برخصة المشاع الإبداعي: David Jones، فليكر
صورة لصالة تحرير تليجراف التقطت في 4 أغسطس 2010

انتفاضة بريطانيا ضد بيع تليجراف للإمارات.. و"الحكمة" الغائبة عن برلمان مصر

منشور الثلاثاء 19 مارس 2024

يظل امتلاك الأجانب للأصول والاستثمارات المحلية قضيةً مثيرةً للجدل والنقاش في كل دول العالم، خاصة في حالة المخاوف من الأجانب الذين لا يهدفون فقط للاستثمار والربح، بل أيضًا التأثير على استقلالية القرارات السياسية للدولة التي تقبل استثماراتهم. لذلك، تحدد القوانين المحلية في كل دولة قطاعات يُسمح للأجانب بالاستثمار فيها، أو قطاعات يُحظر دخولهم فيها، تكون مرتبطةً بالأمن القومي الذي يختلف تعريفه وحدوده من دولة إلى أخرى.

من هذا المنطلق، انتفض البرلمان البريطاني نهاية الأسبوع الماضي لمنع صفقة استثمارية ضخمة بقيمة نحو مليار ونصف المليار دولار، لا لشراء مطار أو ميناء أو موقع حساس، بل للاستحواذ على صحيفة ديلي تليجراف العريقة، التي يقترب عمرها من 170 عامًا، ومجلة ذا سبكتاتور، وذلك بالرغم من التاريخ الطويل لبريطانيا في دعم الرأسمالية وسياسات السوق الحر، وبالرغم من وجود حكومة محافظة حالية تضع إنقاذ الاقتصاد من عثرته على رأس أولوياتها.

سبب التشريع المرتقب عرضه على البرلمان، أنَّ مَن تقدم بعرض الشراء السخي هذا كان دولة الإمارات العربية المتحدة، التي نظر المشرعون البريطانيون، محافظين وعمالًا على حد سواء، إلى سجلها المتدهور في مجال حقوق الإنسان وحرية الصحافة، واعتبروا الصفقة مشبوهة وذات أغراض سياسية.

لم تتقدم الإمارات مباشرة لشراء الصحيفة العريقة التي تُعرف في الأوساط الصحفية البريطانية بـ"توري جراف" نسبة إلى حزب المحافظين المعروف في بريطانيا باسم "التوريز"، بل قدمت الصفقة عبر RedBird IMI، وهي شركة أمريكية/إماراتية، يترأسها الرئيس السابق لشبكة تليفزيون سي إن إن، جيف زوكر، الاسم المعروف في عالم صناعة الإعلام في الغرب، وتمولها شركة "الاستثمارات الإعلامية الدولية" التي يمتلكها الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب وشقيق رئيس دولة الإمارات.

والشيخ منصور شخصية معروفة في بريطانيا، خصوصًا بعد شرائه نادي مانشستر سيتي الشهير والنجاحات الكبيرة التي حققها النادي بعدها، في صفقة أثارت وقت إبرامها عام 2008 جدلًا واسعًا، باعتبار النادي واحدًا من الرموز العريقة لكرة القدم الإنجليزية، ولا يجب السماح ببيعه.

حماية المعرفة

مع تواتر أنباء صفقة ديلي تليجراف، تحرك البرلمان البريطاني الذي يسيطر عليه حزب المحافظين فورًا لإصدار تشريع يحظر تملك الدول الأجنبية للصحف والمجلات البريطانية، وتعهد المتحدث باسم الحكومة بحظر "ملكية دولة أجنبية أو نفوذها أو سيطرتها على صحف ومجلات إخبارية دورية".

وبالرغم من أنَّ حزب العمال المعارض يقف عقبة أمام كلِّ التشريعات التي يتقدم بها حزب المحافظين تقريبًا، حظي هذا المقترح بترحيبه. وقالت ممثلة حزب العمال في البرلمان إن رفض ملكية الأجانب للصحف البريطانية هو موقف مبدئي بالنسبة للحزب، وإنَّ "امتلاك دولة أجنبية لوسائل الإعلام لا يتسق مع حرية الصحافة، وهي أمر ضروري في الدول الديمقراطية".

