
فان بيبلز.. بهجة السُود لا تقهر
لا يخلو حديث أو دراسة عن تاريخ ثقافة السود في الولايات المتحدة من إشارة إلى تجربة وتأثير الممثل والموسيقي والمسرحي والكاتب والمخرج السينمائي الأمريكي ملفين فان بيبلز (1932-2021).
وعلى الرغم من شهرته السينمائية الطاغية، خصوصًا بعد فيلمه الأيقوني Sweet Sweetback’s Baadasssss Song إنتاج 1971، الذي اعتبره النقاد لحظة مفصلية في ميلاد سينما السود المستقلة، فإن فهم إرث بيبلز لا يكتمل من دون قراءة تجربته في المسرح الغنائي، فعلى خشبات مسارح برودواي قدم أعمالًا مغايرة أعادت تعريف وظيفة مسرح السود الغنائي بوصفه وسيلة احتجاج ومنصة للفرح وأداة لتفكيك العنصرية إلى جانب كونه مساحة للترفيه.
وُلِد ملفين بيبلز في 21 أغسطس/آب 1932 في شيكاغو، إلينوي، ونشأ خلال الحرب العالمية الثانية، وتلقى تعليمه في مدرسة تاونشيب الثانوية في فينيكس، حيث تخرج عام 1949، وانتقل إلى جامعة أوهايو ويسليان وحصل على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي عام 1953.
انضم إلى القوات الجوية الأمريكية، والتقى زوجته ماريا ماركس، وبعد ثلاث سنوات ونصف غادر الجيش إلى المكسيك. وهناك مارس الرسم وأصبح أبًا، ثم انتقل إلى سان فرانسيسكو وعمل سائقًا لعربة تليفريك.
بسبب إحباطه، طُرد من وظيفته، وانتقل مع أسرته إلى هولندا في عام 1959، والتحق بجامعة أمستردام لدراسة علم الفلك، وهناك انضم لفرق المسرح الوطني الهولندي.
لقاء عفوي بسيدة سواء
ينتمي فان بيبلز إلى طائفة من المثقفين والفنانين السود متعددي الملكات على غرار جيمس بالدوين وزورا نيل هيرستون وتوني موريسون. فكما جمع هؤلاء بين الكتابة والسياسة والنقد الفني، انشغل هو بطيف واسع من الفنون: السينما، الموسيقى، المسرح، الأدب، والفن التشكيلي.
استهل مشواره الفني بالمشاركة في مسرحية الرهينة من تأليف بريندان بيهان، وعُرضت أولى مسرحياته الغنائية Ain't Supposed To Die a Natural Death على خشبة مسرح برودواي في 1971، وهو العام ذاته الذي عُرض فيه فيلمه الأيقوني Sweet Sweetback على شاشة السينما.
نسج بيبلز مسرحيته من سلسلة مونولوجات ومشاهد قصيرة تُعالج معضلات الحياة اليومية للعمال السود في نيويورك، ومن خلالها نجح في تطويع الفنون آليةً احتجاجيةً ضد التراتب العرقي السائد في المجتمع الأمريكي وقتها.
بعد نجاح عمله الأول، عرض بيبلز مسرحية Don’t Play Us Cheap، وهي عمل أكثر طموحًا من حيث الوسائط؛ فقد صُممت لتُقدَّم مسرحية وفيلمًا في آن واحد.
جاءت الفكرة الأساسية من تجربة شخصية عبر لقاء عفوي جمع بيبلز بسيدة مسنّة من أصل إفريقي مرّت بجواره بينما كان جالسًا على درجات منزله في مانهاتن السفلى.
بعد أن تعرف على المسنة دعته إلى احتفال كانت تُقيمه لابنة شقيقتها في حي هارلم الشهير في نيويورك حيث يتركز السود الأمريكيون. وتركت تلك المناسبة أثرًا عميقًا فيه، لما اتسمت به من دفء وكرم ودماثة، ومن هنا نبتت في ذهنه تساؤلات درامية؛ ماذا لو جرى تقويض صفاء هذه الليلة البهيجة على يد ضيف دخيل؟
ببراعة سردية معتادة، صاغ فان بيبلز القصة بدايةً في رواية باللغة الفرنسية تحت عنوان La fête à Harlem عام 1967، ثم ما لبث أن ترجمها إلى الإنجليزية، وحولها لاحقًا إلى فيلم ومسرحية غنائية. فبعد أن أنجز إخراج المسرحية التي عرضت أكثر من 160 مرة على برودواي ونالت ترشيحات لجوائز "توني"، طرح النسخة السينمائية في دور العرض، ليُسجل أول فيلم غنائي من إخراج مخرج أسود ضمن الحقبة السينمائية الحديثة.
