لأشرف عمر روتين يومي لا يتجاوزه، يستيقظ في السابعة ليعد القهوة له ولزوجته ندى، يحتسيانها وهما يخططان مشاريعهما اليومية للترجمة والرسم، ثم ينتقل كل إلى مكتبه. يعملان حتى الظهيرة ثم يلتقيان في مطبخ منزلهما الذي تغطي حوائطه الأعمال الفنية لإعداد إفطارهما المتأخر، قبل أن يعودا لمواصلة العمل حتى السادسة مساء، فيغلق كلاهما مكتبه ويستكملان يومهما متلازمين.
قليلًا ما يخرج رسام الكاريكاتير الشاب عن هذا الإيقاع، حتى في غياب زوجته الدكتورة ندى مغيث لظروف عملها الأكاديمي. لم يكسر هذا الإيقاع المنتظم، الذي قد يبدو لنا رتيبًا، سوى إلقاء قوات الأمن القبض على الرسام الشاب صباح الاثنين 22 يوليو/تموز المنقضي ليختفي نحو يومين، ظَهر بعدهما في نيابة أمن الدولة التي وجهت له الاتهامات المعتادة؛ الانضمام لجماعة إرهابية ونشر الأخبار الكاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وهي الاتهامات التي يتم توجيهها للعديد من الصحفيين وأصحاب الآراء التي يجدها أحدهم عسيرة الهضم.
في تلك الليلة كان أشرف وحده بسبب مبيت زوجته في بيت والدها الأكاديمي الدكتور كمال مغيث. ذهبت لاستكمال أوراق شراء سيارة صغيرة للأسرة.
ظل أشرف وندى يدخران ثمن السيارة فترة طويلة، كان مقدمها ضمن المبلغ الذي صادرته قوات الأمن من بيتهما. أدرجت الشرطة 80 ألفًا ضمن الأحراز، بينما تقول ندى إن المبلغ المصادر من المنزل 339 ألف جنيه.
تقاوم ندى، مدرِّسة اللغة الصينية وآدابها بكلية اللغات والترجمة في إحدى الجامعات الحكومية، الدموع كلما اضطرت لاستعادة تفاصيل اليوم في أحاديثها مع الصحف والمواقع الإخبارية الأجنبية، وتلك المحلية المستقلة التي تواصلت معها لمعرفة تفاصيل إلقاء القبض على زوجها.
"كل حاجة كانت هادية، متوقعناش خالص إنه يحصل حاجة زي كدا، خصوصًا إن رسومه نبرتها ماتختلفش عن الآراء اللي كل الناس بتقولها عالفيسبوك وغيره"، تقول ندى التي تجلس على كنبة صغيرة في غرفة مكتب أشرف.
بينما تتأمل ندى مكتبه الخالي، أقف أمام لوحة صغيرة معلقة على الحائط، تلفت نظري خطوطها الكلاسيكية وأنتبه للتوقيع، وتبدأ دهشتي في التعالي بينما تشرح هي "دي لوحة لجد أشرف، كان فنان تشكيلي اسمه محمد صدقي الجباخنجي"، تنفلِت قدرتي على احتواء دهشتي تمامًا، فهذه ليست فقط المرة الأولى التي أقف فيها أمام لوحة رسمها واحد من أهم أساتذة ومؤرخي الفن المعاصر في مصر، بل هو الجد المباشر لأشرف بالذات.
تبث حماستي الظاهرة، رغم الظرف المعقد، بعض الطاقة في مُحيا ندى المنهك، فتأخذني في جولة لمشاهدة لوحات بقية عائلة أشرف المنخرطة في الفن التشكيلي، إذ تزين لوحات عمّيه الفنانين التشكيليين عصام وعلاء الدين الجباخنجي حوائط بيتهما، جنبًا إلى جنب لوحات التركيبات الخشبية التي أبدعتها يداه.
تقول ندى "كل شغل الخشب في بيتنا تقريبًا أشرف اللي عامله، كل المكاتب والمكتبات والرفوف وركن القهوة، وكل اللوحات وكمان البراويز الخشب للوحات".
أسألها "وستاند الجيتار؟" مشيرة إلى حامل يحتضن 6 جيتارات كهربية، تمد يدها لتلمس واحدًا من الجيتارات الستة وتحكي "في أول معرفتنا ببعض قالي إنه بيلعب بيز جيتار. قلتله صوته مزعج، استغرب وقالي سمعتيه فين؟ قلتله زي اللي في أغنية إنت عمري مش كدا؟ ضحك وشرحلي الفرق، ومن ساعتها بقيت بانتبه لصوت البيز جيتار".