لعب البرلمان البريطاني دوره في مواجهة تأثير الجهات الأجنبية مقارنة ببرلمان "الموافقون" الذي تستخدمه حكومتنا

قاد حملة معارضة الصفقة رموز شهيرة للمحافظين في بريطانيا، مع فريزر نيلسون رئيس تحرير مجلة ذا سبكتاتور المعروضة للبيع كذلك. وتحول الأمر إلى قضية سياسية تتعلق بتأثير الأجانب على المؤسسات البريطانية. 

وقال مايكل فورسيث، أحد المشرعين عن حزب المحافظين في مجلس اللوردات، لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية "المال يتحدث، والطرف الذي يمتلك الصحيفة يمثل فارقًا"، وأضاف "منح هذه الصفقة يجب ألا يمتد لحكومة تضع الصحفيين في السجن وترحِّل المعارضين. إنها دولة يقع سجلها في قاع معايير الحريات العالمية".

ويسعى زوكر الآن إلى إعادة تقديم العرض بشرط أن تقل مساهمة الإمارات عما هي عليه حاليًا، لتصل لنسبة تقبلها الحكومة البريطانية.

وللتأكيد على أنَّ المشكلة ترتبط بامتلاك الصحف ووسائل الإعلام حصرًا، لما لها من تأثير على الرأي العام المحلي وصناع القرار، أشار المشرعون المعارضون للصفقة إلى أن الشركة نفسها عقدت الشهر الماضي صفقة أخرى لشراء شركة All3Media، التي تنتج الأفلام العالمية. ولكن تلك الصفقة لم تُثر اعتراض البرلمان أو الحكومة.

أين البرلمان؟

ذكرني هذا الجدل المحتدم في بريطانيا بشأن رغبة الإمارات في شراء إحدى أعرق الصحف البريطانية المحافظة، وتحرك البرلمان الفوري لمواجهة هذه الصفقة، بموقفنا هنا في مصر من الصفقة الإماراتية السخية لتطوير رأس الحكمة.

قامت الدنيا ولم تقعد بعد الإعلان عن الصفقة التي أنقذت الاقتصاد المصري من إعلان إفلاسه، فيما بقي الرأي العام مغيبًا عن تفاصيلها التي تمت من دون عرض على البرلمان، الذي تظل إحدى مسؤولياته الرقابة على إنفاق المال العام وما تحصل عليه الحكومة من قروض وما تعقده من صفقات مع الدول الأجنبية.

الفرق الرئيسي بين الحالتين، يكمن في الدور الرقابي الحيوي الذي لعبه البرلمان البريطاني لمواجهة تأثير الجهات الأجنبية، مقابل برلمان "الموافقون" الذي تستخدمه حكومتنا لتمرير ما تشاء من قوانين وصفقات، وبأثر رجعي في معظم الحالات.

تتفاوض الحكومة على الصفقات وتفاصيلها في سرية كاملة، ثم ترسلها للبرلمان بعد البدء في تنفيذها، إن أرسلتها. أو يأمر سيادة الرئيس بصفقة ضخمة ما لشراء مفاعل نووي من روسيا، أو إقامة مونوريل أو قطار كهربائي سريع، ثم تذهب الاتفاقية للبرلمان، أو لا تذهب على الإطلاق إن كانت من وقعتها إحدى الهيئات أو الصناديق الخاصة التي تقع ميزانيتها "خارج الموازنة الرسمية".

يقع على عاتق البرلمان دور حاسم في تحديد الأصول التي قد يمثل بيعها تهديدًا للأمن القومي، سواء ارتبط الأمر بصناعة حيوية وحساسة، أو صحف ذات تأثير واسع في الرأي العام، ليظل السؤال، ولو على سبيل الافتراض، عن موقف مشرعينا ومسؤولينا الحكوميين إذا ما رغبت دولة خليجية شقيقة في امتلاك صحف مصرية؛ هل سنقبل ونرحب بالصفقة، أم نرفض لنحافظ على استقلالية إعلامنا المحلي؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.