"والله أنا ما زعلان من إسلام" هكذا انتقد الرئيس عبد الفتاح السيسي، في يناير/كانون الثاني 2016، القبض على رسام الكاريكاتير، صاحب صفحة الورقة على فيسبوك، إسلام جاويش، وبالفعل أفرجت النيابة عنه بعد ساعات من توقيفه. لكن سعة الصدر تلك غابت عن تعامل السلطات مع رسام الكاريكاتير بـ المنصة أشرف عمر، الذي حبسته النيابة قبل أسبوع باتهامات من بينها الإرهاب ونشر أخبار كاذبة.
اختلف المشهد بين جاويش وعمر، فالأول قالت وزارة الداخلية إنها قبضت عليه لإدارة موقع إلكتروني دون ترخيص ولمخالفة قانون حماية الملكية الفكرية، قبل أن تُخلي النيابة العامة سبيله في مساء اليوم نفسه دون اتهامات.
أما الثاني، فيواجه تهمًا أشد خطورةً، على رأسها الانضمام إلى جماعة إرهابية، ونشر أخبار وبيانات كاذبة. وجهة التحقيق هي نيابة أمن الدولة العليا التي أمرت بحبسه 15 يومًا.
السيسي، الذي كان في عامه الثاني من الحكم وقت القبض على جاويش، أبدى عدم رضاه وقتها عن تعامل الأمن، وقال في مداخلة هاتفية مع برنامج القاهرة اليوم، الذي كان يقدمه الإعلامي عمرو أديب على قناة أوربت "والله لا أغضب من أحد. أصل لو أنا كإنسان عارف إن ربنا خلقنا لسنا مثل بعضنا البعض ولن نتفق أبدًا على شيء واحد، بما أن لدي هذه القناعة لن أغضب أبدًا من الآخرين. لا يوجد شيء اسمه بشر كلهم على قلب رجل واحد، هذا لم يحدث مع الأنبياء".
ولم يمنع انتقاد السيسي لفكرة توقيف رسام كاريكاتير بسبب أعماله وقتها استهداف اثنين من الرسامين في عهده من أصل 5 وقائع تمكّنا من توثيقها، لاحقت فيها السلطات عبر التاريخ فناني الكاريكاتير، ودفعت بهم إلى المحاكم والسجون.
على اختلاف الظروف، لاحق الحبس رسامي الكاريكاتير الذين انتقدوا السلطات المصرية عبر الزمن، فكانت أولى هذه الوقائع في عهد الملك فؤاد، وكانت بحق أول من احترف الكاريكاتير من المصريين وهو الفنان محمد عبد المنعم رخا.
وفي الوقت الذي شهدت فيه فترتا حكم الرئيسين جمال عبد الناصر والسادات اعتقال رسام الكاريكاتير زهدي العدوي بسبب توجهه السياسي ومشاركته في التظاهرات، سُجلت في عهد الرئيس حسني مبارك إحدى أبرز وقائع سجن الرسامين بسبب أعمالهم، التي كانت بحق الفنان عصام حنفي، بينما شهد عهد السيسي واقعتي جاويش وعمر.
أبو الكاريكاتير والعيب في الذات الملكية
في القرن الماضي، عام 1933، حُبِس أول من احترف هذا الفن من المصريين، محمد عبد المنعم رخا، الذي لُقب بـأبو الكاريكاتير المصري في دلالة واضحة على قدر الرجل وأسبقيته.
تجربة سجن رخا كانت قاسية وصادمة بالنظر للتهمة التي واجهها "العيب في الذات الملكية"، والتي أصر على إنكارها.
يرصد الكاتب شهدي عطية في مقاله بموقع باب مصر، بعنوان "رخا سجينًا"، أنه استُدعي للتحقيق أصلًا على خلفية رسمة في مجلة "المشهور" ضايقت رئيس الوزراء ووزير الداخلية وقتها إسماعيل صدقي، فقررت النيابة حبسه ثلاثة أيام، وكانت صدمته حينما أبلغه مأمور السجن أنه متهم في قضية جديدة بسبِّ الملك فؤاد.
أما ما تضمنته تجربة سجن رخا من قسوة فتجلت في معاقبة محكمة الجنايات له عن تلك التهمة بالسجن 4 سنوات مع الأشغال الشاقة، وهي العقوبة التي بدأ تنفيذها تاركًا طفله الأول، الذي لم يجاوز 4 شهور، ليكون بذلك أول سجين في تاريخ الكاريكاتير المصري، حسب الباحث عبد الله الصاوي، مؤسس مشروع ذاكرة الكاريكاتير.
وعن تفاصيل سجنه، يقول الصاوي "الحدوتة تعود إلى عام 1933 عندما تعرف رخا على رئيس تحرير مجلة المشهور، التي كانت في ذلك الوقت يدعمها في الخفاء زعيم الحركة العمالية عباس حليم، أحد أبناء الأسرة المالكة، الذي لم يكن على وفاق تام مع الملك فؤاد ولا مع رئيس وزرائه إسماعيل صدقي باشا".
