدة؟ لماذا إلقاء جثته على طريق سريع مزدحم، بدلا من دفنه في الصحراء حيث قد لا يُعثَر عليه أبدا؟ ولماذا الكشف عن جثته أثناء وصول وفد رفيع المستوى إلى القاهرة؟

جاء خطاب من مجهول، إلى السفارة الإيطالية في برن في سويسرا العام الماضي، ونُشِر في صحيفة إيطالية، قدم هذا الخطاب تفسيرا آخر: راح ريجيني في حرب في الظل بين الأمن الوطني والاستخبارات العسكرية، حيث سعت جماعة لاستغلال وفاته لإحراج الأخرى. تشير التفاصيل إلى أن مؤلف الرواية (صاحب الخطاب) على صلة وثيقة بأجهزة الأمن المصرية، لكن بدا أنه شخص يمكن أن يكون على دراية بكثير من الأمور. أبلغني مسؤولون أمريكيون بارز بأن الخطاب، رغم ذلك، متسق مع التقارير الاستخباراتية عن المناورات الشرسة على السلطة بين أجهزة الأمن المتنافسة. قال أحدهم "يحاولون استخدام الحالات كرافعة لإحراج الجماعة الأخرى".

والاحتمالية الأكثر قلقا هي أن وفاة ريجيني كانت رسالة متعمدة -إشارة على أنه، تحت حكم السيسي، حتى الغربي يمكن أن يكون عرضة لأكثر التجاوزات وحشية.

في روما، أبلغني مسؤول أنه عندما اكتشفت جثة ريجيني، كانت مسنودة على جدار. سأل المسؤول "هل كانوا فعلا يريدون ألا يُعثَر عليه؟" وقال مسؤول في إدارة أوباما إنه يعتقد أن شخصا ما في "المناصب العليا" في الحكومة المصرية قد يكون أمر بقتل ريجيني "لإرسال رسالة إلى الأجانب الأخرين والحكومات الأجنبية بوقف اللعب مع الأمن المصري".

لم يوافق أي مسؤول مصري بارز على الحديث معي لهذا الموضوع. لكن حسام زكي، النائب السابق لوزير الخارجية الذي يعمل الآن مساعدا للأمين العام لجامعة الدول العربية، أبلغني بأن المسؤولين المصريين يعتقدون أن القتل كان من عمل "طرف ثالث" مجهول يسعى لتخريب العلاقات المصرية مع إيطاليا. وقال "المصريون لا يعاملون الأجانب بسوء، نقطة".

مع ذلك، ألقى مقتل ريجيني بظلاله على مجتمع المغتربين المتقلص في القاهرة. قال لي دبلوماسي أوروبي "بعض الأمور هزتني بعمق".

قبل أن نتحدث، طلب مني الدبلوماسي أن أضع هاتفي الخلوي في صندوق يحجب الإشارة، تفاديا لإمكانية مراقبة محادثتنا. واصل الدبلوماسي: إن مقتل ريجيني أشار إلى الاتجاه المصري الأوسع نطاقا: "راح ريجيني ضحية للبارانويا تجاه الأجانب التي تطارد المجتمع المصري"؛ فمنذ الثورة، قد تكون الاحتكاكات الأصغر محفوفة بالمخاطر. خلال غداء في الحي الإسلامي بالقاهرة، يتذكر الدبلوماسي، أن رجلا هائجا اعترض بصوت عال مع ضيف آخر على التقاط صورة للوجبة - فول وخبز وطعمية: "بدأ في الصراخ: أنت أجنبي. سوف تستخدم هذه الصورة وتظهر أننا نأكل فول وخبز فقط! ".

في فيوميتشلو، حيث نشأ ريجيني ولا يزال والداه يعيشان، تتدلى لافتة تقول (بالإيطالية) "الحقيقة بشأن جوليو ريجيني" في الكنسية الرئيسية. لكن قلة تعتقد أن الحقيقة لن تظهر أبدا. أغلقت عائلة ريجيني صفوفها وعينت محاميا مشاكسا حارسا لبوابتها، وبدأت تحقيقها الخاص في جريمة قتله. (رفض والداه إجراء مقابلة لهذا الموضوع لكنهما أجابا على بعض الأسئلة عبر البريد الإلكتروني).

في مقر مجموعة كارابينيري للعمليات الخاصة في روما، المتخصصة في مكافحة الإرهاب وعمليات المافيا، يصر الجنرال جوسيبي غوفرنال على أنه لا يزال هناك أمل في حل الجريمة: "العقلية العربية هي التسويف حتى ينسى الكل. لكننا لن نتوقف حتى نعثر على إجابة. نحن مدينون بذلك لوالدته".

لدى الإيطاليون ما وصفه كالو بونيني، الصحافي لدى لا ريبوبليكا الذي كتب بشكل مكثف عن قضية ريجيني، ب"الرصاصة الأخيرة". بموجب القانون الإيطالي، يمكنك الضغط باتهامات في محكمة إيطالية ضد حفنة من مسؤولي الأمن المصريين الذين يعتقد أنهم مسؤولون عن مقتله. لكن هذا قد يكون نصرا مكلفا: مصر لن تُرحِّل أحدا للمحاكمة. وهناك على ما يبدو فرصة ضئيلة بإمكانية الضغط على  السيسي لكشف الحقيقة. وأقر مسؤولو روما الشهر الماضي بأن التحقيق الآن ليس أكثر من دراما كابوكي الجيوسياسية؛ فالسياسة وليس العمل الشرطي هي من تحدد نتيجته. ففي الثمانية عشر شهرا منذ مقتل ريجيني، تناول السيسي العشاء مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام الأهرامات، وفي أبريل/ نيسان الماضي استُقبِل بترحاب كبير في البيت الأبيض مع الرئيس ترامب. وفي 14 أغسطس/ آب الجاري، أعلنت الحكومة الإيطالية أنها ستعيد سفيرها إلى القاهرة. كما أن حقل ظهر في طريقه لبدء الإنتاج في ديسمبر.

في فيومتشيلو، يرقد ريجيني تحت صف من شجر السرو. وهناك الزهور والشموع التعبدية ونسخ ملفوفة بالبلاستيك من مؤلفات سبينوزا وهيسه، مكومة على قبره، وصورة صغيرة تظهره وهو يتحدث إلى حشد ممسكا بميكروفون ووجهه منفتح وجاد. لكن على عكس المقابر الواضحة المجاورة المحيطة به، فشاهد قبر ريجيني عبارة عن بلاطة رخامية عادية. ولأن التحقيق لا يزال مفتوحا، أوضح الكاهن أن المسؤولين قد يحتاجون لإخراج رفاته.

شارك في الترجمة محمد الصباغ وهدى الشيمي

                                      

قبر جوليو ريجيني