تتذكر ندى كيف بدأ إعجابها بأشرف قبل أن تلتقيه، بل قبل أن تحفظ ذاكرتها اسمه. تُخرج من المكتبة مجموعة مجلدات "حياتي - مذكرات ليون تروتسكي" التي ترجمها أشرف مدفوعًا بميوله اليسارية وحبه للترجمة، التي يحترفها أيضًا "قريت ترجمته لمذكرات تروتسكي وكنت معجبة جدًا بشطارة المترجم، وماربطش ذهني بين أشرف والكتب دي إلا لما كنا بنتكلم مرة عن شغلنا وعن مشروعات الترجمة المستقبلية اللي شغالين عليها".
ترجم أشرف عمر عددًا من الكتب المهمة، منها المذكرات الكاملة لتروتسكي، وصدرت في مجلدين من القطع الكبير، وكتاب جون مولينو لينين في القرن الحادي والعشرين، وغيرها. بعضها تركته ندى على مكتبه الفارغ وبعضها لا يزال في مكتبته التي يضع فيها الأدبيات اليسارية ملاصقة لمجلدات سمير ومجلد تنابلة السلطان لفنان الكوميكس والكاريكاتير الكبير الراحل حجازي.
لن تستغرق عيناك طويلًا لتمسح موجودات المكتب الصغير، لكن النظرة المتمهلة ستدهشك بقدر الحياة المزدحمة بالإبداع التي تقبع الآن في أحد الزنازين خارج العاصمة، حيثُ يحتجز أشرف عمر في سجن العاشر من رمضان، في أقل من 4 أمتار مربعة، هناك لوحتان على الحائط للجد والعم، الثانية تتوسط رفين معلقين، أحدهما يعلو مكتب أشرف مباشرة وتتوزع عليه تماثيل مختلفة لطائر البوم، الذي يرتبط ميثولوجيًا بالحكمة والتفاني في خدمة الآخرين.
أقول هذا لندى فترد "أشرف كدا فعلًا، مابيفكرش في راحته لكن راحة كل الناس اللي حواليه. أشرف دايمًا صوته هادي، أول مرة أسمع صوته عالي كان وهو بيصرخ من عربية الترحيلات: بابا يا ندى.. خلي بالك من بابا".
وضع أشرف حامل الجيتارات على بُعد أقل من ذراع من مكتبه "لما بيخلص شغل حوالي الساعة 6 بالليل، بعد ما نجهز الغدا سوا، بنقعد ندردش ونتفرج على حاجة، وبعدين لازم ييجي يمسك جيتار ويلعب عليه كل يوم، طول النهار يرسم أو يترجم، لكن لازم يعمل وقت للجيتار".
درس أشرف الصيدلة وعمل فيها قليلًا قبل أن يقرر امتهان ما شغف به؛ الترجمة ورسم الكاريكاتير، مع ذلك فهو ليس مجرد هاوٍ للموسيقى، بل يحترف عزفها مع الفريق المستقل تفاقُم.
تعود إلى غرفة المكتب بعد دقائق قليلة غابت خلالها لتُحضر مروحة كهربائية صغيرة "معلش مفيش تكييف، أشرف بيقعد يشتغل في الحر من غير تكييف ولا مروحة. مش عارفة بيستحمل إزاي". تصمت لثوانٍ ثم تتابع "دي حاجة مُريحة شوية في الموقف اللي إحنا فيه، عالأقل عارفة إنه مش هيُنهك جامد من حر الزنزانة".
تجلس في مكانها على الكنبة الصغيرة وقد تَعمّدت إبعاد المروحة عنها، كأنها أرادت مشاركته ما يشعر به، تأتي بدفتر يضم أوراقًا متناثرة فيها رسوم كاريكاتيرية مكتملة اختار أشرف ألا ينشرها، وصفحات مليئة بخطوط يظهر فيها تدريبه المُصّر على خطوط وشخصيات يبدو أنه كان يعدها لمشروعات فنية مستقبلية.
تقول ندى "كتير من الرسوم دي اتفاجئت بيها بعد القبض على أشرف، ماشفتهاش قبل كدا. وواضح إنها قديمة جدًا من قبل ما نتجوز. إحنا متجوزين بقالنا سنة وشهر بس. واضح إنه مشغول بتطوير خطوطه من زمان، عارفة إخلاصه لفن الكاريكاتير وإيمانه بيه لكن الموضوع طلع أكبر بكتير من حكاياتنا عنه".
اصطحبتني ندى في سيارة صديقتها مي المهدي إلى حيث قررنا أن نبحث سويًا عن تاريخ علاقته بالكاريكاتير. تعرّفني ندى "مي صاحبتنا إحنا الاتنين، اتقابلنا أنا وأشرف في تجمع أصدقاء في بيتها لأول مرة"، نقرر معًا أن نلقب مي بالراعي الرسمي لزيجتهما، تضحك ندى وسط دموعها للمرة الأولى منذ بدء الحوار.
