عندما تولى محمد على حكم مصر عام 1805، لم تكن هناك دولة ولا وطن بالمعنى الحديث، وإنما حالة من الفوضى والفراغ السياسي، أعقبت خروج الفرنسيين من مصر بعد حملتهم الفاشلة التي استمرت من 1798 إلى 1801، بعد أن تآكلت قوة المماليك وسلطة ولاة الدولة العثمانية اللذين تقاسما السلطة قبلها.
أُنهِك المماليك على وقع الضربات الفرنسية في إمبابة والصالحية والصعيد وغيرها، فأصبحوا بعد خروج "الفرنسيس" مجرد عصابات تقاتل بعضها بعضًا. يتحالف البرديسي مع محمد علي والألفي مع الإنجليز، ويتقاتلون في الوقت نفسه مع العثمانيين الذين وهنت قوتهم، في سبيل السيطرة على البلاد.
على هامش هذا الصراع، ارتفع شأن طوائف مهن الصناع والتجار وشيوخ الأزهر وطلابه مع مقاومة الحملة الفرنسية، فيما ظل الفلاحون يبذلون جهدهم فقط للبقاء على قيد الحياة، في ظل هذا الصراع الضاري بين الشعب وتلك الفرق المسلحة.
بفطنته ودهائه، أدرك محمد علي أن الكلمة الأخيرة في هذا الصراع ستكون لشيوخ وزعماء الشعب الذين واجهوا جبروت بونابرت، فسعى لاستمالتهم ودافع عنهم، حتى أزاحوا الوالي العثماني خورشيد وأجلسوه على كرسي الولاية.
مصر تفتح عينيها بالعَلَام
ولما كان الوالي الجديد يفكر في تأسيس دولة حديثة، أدرك أن السبيل لمواجهة الفوضى وحالة الضياع التي تعيشها البلاد سيكون بالتعليم وحده. فبمجرد أن استتب له الأمر وانفرد بالحكم، أرسل أولى بعثاته التعليمية إلى إيطاليا عام 1811، لتعلم الفنون والصناعة وسبك الحديد وغيره من المعادن.
ثم راحت بعثاته تتوالى إلى فرنسا والنمسا لتعلُّم مختلف العلوم الحديثة واللغات، ومن بينها تلك التي تولى إدارتها والإشراف عليها الشيخ الفذ رفاعة الطهطاوي عام 1826، حيث تشرَّب في فرنسا الروح القومية الفرنسية التي وضع أسسها جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي، مرجع الدولة الحديثة والحكم الدستوري وحقوق الإنسان والمواطنة.
ظهر تأثر الطهطاوي بما وجده هناك واضحًا في كتابه الأشهر تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الذي ترجم فيه الدستور الفرنسي إلى العربية. يؤسس رفاعة للوطن بمفهومه الجديد، باعتباره رابطة سياسية وثقافية واجتماعية شاملة، تجمع مختلف السكان بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية.
ومن تلك البعثات أيضًا، البعثة التي ذهبت إلى فرنسا عام 1849 واشتهرت باسم بعثة الأنجال، لأنها ضمَّت عددًا من أبناء وأحفاد محمد علي، من بينهم من سيصبح لاحقًا الخديو إسماعيل، بالإضافة إلى بعض نابغي المهندس خانة على رأسهم علي مبارك.
كما أرسل محمد علي بعثات عسكرية متنوعة، وأنشأ العديد من المدارس الحربية كالفرسان والمشاة والمدفعية، وأركان الحرب والمدرسة البحرية، إلى جانب المدارس المدنية العالية في مختلف المهن والفنون: المهندسخانة والطب والطب البيطري والتجاره والزراعة والألسن، ومدرستان لتعليم الموسيقى، بالإضافة للمدرسة التجهيزية بالقاهرة والإسكندرية وأكثر من 50 مدرسة ابتدائية في أنحاء البلاد.
كل ذلك كان بالمجان، بل أنفقت الدولة على إقامة الطلاب وكسوتهم وطعامهم ومنحت جميعهم مصروفًا شهريًا، والمتفوقين مكافآت مالية إضافية، حتى تجاوزت ميزانية التعليم في عهد محمد علي الربع مليون جنيه، في وقت كانت فيه ميزانية الدولة كلها أربعة ملايين جنيه.
إلى جانب كل هذا، ساهم التعليم في عهد محمد علي في وضع الأساس الاجتماعي للطبقة الوسطى من الأفندية والمثقفين، الذين كانوا نواة الروح القومية في مصر وقادة الوعي السياسي وبناء الدستور والقانون والأحزاب، والجامعة الحديثة، والنقابات والحركات الاجتماعية، وأساس النهضة الحديثة في الأدب والشعر والموسيقى والغناء والمسرح، والفنون التشكيلية بأشكالها المختلفة.
في عهد الخديو إسماعيل فُصلت نظارة المعارف عن نظارة الجهادية، وأُنشئت المدرسة السنية، أول مدرسة لتعليم الفتيات، عام 1873، فعرفت البنات طريقهن إلى المدارس. كما سمح للمؤسسات الدينية؛ الأزهر والكنائس، وأيضًا أبناء الجاليات الأجنبية، بإنشاء المدارس العامة على اختلاف مراحلها، وتأسست دار الكتب.
هكذا ارتبطت البلاد بالعصر وبالثقافة الحديثة، وشهدت نهضة صحفية هائلة، وبدأت تظهر فيها مدارس الفكر والسياسة والأدب.