جاء العرض المسرحي أكثر "كرنفالية" من سابقه؛ أزياء زاهية، أغانٍ تمزج بين الترانيم الكنسية وأغاني البوب والجاز، وسخرية لاذعة من الطبقة الوسطى السوداء التي حاولت أن تقلّد البيض وتفصل نفسها عن الجذور الشعبية.
مَثَّل استخدام فريق العمل نفسه في النسختين السينمائية والمسرحية برهانًا على المقدرة في التنقل بين الوسيطين بمرونة فنية عالية عبر حبكة بسيطة، لكن دلالاتها عميقة؛ فالحفلة ترمز للمجتمع الأسود في حي هارلم بكرمه وحيويته، والقوى الشيطانية تمثل العنصرية والانحلال، والحاضرون رغم فقرهم وتهميشهم يواجهون هذه القوى عبر الفرح والكرم والتضامن.
خلاف كثر من معاصريه، لم يضع فان بيبلز فاصلًا حادًا بين المسرح والسينما. كان يرى في كل وسيط فرصة لتجريب جديد. لذلك، حين أخرج النسخة السينمائية من Don’t Play Us Cheap، لم يكتف بتصوير العرض كما هو، بل أدخل مؤثرات بصرية وصوتية مثل التراكب بين الصور، الإضاءة القرمزية، التحولات الفانتازية للشخصيات من بشر إلى وطاويط إلى صراصير. ورغم محدودية الميزانية، بدا العمل حافلًا بالابتكار البصري.
هذا الجمع بين المسرح والسينما يعكس تعدديته الإبداعية، فهو المؤلف والملحن والمخرج في آن واحد، قادر على التحكم في النص واللحن والإخراج والإنتاج.
موهبة متفجرة
ما يميز تجربة فان بيبلز المسرحية أنه لم يكتف بتصوير الألم والمعاناة، إنما احتفى بالفرح الأسود كفعل سياسي لا لحظة بهجة عابرة. ففي مواجهة العنصرية والفقر، يصبح التمسك بالاحتفال والكرم والحب فعلًا من أفعال المقاومة.
هذا ما جعل نقاد حركة الفنون السوداء يرون في أعماله امتدادًا لخطاب Black Joy من حيث كونه خطابًا يوازن بين نقد العنصرية وبين الاحتفاء بطاقة الحياة عند السود، خصوصًا وأن أعماله ظهرت في سياق أوسع هو حركة الفنون السوداء/Black Arts Movement التي انطلقت في منتصف الستينيات، متقاطعة مع حركة القوة السوداء/Black Power ودعوتها إلى مسرح وأدب وموسيقى "ثورية" متجذرة في التجربة السوداء، بعيدة عن أطر النخبة البيضاء.
برز في هذا السياق أكثر من اسم مثل أميري براكا، أحد رموز الحركة، الذي دعا إلى مسرح "شعبي" يخاطب السود مباشرة، وإن اتسمت أعمال بالجدية الثقيلة واللغة الخطابية، على نقيض مسرح بيبلز الساخر المليء بالحيوية، الذي يمزج التهكم بالاحتفال، لذلك اعتبره النقاد أكثر قدرة على الوصول إلى جمهور أوسع، دون أن يتخلى عن رسالته الاحتجاجية.
لم يتوقف إبداع بيبلز عند السبعينيات، فأعماله أصبحت مرجعًا لأجيال لاحقة من المبدعين السود في المسرح الغنائي؛ من نتوزاكي شانج التي قدّمت عام 1975 مسرحيتها الشهيرة For Colored Girls Who Have Considered Suicide / When the Rainbow Is Enuf، إلى مايكل ر. جاكسون الذي فاز بالبوليتزر عن A Strange Loop من إنتاج 2020.
اليوم، حين يُكتب تاريخ المسرح في برودواي، لا يمكن تجاهل اسم فان بيبلز. صحيح أن شهرته السينمائية طغت على منجزه المسرحي، لكن إعادة النظر تكشف أن مسرحياته الغنائية شكّلت نقطة تحوّل؛ لقد نقلت قضايا السود من الهامش إلى قلب المسرح الأمريكي، ومنحتها صوتًا ساخرًا واحتفاليًا في آنٍ.
في زمن يُطرح فيه سؤال التمثيل والعدالة العرقية في الثقافة الأمريكية بقوة، تبدو أعمال ملفين أكثر معاصرة من أي وقت مضى، وتذكّرنا بأن المسرح الغنائي، الذي كثيرًا ما يُختزل في الاستعراضات الترفيهية، يمكن أن يكون ساحة للاحتجاج السياسي، وفضاءً لبهجة السود التي لا تقهر.