ويضيف الصاوي في مداخلة للفيلم التسجيلي رخا المعلم الأول، الذي أنتجته جريدة فيتو قبل ثلاثة أعوام بمناسبة مرور 110 أعوام على ميلاده، "المجلة على طول الخط كانت تناهض وتعادي الحكومة، وأدى انزعاج صدقي من إحدى الرسومات المنشورة لرخا فيها إلى اتفاقه مع أحد عمال طباعة المجلة على أن يكتب كلمة على أحد أعداد المجلة مفادها فليسقط الملك كذا".
وفوجئ رخا بعدها باتهامه بالعيب في الذات الملكية "ودي طبعًا كانت تهمة مصيبة، وكانت ذات التهمة التي وجهت لعباس العقاد في نفس الوقت بعد تطاوله على الملك فؤاد في قلب البرلمان بسبب دستور 1923" وفقًا للصاوي، الذي أردف "برغم كونهم الاتنين صحفيين، العقاد اتحكم عليه بـ9 شهور، ورخا اتحكم عليه بالسجن 4 سنين".
وزاد مَلك الموت من مأساة رخا، حسب رسام الكاريكاتير عماد جمعة، الذي أشار إلى أن وفاة الملك فؤاد منعته من التصديق على قرار عفو كان مقررًا صدوره بحق رخا لقضائه ثلاثة أرباع مدة سجنه، وهو ما اضطره إلى قضاء الأربع سنوات كاملة. ونُقل عنه في فيديو لقناة النيل الثقافية قول رخا "أنا لم أعِب في الذات الملكية، هي بطولة لا أدعيها، وتم تلفيق هذه التهمة لي".
زهدي.. وريث رخا حتى في السجن
وخلال القرن الماضي أيضًا، امتدت مطاردة السلطة لرسامي الكاريكاتير لتطول زهدي العدوي، وريث رخا في المهنة والسجن أيضًا، وحسب فنان الكاريكاتير الراحل محمد حاكم، كان زهدي يعتبر رخا ولي أمره، حيث قال في أحد اللقاءات "هم كانوا قريبين من بعض في سنهم، لكن زهدي كان يعتبر نفسه الابن الشرعي لعم رخا".
وتشير بعض المقالات التي تناولت مسيرة زهدي إلى اعتقاله 3 مرات، كانت أولاها عام 1935 بسبب نشره بعض الرسومات التي جسدت تظاهرات الطلبة ضد الإنجليز أعلى كوبري قصر النيل، حيث رفع الطلاب المتظاهرون لوحاته كلافتات بمظاهراتهم، ليُقبض عليه على أثر ذلك، ويقضي في السجن عامًا كاملًا، وفق مقال "زهدي في السجن" للكاتب شهدي عطية بموقع باب مصر.
أما تجربتا الاعتقال الأخريان فكانتا بسبب توجهه السياسي الشيوعي، إذ كانت أولاهما عام 1959 في أعقاب صدام جمال عبد الناصر الشهير مع الشيوعيين، وامتد سجنه فيها لنحو 5 سنوات، حسب عطية، فيما كان سجنه الثالث والأخير عام 1977 على خلفية انتفاضة الخبز وأحداث 18 و19 يناير/كانون الثاني من ذلك العام.
عصام حنفي.. ازدراء القانون
بعد مرور نحو ربع قرن على تجربة سجنه جراء نشره عام 1999 رسومًا كاريكاتيرية تنتقد سياسة التطبيع الزراعي مع إسرائيل، التي أقرها يوسف والي أبرز وزراء حسني مبارك، أعادت أخبار حبس أشرف عمر المشاهد القاسية إلى ذاكرة الفنان والصحفي عصام حنفي.
"رحلتنا متشابهة.. هو خريج صيدلة وأنا خريج علوم كيمياء، وكلانا اشتغل بالكاريكاتير، واحنا الاتنين اتحبسنا علشان رسوماتنا"، يقول حنفي لـ المنصة ضاحكًا، قبل أن يؤكد بجدية "أسوأ دعاية ممكن تتعمل لدولة إنه يتحبس فيها رسام كاريكاتير".
وبأسى شديد، يتذكر حنفي ما لحق به من تنكيل لما يزيد على 3 أعوام في الفترة ما بين أواخر 1999 و2002، بسبب حملة صحفية شنّتها جريدة الشعب، التي كان يعمل بها في تلك الفترة على التطبيع الزراعي مع إسرائيل الذي كان يتبناه يوسف والي، وزير الزراعة الذي كان يشغل نحو سبعة مناصب في الدولة والحزب الوطني وقتها.