كما سعى الخديو إسماعيل لتأسيس مشروع يهدف إلى نشر التعليم بمصر كلها، مستعينًا بزميل بعثة الأنجال علي مبارك، الذي شكل لجنة سنة 1868، سميت قومسيون المعارف، سعت إلى بناء مدرسة ابتدائية في كل قرية يزيد عدد سكاها عن خمسة آلاف نسمة، وإن حال تسارع الأحداث دون إتمام المشروع، إذ سقطت مصر في قبضة الاحتلال.
.. وتقاوم الاحتلال بالمعرفة
بعد احتلالهم مصر عام 1882، سعى الإنجليز إلى تضييق فرص التعليم المجاني، لكنَّ مختلف القوى السياسية وفي مواجهة هذه السياسات، وضعت التعليم على رأس أولوياتها، فسعت لإنشاء المدارس المجانية والفصول المسائية لتعليم العمال، لتتوَّج الجامعة المصرية "الأهلية" هذه الجهود الوطنية في مواجهة السياسة التعليمية للاحتلال.
وبعد ثورة 1919، وجدت مجانية التعليم طريقها إلى دستور 1923 وإن قصرها على التعليم الأوَّلي. وفي تلك الأثناء اشتعلت معركة الكم والكيف في التعليم، إذ انقسمت الآراء بين من يريد قَصْر التعليم على فئة قليلة تتعلم تعليمًا ممتازًا وتقود المجتمع بعد ذلك، وعلى رأس هذا الفريق إسماعيل القباني الذي سيتولى وزارة المعارف لاحقًا بعد ثورة يوليو، يشارعه ويجادله اتجاه آخر على رأسه طه حسين، يرى أن التعليم المجاني حق لكل الناس "كالماء والهواء".
زادت أعداد المدارس بمختلف مراحلها والطلاب زيادة هائلة، وفي عام 1925 تحولت الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية عظيمة تقف على قدم وساق مع جامعات كامبردج والسوربون، فيفخر من تخرج منها من الأجانب، ودخلتها الفتيات لأول مرة بعد الاتفاق بين طه حسين ولطفى السيد سنة 1928.
ثم امتدت مجانية التعليم للمرحلة الابتدائية سنة 1944 مع توحيده مع التعليم الأوَّلي، حتى أقرها طه حسين للمرحلة الثانوية مع وزارة الوفد الأخيرة سنة 1950.
وهكذا عرفت البلاد نهضة اقتصادية هائلة، فعلى أكتاف خريجي هذه الجامعات قامت الشركات والمؤسسات التي تأسست قبل الثورة، وعرفت مصر الفنون الرفيعة موسيقى وغناءً ومسرحًا وسينما وتصويرًا ونحتًا، كما عرفت الأحزاب والجماعات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتنوعت فيها مدارس الفكر والثقافة والأدب، التي عبرت عنها عشرات المجلات والصحف.
وفي ظل ثورة يوليو 1952، تقررت سنة 1961 مجانية التعليم الجامعي والعالي، فشملت مجانية التعليم كل مراحل التعليم من الابتدائي حتى مرحلة الدكتوراه، وزادت أعداد الطلاب من البنين والبنات نتيجة ارتفاع مستوى معيشة الناس، والمكتسبات الاجتماعية التي تحققت فى ظل الثورة، ولم تعد هناك مدارس خاصة ولا دروس خصوصية.
ومع تلك المجانية مع الدولة على مبدأ تكافؤ الفرص والعدالة التربوية، أصبح التعليم أهم أدوات الحراك الاجتماعي والانعتاق من نفق الطبقية المظلم، الذي ران على البلاد لمئات السنين. فقد أصبح خريجو الجامعات والمدارس أساسًا للتنمية المستقلة وخططها الناجحة، وهم من بنوا بسواعدهم المشروعات الكبرى كالسد العالي، وأسسوا نهضة صناعية امتدت من أسوان للإسكندرية، مرورًا بحلوان والتبين وشبرا الخيمة والمحلة والسويس وغيرها.
كما كانوا أساس استيعاب تكنولوجيا السلاح والحرب، سواء في حرب الاستنزاف التي أعقبت هزيمة يونيو، أو أثناء الاستعداد للحرب الفاصلة وعبور قناة السويس، حتى الانتصار في معركة الشرف والكرامة عام 1973.
هذا ما فعله التعليم في مصر، عندما كانت قبل قرنين بلدًا ضائعًا وتائهًا يعيش أهله على هامش العالم، وهو نُفسُ فِعلِه في ماليزيا وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وغيرها من الدول التي سُميِّت بالنمور الآسيوية، لتمييزها بما شهدته من نهضة وتنمية اقتصادية هائلة في سنوات قليلة، فأصبحت تحتل مواقعَ متقدمة بعد أن تركتها الحرب العالمية الثانية بلدانًا متخلفة طال التدمير كل مرافقها.
غير أن هذا التعليم الذي ينهض بالدول لا بد أن تتوفر له ميزانية كافية من الإنفاق الحكومي، وأن يكون مرتبطًا بمشروع نهضة قومي شامل، بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وأخيرًا أن يكون مرتبطًا بأحدث منتجات العصر والنظم التعليمية المتقدمة، من مبادئ وأهداف ومناهج ومعلمين وتكنولوجيا وإدارة وتقويم وأنشطة.
فأين نحن من كل هذا؟