كان السر في علاقة أشرف بالكاريكاتير يقبع في بيت أسرته، الذي يبعد نحو نصف ساعة بالسيارة عن بيتهما. بعد دقائق من ركوب السيارة تخبرني ندى معلومة أخرى عن أشرف، الذي لا تنقطع عن ترديد اسمه، تنبهني إلى أن إحدى الدراجات المصفوفة في مدخل البناية التي يسكناها دراجة أشرف "أحيانًا بيروح بيت العيلة بالعجلة. ركوب العجل هواية من هواياته الكتير".
بيت العائلة يماثل بيت أشرف وندى في احتفائه بالفن، لوحات رومانسية وتأثيرية عديدة مختلفة الأحجام معلقة بعناية شديدة على حوائط الصالة الواسعة. تُجيب دينا شقيقة أشرف، التي تكبره بعام ونصف العام، عن تساؤلي بأنها لوحات الجد مفسرة كلاسيكيتها "جدنا كان مهتم بتدريس الفن وتأريخه أكتر من إنتاجه. أشرف ملحقش يشوفه ويتأثر بيه. لكن أي حد بيشوف أشرف بيتكلم من كبار عيلتنا بياخد باله على طول إنه أكتر واحد شبه جدنا".
تواصل دينا الحكي بحماس عن تشابهات الحفيد مع جده "أشرف هادي مش بيتكلم كتير لكن لما بيتكلم كاريزمته بتخلّي الناس تنتبه وتسمعه، دايمًا عنده حاجة مهمة يقولها". تتوقف عن الكلام لثوانٍ وتنهض منتظرة استقرار والدها فوق الكرسي المجاور، ما يشير، من دون قصد، إلى طبائع عائلتها.
تعود الأخت للكلام عن أشرف، بينما يُراجع والده الفنان عمر صدقي مجموعة من الأوراق التي يحتفظ بها منذ طفولة أشرف وشقيقتيه دينا وأميرة، لا أقطع صمته المتأمل للأوراق، بينما تنشغل الشقيقتان بإلهاء طفلة صغيرة لا تتخطى الثانية من العمر عن العبث بالأوراق التي تكرر الرضيعة اختطافها بفضول "لا يا حبيبتي دا ورق خالو أشرف".
لحظتها قرر الأب الحديث "لاحظنا إن أشرف موهوب في الرسم بدري جدًا، وكنا دايمًا أنا ووالدته الله يرحمها نشجعه هو وإخواته"، يستخرج مجموعة من الاسكتشات/تجارب الرسم صغيرة الحجم ويضعها جوار بعضها البعض ويشرح "هنا محاولات لإتقان رسم البروفايل، دا كان بيرسمه في نفس الوقت اللي رسم فيه دول"، ويُخرِج مجموعة من رسومات الكاريكاتير التي قد تظنها للوهلة الأولى مقتطعة من صحيفة الأخبار، حيث كانت تُنشر كاريكاتيرات الفنان الراحل مصطفى حسين.
يتذكر والد أشرف "كنت باشتغل في الأخبار، وكل يوم لما أرجع أشرف ياخد الجرنال ويقعد ينقل بإيده كاريكاتير مصطفى حسين وأحمد رجب، لاحظنا الموضوع دا وحرصه اليومي عليه وهو عنده 14 سنة، وبدأ يسألني كتير عن فن الكاريكاتير وطلب مني أرتبله مقابلة مع مصطفى حسين عشان عنده أسئلة عن الكاريكاتير، لكن طلبه دا كان في المرحلة اللي توقف فيها تمامًا عن التقليد وابتدا يطور أسلوبه وخطوطه الخاصة".
يصمت قليلًا ثم يتابع "مسألة رسم الكاريكاتير عنده مش عَرض جانبي لحب الرسم، أشرف دايمًا رغم إنه بيعمل حاجات كتير إلا إنه عارف هدفه، وعارف هو عايز إيه وبيجتهد وبياخد كل حاجة بجدية شديدة إن كان الكاريكاتير ولا الترجمة ولا الموسيقى". تقطع الحفيدة الصغيرة حديثه بمحاولة جديدة للاستيلاء على الأوراق فيترك لدموعه العنان معتذرًا.
أمام دموع الأب لا أتمكن من مواصلة الأسئلة. شكرت ندى والعائلة معتذرة، ولا يزال لدي كثير من التساؤلات عن أشرف عمر الذي، على عكس تصوري المبدئي عنه، تحمل شخصيته ثراءً استثنائيًا.
أثناء توجهي إلى بيته البعيد على أطراف محافظة الجيزة كنت محتارة فيما يمكن أن يُكتب، بدا أشرف عمر الذي اعتدت مطالعة كاريكاتيراته في المنصة شابًا عاديًا جدًا، قد لا تكون في حياته مادة تمكِّن زملاءه الصحفيين من رسم صورة قلمية له، لكني وجدت في مقابلتين قصيرتين طاقة هائلة من المواهب المتعددة والمعرفة والثقافة والإخلاص والحنو، قررت السلطات الأمنية أن الزنزانة تليق بها.