أكد حنفي أن فكرة الحملة كانت قائمة على أنه "أي تعامل مع الصهاينة بيضر الاقتصاد والصحة، بالإضافة إلى أنه كان فيه كلام كتير أيامها عن المبيدات المسرطنة"، لافتًا إلى مشاركته في الحملة برسوم كاريكاتير تنتقد سياسات والي.
وتابع "فوجئت و3 من زملائي بإحالتنا للمحاكمة أمام محكمة الجنايات بتهمة السب والقذف، وصدر ضدنا في أول درجة حكم بالحبس سنتين و 11 ألف جنيه غرامة، وبعد حبسنا قبلت محكمة النقض الطعن على العقوبة وألغتها، وقررت إعادة محاكمتنا من جديد ليصدر ضدي حكم بالحبس سنة والغرامة، ورفضت محكمة النقض طعننا على الحكم الجديد وأيدته".
وفضلًا عما عاناه من استهداف وحبس، يؤكد حنفي أن محاكمته شهدت الكثير من التجاوزات في سير العدالة "كان فيه روح انتقامية في الأداء القضائي وفي التنفيذ دفعتني للإضراب عن الطعام مع الكاتب الصحفي مجدي حسين رئيس تحرير الصحيفة، واللي كان متهم معايا في نفس القضية".
ويتوقف حنفي عند واقعة القبض على الزميل أشرف عمر، ليؤكد أن الأنظمة لا تُدرك أنها ترحل بينما تبقى وقائع استهداف الفن وحرية التعبير شاهدة على عصورها.
يربط حنفي بين ما تعرض له من سجن وتنكيل بسبب عمله وبين حصوله على جائزة الشجاعة في الكاريكاتير من الشبكة الدولية لرسامي الأطفال عام 2000، مؤكدًا أن حظه كان أوفر من عُمر الذي يواجه اتهامات بالإرهاب من نيابة أمن الدولة العليا، بينما تمت محاكمته هو أمام قاضٍ طبيعي في محكمة الجنايات، وواجه اتهامات اعتيادية كالسب والقذف.
كما يؤكد حنفي أن التنكيل والازدراء ظلا ملازمين له حتى انتهاء مدة عقوبته، حيث استغرقت إجراءات إخلاء سبيله وقتها أسبوعًا كاملًا "يحيى قلاش اللي كان وكيل النقابة وقتها لما سألته ليه كل ده؟ قال لي بسخرية علشان أنتم مهنة خطر"، مؤكدًا أن ما حدث معه كان له بالغ التأثير على جيل رسامي الكاريكاتير وقتها الذين امتنعوا عن الاقتراب برسوماتهم من أي مسؤول.
وتمنى حنفي أن تتراجع السلطات عن التنكيل بعمر، لأنها "مسألة مسيئة جدًا، خاصة إنه فنان وله خطوط واعدة وبصمة مميزة".
جاويش وعمر.. بين انتقاد الرئيس وصمته
لم تطل مدة توقيف رسام الكاريكاتير إسلام جاويش، الذي انتقد الرئيس القبض عليه في 2016، فبينما أُلقي القبض عليه مساء الأحد 31 يناير/كانون الثاني، أخلت النيابة سبيله في مساء اليوم التالي، بعد انتهاء تحريات الأمن الوطني وقتها إلى عدم إدانته.
وفي الوقت الذي نفى فيه مصدر قضائي حينها لـموقع اليوم السابع مواجهة جاويش أثناء التحقيقات بأي اتهامهات تتعلق بإهانة النظام أو الرئيس، قال محاميه محمود عثمان لـموقع الشروق إن النيابة وجهت إليه تهمة نشر محتوى على موقع الورقة بدون ترخيص، علمًا بأن القبض على جاويش تزامن مع نشره رسومات تنتقد تعامل السلطات مع فعاليات إحياء ذكرى ثورة 25 يناير، وأداء مجلس الشعب وقتها.
وبينما لاقت واقعة القبض على جاويش والتحقيق معه إدانات عدد من الأحزاب والشخصيات العامة وقتها، إذ وقّع على بيان يطالب بالإفراج الفوري عنه 8 أحزاب سياسية و46 شخصية عامة، نوقشت واقعة القبض على رسام الكاريكاتير أشرف عمر في جلسة الحبس الاحتياطي التي عقدتها الأمانة الفنية للحوار الوطني الذي ترعاه الدولة وعلى رأسها رئيس الجمهورية.
ورغم تنديد عدد من المشاركين خلال الجلسة بحبس أشرف، وعلى رأسهم نقيب الصحفيين خالد البلشي، فإن السؤال يبقى مطروحًا.. هل ما زال صدر الرئيس يتسع لما تتضمنه رسومات الكاريكاتير من نقد، كما جرى التعامل مع جاويش في 2016، أم سيظل عمر في دائرة الحبس الاحتياطي المفرغة؟